2011/12/22
بين التسلل والتسفير ركلات وشتائم

بينما كنت أترقب بشغف ليلة الاثنين (9 ديسمبر 2011) مباراة ريال مدريد وبرشلونة كان شقيقي الأصغر يقطع جبل «القهر» الواقع في منطقة صعدة بقدمين شبه عاريتين باتجاه السعودية، حيث يعتقد أنه سيحقق جزءاً من حلمه الذي يتمثل في زوجة وبيت صغير وبعض النقود التي ستوفر له السعادة.


 الرحلة نحو المجهول محفوفة بالمخاطر الجمة، فبالإضافة إلى البرد القارس والتضاريس الجبلية الوعرة، هناك ما يهدد حياة المتسللين، فقد يباغتهم جندي من حرس الحدود بإطلاق النار ويقتل آمالهم وأحلامهم، وربما يتعرضون للحرق كما حدث في خميس مشيط قبل أعوام في الحادثة الشهيرة التي خلفت جروحاً يصعب على الزمن محو آثارها، فقد كانت بالفعل نموذجاً مصغراً للهولوكوست.


قبل سفر شقيقي الصغير (20 عاماً) بيوم صادف أن التقيت الشاب منير العائد لتوه من رحلة مماثلة، إلا أن حظه العاثر حال دون تمكنه من التسلل إلى الأراضي السعودية.


كان منير يبدو في حالة مزرية، ويبدو عليه الإنهاك والتعب الشديد، بعد وجبة غداء غير دسم تناولناه معاً في ساحة التغيير. اتفقت مع منير أن يشرح لي تفاصيل رحلته، وكيف عاد إلى صنعاء «أشعر بأني خيبت ظن والدي لقد كان يعول على دخولي إلى السعودية كثيراً» يقول منير حيث كان يجلس في وضع القرفصاء وهو يمضغ القات ويواصل «يشعر الانسان بالحسرة عندما ينفق 22 ألف ريال آملاً الذهاب إلى ما وراء الحدود للحصول على عمل وجني المال، ثم يعود خالي الوفاض يجر تعاسته معه».


طلبت من منير (الذي تعكس عيناه الزرقاوان وشعره الأشقر وسامة لم تطمسها متاعب الرحلة البائسة) أن يشرح لي رحلته من البداية فحاول استرجاع تفاصيل الرحلة.. يقول «غادرت بمعية ثلاثة من أبناء قريتي من صنعاء وجهتنا محافظة صعدة حيث ستكون نقطة الانطلاق نحو الرياض.. وهناك كان ينتظرنا شخص يدعى «أ. ش» وهو الذي سيقوم بالترتيب للرحلة إلى الرياض عبر شبكة من المهربين اليمنيين والسعوديين مقابل 1500 ريال سعودي على الشخص الواحد».


لكن المتاعب كانت في استقبالهم من أول محطة وهم لم يغادروا بعد حدود البلاد. يستطرد «وصلنا إلى محافظة صعدة منهكين من وعورة الطريق وكثرة نقاط التفتيش التي يسيطر عليها بالطبع الحوثيون. في المدينة طلبنا أن نأخذ قسطاً من الراحلة في فندق السلام، إلا أن العامل في الفندق رفض استقبالنا طالباً منا تصريحاً، وكانت المفاجأة أكبر إذ لا يمكننا النوم الا بتصريح من الحوثيين بحسب تأكيد موظف الاستقبال بالفندق.


«لم يكن أمامي خيارات كثيرة» يعقب منير ويشرح رحلته في الحصول على رخصة للنوم، وهو لا يزال في بلده، وكيف انه ورفاقه اعتبروا هذه الحادثة مؤشراً على ما ينتظرهم من متاعب وسوء حظ، يقول «ذهبت إلى أشخاص مسلحين منظرهم مزرٍ وشعرهم طويل، ويبدو أنهم لم يغتسلوا منذ فترة .. طلبت منهم تصريح إقامة في فندق السلام مع رفاقي لكنهم كانوا ينظرون إليّ بازدراء وكأنني خصم قديم».


طلبه قوبل بالرفض وانتهى نقاشه معهم بعبارة حاسمة صرخ بها أحدهم في وجهه «اسكت خلاص ما فيش نوم بالفندق يعني ما فيش، سير فندق الإمارات» ليعود منير إلى أصدقائه يبشرهم بليلة سيقضونها معا في العراء.. يعلق «بالفعل هناك في صعدة لا كلمة تعلو على كلمة الحوثيين، وبالطبع نمنا في العراء كانت ليلة صعبة وشاقة».


 في اليوم التالي كان على المجموعة أن تجتاز الحدود السعودية مغادرة عبر جبل القهر، وهو آخر منطقة يمنية من بعده منطقة جيزان السعودية «سلمنا المهرّب الأول لمهرّب آخر على متن سيارة هايلوكس، كنا نركب فيها تارة ونترجل تارة أخرى لقطع بعض المناطق سيراً على الأقدام. بعد حوالي 7 ساعات من السير على الأقدام وصلنا إلى جبل كبير لا أدري ما اسمه، تسلقناه بصعوبة بالغة لوعورته التي تحتم عليك حشد كل مهاراتك في التسلق».


ويواصل «بعد ثلاثة أيام من السير ما بين الصحراء والجبال حدث أمر ينذر بالشؤوم. لقد استنفدنا كل ما بحوزتنا من طعام وشراب، ولا نعرف أين نحن ولا كيف سنبلغ وجهتنا، بتنا تحت صخرة عملاقة والبرد يكاد يقتلنا والجوع لا يرحم، استيقظنا على وقع أصوات أقدام كثيرة، فتحت عيني ورأيت ما كنت أرجو أن لا يحصل أبداً: إنهم حرس الحدود. وقفنا مذعورين وبدأ جندي بالترحيب بنا: «هلا والله ..... حياكم الله.. من وين جايين؟» «من اليمن» أجابه صديقي تفضلوا معنا قال الجندي. كانت ضيافة غير مرغوب فيها. يحدثني منير ضاحكاً. ثم يواصل: كنت أمشي أمام أحد الجنود آمناً فضربني على ظهري حتى أوقعني على الأرض بدون أي سبب، وكلمات الازدراء والتهكم تنزل علينا كالمطر، اقتادونا على متن طقم عسكري إلى السجن ثم بدؤوا بالتحقيق معنا: من أنتم؟ وش جابكم... إلخ».


يبدو ان أفراد حرس الحدود الذين ملوا مطاردة اليمنيين المتسللين عبر الحدود أصبحوا يشعرون بالقرف تجاه مهمتمهم وتجاه ضحاياهم، وبالتالي يخاطبونهم بكلمات وشتائم دون مراعاة لأي جوانب إنسانية. يقول منير إن الجندي استحضر كل ما يخطر بباله من شتائم قائلا لهم «أنتم حيوانات لماذا تدخلون أرضنا هل هي ملك لأبتكم يا كلاب».


كل شخص يمر بالمحقق يأخذ نصيبه من الصفع والركل والشتائم. كان النصيب الأخير منها لشاب من تعز. يقول منير عندما سأله المحقق: من أين أنت؟ وأجابه: من تعز، فأخذ يهنيه ويضربه وهو يقول «من تعز أنتو تبغون ثورة يا كلاب يا حيوانات».


بعد الانتهاء من التحقيق أدخلونا سجناً مكتظاً باليمنيين يبلغ طوله حوالي 6 أمتار وكان عدد السجناء 123 سجيناً بينهم شخصان من الصومال.. كان ذلك السجن يعج باليمنيين ذوي الوجوه البائسة.


ثلاثة أيام قضاها منير ورفاق رحلته في السجن، يقول إنهم لم يكونوا يستطيعون أن يمدوا أرجلهم لضيق المكان وكثرة المسجونين، وغذاؤهم طوال فترة الاحتجاز بحسب منير «لكل واحد حبتين خبز فقط في اليوم والليلة».


يقول منير «إذا ما فكرت في الذهاب إلى السعودية، يجب عليك أن تتخلى عن كرامتك عند أول خطوة في الأراضي السعودية».. اقتادونا بعد ذلك على متن حافلتين قديمتين يرجع تاريخ صنعهما للسبعينات إلى الحدود اليمنية السعودية، مع وابل من التهديد والوعيد بعدم التفكير ثانية بالتسلل إلى أراضيهم، ما لم فإن العاقبة ستكون وخيمة لاسيما بعد أن أخذوا بصمات لثمان من أصابع اليد وبصمات العينين لكل فرد متسلل.


لا يفكر منير أبداً بالعودة إلى السعودية مهما كان السبب، ولو حتى بطريقة رسمية، إذ إنه ليس هناك ما هو أجمل من الوطن.. حتى لو كانت المعيشة فيه قاسية لكنها أرحم من إهانات الحرس وصفعهم، كما أنه متفائل كثيراً بتشكيل حكومة الوفاق الوطني باعتبارها مؤشراً للانتقال الى عهد استقرار يطمح ان يتحقق له فيه مستقبل أفضل يعيش فيه حراً كريماً.


عاد شقيقي بعد ستة أيام من محاولة الدخول إلى الأراضي السعودية فاقداً كل أحلامه التي حملها قبل ان يغادر البلاد باتجاه مملكة النفط، ليروي قصة رحلته البائسة التي لا تختلف تفاصيلها كثيراً عن قصص من سبقوه.

تم طباعة هذه الخبر من موقع الثورة نت www.althawra-news.net - رابط الخبر: https://althawra-news.net/news103995.html