2011/04/30
العلمانية واحتياجات الأمة (1_2_3_4_5)


حلقات من بحث يحمل هذا العناوين آمل أن يثير حوارا بين الأخوة المهتمين باحتياجات الأمة العربية ومستلزمات نهوضها ، وأتطلع الى تلقي ملاحظات الأخوة لتضمينها هذا البحث حين صدوره كتابا

د. مخلص الصيادي

الحلقة الأولى : التعريف بالعلمانية

مقدمة عامة

منذ أكثر من قرن من الزمن والعلمانية قضية راهنة ، قائمة ومعركة ، يعلو ضجيجها يخفت أو ، لكنه مستمر ، ومنذ الربع الأخير من القرن المنصرم فإن الصراع حولها بدأ يطفو على السطح ، بل وصار عنوانا بارزا من العناوين التي تتشكل حولها الحياة السياسية والثقافية في مجتمعنا العربي ، وكذلك في المجتمعات الإسلامية

وفي خضم هذا الصراع التبست واشتبكت قضايا عديدة ذات شأن في حياتنا ومستقبلنا تمثل في مجموعها مفاهيم بناء الدولة الحديثة أو ما يتصل بها مثل : المواطنة ، والانقسام القومي ، الديموقراطية ، الحزبية ، النظام الجمهوري ، حقوق الإنسان... الخ ووضعت وما تزال جهود حثيثة لقسم حياتنا الثقافية والسياسية إلى شطرين رئيسيين لا صلة بينهما غير العداء والصراع : علماني وغير علماني ، فما كان علمانيا فإن أوصافا وأحكاما جاهزة تطلق عليه ، وما كان غير ذلك فإن له أوصافه وأحكامه

هذا البحث يمثل محاولة للتعرف على طبيعة هذه المشكلة : على طبيعة العلمانية ، وعلى طبيعة مفاهيم الدولة الحديثة ، وذلك في مستوييها التاريخي النظري ، التطبيقي والعملي ، وهو يستند إلى قاعدة فكرية منهجية رسخها الفقه الإسلامي حينما اعتبر أن "الحكم على الشيء جزء من تصوره "أي أن الحكم على أي مسألة تابع لمعرفة هذه المسألة ولصحة هذه المعرفة ، فإن وقع خلل في هذه المعرفة فإن من المؤكد أن يقع الخلل في الحكم الصادر عليها ، وفي التقييم لها والتقييم شكل من أشكال الحكم

وينتمي البحث في مجمل هذه الموضوعات ، إلى فرع العلوم الإنسانية ، وبالتالي فإن تحقيق الموضوعية والحياد وهما شرطان في أي بحث علمي محدودا يبقى ، وهذه طبيعة الإنسانية العلوم ، وهو ما يفرقها منهجيا عن الطبيعية العلوم ، وهو أيضا ما يعطيها غنى دائما إذ يسمح بإعادة النظر باستمرار في نتاج ونظريات هذه العلوم ، في حين أن هذا غير متاح في العلوم الطبيعية ،

إن هذا لا يعني أن العلوم الإنسانية تفتقد إلى معنى العلم والى خصائصه ، وإنما يعني بدقة أن للعلوم الإنسانية طبيعة خاصة لا بد من إليها الانتباه ، وأن الانتباه إلى هذه الطبيعة من شأنه أن يعطيها آفاقا من الغنى لا لغيرها تتوفر ، تماما كما أن عدم الانتباه إلى هذه الطبيعة وإنزال هذه العلوم منازل العلوم الطبيعية يحولها إلى قيد ، والى سجن تهون أمامه كل القيود الأخرى والسجون ، لأنه يأسر الإنساني الفكر ، ويحكم على الحياة بالجمود الإنسانية ، والتوقف ، وبالتالي بالانفجار والتآكل ، وهنا بالتحديد نسترجع مقولة فقهائنا الأوائل : ما نقوله صحيح يحتمل الخطأ ، وما يقوله الآخر خطأ يحتمل الصحة

وعلى طريق توفير الأساس العلمي للبحث في العلوم الإنسانية فإن الأفكار ، والآراء ، والنظريات ، التي يجري البحث فيها يجب أن تقدم من مصادرها الأصيلة ودون اقتطاع يخرجها من سياقها وبالتالي يحملها ما ليس من طبيعتها ، وإذا كنا نتحدث عن معسكرين : مع وضد هذه الأفكار فإن أهم خطيئة في البحث العلمي أن يقدم الباحث رؤيته للمسألة محل البحث ثم يفترض أن هذه الرؤية هي التعبير الحقيقي ، والبسط الموضوعي لهذه المسألة ثم يذهب إلى وتفنيدها نقدها ، وفي مثل هذه الحالة فإن عمله ينتمي إلى الهوى ، والى مفهوم العمل الدعائي وليس إلى العلم ، لأن ما يكون قد قام بنقده ، هو تصوره الشخصي للمسألة البحث محل ، وليس لحقيقة هذه المسألة وجوهرها ، وفي تراثنا الفكري فإن التعرف إلى الأفكار والنظريات يجب أن يستند إلى مصادرها ، ويجب أن تقدم هذه الأفكار والنظريات كما هي عند أصحابها قبل أن يصار إلى تحليلها ونقدها

ثم إن لكل فكرة ، أو نظرية اجتماعية ثلاثة مستويات لابد من التدقيق ومتابعتها فيها ، حتى يكون التقييم والحكم صحيحا :

** مستوى يخص المفهوم الذي يمثل الأساس الجوهري لهذه المسألة ،

** ومستوى يخص السياق التاريخي لبروز هذه المسالة ونضوجها ،

** ومستوى يخص الوضع الراهن لها ،

وفي كل من هذه المستويات تحدث تجليات وتطوير لا يجوز إهماله.

إن سياق أي فكرة ، أو نظرية ذو أهمية بالغة في طبيعتها فهم ، وذو أهمية خاصة في تفهم نطاقها ، ووضع السياق في شروط البحث العلمي هو المعادل الموضوعي للتنبه لبيئة المسألة محل البحث في العلوم الطبيعية ولعلنا نستذكر هنا أن الانتباه إلى السياق : اللغوي أو التاريخي أو الجغرافي ، من أهم ما يجب مراعاته في فهم النص القرآني ، أو الحديث النبوي.

إني أفترض أن في بحثي إشكالية العلمانية ومفاهيم بناء الدولة الحديثة ألبي وأقدم جهدا نظريا يحتاجه الفكر العربي ، وأدعو الله جل وعلا أن يجعله على طريق الحق والصواب وأن يتقبله ، ويضعه في ميزان الحسنات إنه عليم سميع.

د. مخلص الصيادي

متن الحلقة الأولى : التعريف بالعلمانية

ماذا تعني العلمانية؟ الجواب على هذا السؤال يجب أن نبحث عنه أولا عند العلمانيين أنفسهم كيف صاغوا ، العلمانية وقدموا ، وكيف فهموها وتطلعوا إليها

في كل بحث عن العلمانية سوف يواجهنا حديث عن اشتقاق هذه الكلمة في اللغة العربية ، هل هي مشتقة من العلم وبالتالي هي علمانية العين بكسر ، أم أنها مشتقة من العالم وبالتالي هي علمانية بفتح العين

الدكتور عادل ضاهر في كتابه "الأسس الفلسفية للعلمانية" يرجعها إلى العلم باعتبار هذا هو الاشتقاق الأسلم

والدكتور عزيز العظمة في كتابه "العلمانية من وجهة نظر مختلفة" يرجعها إلى العالم ، والكتابين من أهم المراجع العربية في التعرف إلى العلمانية من داخل العلماني الصف ، ولا شك أن هناك فارقا في المفهوم بين الاشتقاقين ، إذ أن إرجاعها العلم إلى ، يعني أن العلماني هو الذي يعتمد على العلم في فهم العالم ويدع ما سواه ، والعلم هنا هو ما يعرف بالعلم المادي ، أما إرجاعها إلى العالم فإنه يعني أن العلماني هو الذي يعتقد أن العالم يفهم من داخله وليس من خارجه ، وأن ما فيه يغني سواه عما ، ورغم هذا الفارق الذي يتصل بالتعميم والتخصيص فإن الجوهر في الأمرين واحد

وفي موسوعة "ويكيبيديا" حرر معنى العلمانية على وجهيها على نحو ما ذهبنا إليه مع تدقيق في صلة معنى المصطلح ب "الدهرية" وأصلها في اللغات القديمة وقد جاء في الموسوعة : العلمانية بفتح العين مشتقة من الكلمة علم (بفتح العين) ، وهي مرادفة لكلمة عالم. قارن الإنكليزية النظام العلماني والفرنسية Laïcisme وهما مشتقتان من الكلمة الوصلة "http://ar.wikipedia.org/wiki/ ٪ D9 ٪ 8A ٪ D9 ٪ 88 ٪ D9 ٪ 86 ٪ D8 ٪ A7 ٪ D9 ٪ 86 ٪ D9 ٪ 8A ٪ D8 ٪ A9 "سين" يونانية "اليونانية : Λαος / لاوس /" شعب "،" رعاع "أي عكس" الكهنة "وهم النخبة في الماضي. من ثمة صارت الكلمة تدل على القضايا الشعبية "الدنيوية" ، بعكس الكهنوتية "الدينية".

وكلمتنا الوصلة "http://ar.wikipedia.org/wiki/ ٪ D8 ٪ B9 ٪ D8 ٪ B1 ٪ D8 ٪ A8 ٪ D9 ٪ 8A ٪ D8 ٪ A9" سين "عربية" العربية هي ترجمة مستعارة من الوصلة "http:/ / ar.wikipedia.org / ويكي / ٪ B3 ٪ D8 ٪ D8 ٪ B1 ٪ D9 ٪ 8A ٪ D8 ٪ A7 ٪ D9 ٪ 86 ٪ D9 ٪ 8A ٪ D8 ٪ A9 "سين" سريانية "السريانية لأن السريان اشتقوها أولا في لغتهم ترجمة مستعارة عن اليونانية أيضا. (قارن السريانية : / ܥ ܠ ܡ ܐ : علما / "العالم ، الدهر ، الدنيا" ، فالعلماني في السريانية هو "الدنيوي ، الدهري" ، ولا علاقة لهذا المعنى بالعلم (بكسر العين) ومن الجدير بالذكر أن الجذر السامي / ع ل م / في يفيد. جميع اللغات السامية معاني "الدهر ، الدنيا ، العالم ، الزمن اللامتناهي" ، إذ يجانس كلمة "العالم" عندنا كل من الكلمات السريانية : / ܥ ܠ ܡ ܐ : علما / ، الوصلة "http://ar.wikipedia.org/wiki/ ٪ D8 ٪ ٪ B9 ٪ D8 ٪ A8 ٪ D8 ٪ B1 ٪ D9 ٪ 8A ٪ D8 ٪ A9 "سين" عبرية "والعبرية : / עולם : عولم / ، وكذلك البابلية : / علونو / والحبشية : / عالم /.. فالكلمة السريانية أعلاه ترجمة مستعارة عن اليونانية كما نرى لأن "الدنيا" من معاني الكلمة السريانية / ܥ ܠ ܐ ܡ : علما / أيضا.

إن التعاريف السابقة لكلمة العلمانية على اختلاف تجلياتها تشير في الجوهر إلى موقف معرفي ، أي أن العلمانية تقدم نظرية معرفة وتعامل مع الكون والحياة ومجتمعه والإنسان ، أي أنها موقف كلي وليست رؤية جزئية لهذا الجانب أو ذاك في حياتنا ،

إن العلمانية في المقام الأول "معنية بدور الإنسان في العالم وباستقلالية هذا العقل الإنساني في سيرورة توظيف للعقل في أي من المجالات التي يوظفه فيها... والأهم من كل هذا أنها معنية بجعل دور الإنسان في العالم مشتملا على اكتشافه باستقلال عن الدين الغايات التي يجدر تحقيقها في هذا العالم ، والوسائل بتحقيقها القمينة ، إن العلمانية بهذا المعنى هي إذن موقف ابستمولوجي "معرفي" إلى الحد الذي تكون ضمنه موقفا من طبيعة المعرفة العملية معرفة الغايات والوسائل وعلاقتها بالمعرفة الدينية "العظمة / ص 38

في العالم 1982 عقد في لبنان مؤتمر للتيار العلماني وأصدر وثيقة ضمنها تعريفا للعلمانية استوعب المفهوم الشامل للعلمانية بشكل مكثف وواضح ، وجاء في مادته الأولى تعريف للعلمانية يقول : "العلمانية هي نظرة للعالم شاملة ، أي للإنسانية جمعاء كله والكون ، تؤكد استقلالية العالم بكل مقوماته وأبعاده وقيمه تجاه الدين ومقوماته وأبعاده وقيمه ، كما تعني الحياد التام تجاه الدين أو الأديان المختلفة "الصحوة الاسلامية في ميزان العقل / ص 48 ، 49 دار الفكر القاهرة 1989

إن فكرة الموقف المعرفي هنا تحتاج إلى إيضاح لأنها فكرة مركزية تتصل بالمرجعية أكثر من اتصالها بالنطاق أو بالنتائج ، فحين تكون مرجعية النظرة اعتقاد باكتفاء العالم المادي بذاته وقدرته على نفسه تفسير ، واعتباره البداية نقطة ، النهاية وأفق ، فإن الموقف علمانيا يكون ، واعتقاد خلاف ذلك يجعل الموقف غير علماني ، ولو اتفقت النتائج الجزئية أو الظرفية بين الموقف العلماني من مسألة ما والموقف غير العلماني والأمثلة توضح الفارق الجوهري الموقفين بين ، كما تكشف كيف يمكن أن يظهرا وكأنهما موقف واحد في بعض الأحيان :

في مثال أول : يسعى المؤمن بالغيب وبوجود اله إلى اكتشاف قوانين الطبيعة باعتبارها قوانين أو سنن وضعها الله لهذا الكون ، وأنه باكتشافها مأمور ، بينما يعمل العلماني على اكتشاف هذه القوانين باعتبارها قوانين ناظمة لهذه الظاهرة أو تلك أوجدت نفسها دون موجد.

ومثال ثان : قد يتفق العلماني والمؤمن على منع الخمر أو المخدرات لكن الأول يرجع موقفه إلى أن العلم أثبت ضررها الصحي أو الاقتصادي ، أما الثاني فلأن الله جل وعلا قضى وتحريمها بمنعها ، آخذا في الاعتبار تلك الأسباب للمنع التحريم أو معرضا عنها ، فالأصل لديه هو المصدر ، فالتحريم صدر عن الله وجل عز ، ومعرفة حكمة التحريم آخر أمر ، قد يدرك وقد لا يدرك ،

ومثال ثالث : العلماني يقبل في مجتمعاتنا الإسلامية الراهنة أن يكون شكل الأسرة قائم على مؤسسة الزواج الطبيعية "بين ذكر وأنثى" لكنه لا يمانع أن تكون هناك أشكالا أخرى لهذه المؤسسة تجمع ذكرا ذكر مع ، وأنثى أنثى مع ، أو تقيم أسرة على أساس المساكنة وليس الزواج ، بينما المؤمن لا يقبل بغير شكل الأسرة القائم على مؤسسة الزواج الطبيعية لأنها هي المؤسسة الشرعية الوحيدة التي قررها الدين ، وجاءت بها الإلهية الفطرة ، وغير ذلك شذوذ محرم يعاقب مرتكبه.

الدكتور العظمة يقدم الأساس النظري للموقف العلماني بعيدا عن الأمثلة الجزئية فيقول : "المهم هنا هو السبب الذي يقوم التحريم عليه ، إن هذا السبب هو ما يفرق بين العلماني واللاعلماني ، بمعنى آخر أن المعيار لما إذا كان شخص ما علماني أم غير علماني في هذه الحالة هو ما إذا كان يتخذ من الاعتبارات العقلية من خلقية وغير خلقية أساسا أخيرا لهذا التحريم ، أم أنه يتخذ من الاعتبارات الدينية أساسا أخيرا له "العظمة ص 60

وفي الانتقال من مواقف الأفراد إلى مواقف الدولة والسلطات فيها فإن العظمة يرى أن الدولة التي تنتفي عنها صفة العلمانية هي الدولة التي يكون الدين فيها هو المرجع الأخير في كل الشؤون الروحية والزمنية ، ويوضح أن الحكم على الدولة ما إذا كانت علمانية أم غير علمانية لا يستند إلى وجود سيطرة من قبل رجال الدين على مقاليد الدولة كما كان الأمر في أوربا في العصور الوسطى وإنما في كون النص الديني هو المرجع في الدولة ، العظمة ص 48 ، وبالتالي فإن النص اعتبار الديني "في الاسلام الشريعة الاسلامية" ، مرجعا وحيدا ، أو مرجعا اساسيا ، أو مرجعا من المراجع التي تعود اليها الدولة وتشريعاتها ، ويستند اليها دستورها مما يخل كليا أو جزئيا الدولة بعلمانية ، أو يحدد موقفها العلمانية من.

المعنى السابق الذي أوضحه اثنان من أهم مفكري العلمانية في زمننا هذا ، وحدده مؤتمر العلمانيين ومفكريها جاء عليه الدكتور عبد الوهاب المسيري في كتابه الموسوعي "العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة" حينما عرف العلمانية الشاملة بأنها "رؤية شاملة للعالم ذات بعد معرفي وكلي ونهائي تحاول بكل صرامة تحديد علاقة الدين والمطلقات والماورائيات "الميتافيزيقية" بكل مجالات الحياة ، وهي رؤية عقلانية مادية تدور في إطار المرجعية الكامنة المادية الواحدية ، التي ترى أن مركز الكون كامن فيه غير مفارق أو له متجاوز (فالعلمانية الشاملة وحدة وجود مادية (وأن العالم بأسره مكون أساسا من مادة واحدة ، لا قداسة لها ، ولا تحتوي أسرار أية ، وهي في دائمة حركة ، لا غاية لها هدف ولا ، ولا تكترث بالخصوصيات أو التفرد أو المطلقات الثوابت أو ، هذه المادة وبحسب هذه الرؤيا تشكل كلا من والطبيعة الإنسان ، فهي رؤية واحدية طبيعية مادية.

ج 1 ص 220 ** "هذا التعريف للعلمانية الشاملة تعريف شمولي وبالتالي فإن مفرداته تحتاج إلى تفسير ، شأن كثير من الأفكار والمصطلحات التي جاء عليها الدكتور المسيري في موسوعته ، وقد دفعته هذه الحقيقة إلى وضع ملحق أتبعه الجزء الثاني من الموسوعة خصصه للتعريف بأهم المصطلحات والمفاهيم الأساسية المتواتر استخدامها في بحثه ، وقد ضمت هذه 53 مصطلحا شغلت أكثر صفحة أربعين من "

التعرف إلى العلمانية من منظورها الفلسفي المعرفي يفتح أمامنا الآفاق حول تجليات العلمانية أي كيف تتجسد العلمانية في الفكر والحياة وما هي الوجوه التي تظهر بها كما يراها العلمانيون أنفسهم.

الدكتور عادل ضاهر في كتابه "أسس الفلسفة العلمانية" يبسط أربعة وجوه لهذه العلمانية الفلسفية :

** وجها معرفيا : يتمثل في نفي الأسباب الخارجية عن الظواهر الطبيعية أو التاريخية ، وفي تأكيد تحول التاريخ كله.

** ووجها مؤسسيا يتمثل في اعتبار المؤسسة الدينية مؤسسة خاصة كالأندية والمحافل المتعددة في المجتمع.

** ووجها سياسيا يتمثل في عزل الدين عن السياسة (وبالتالي عن التعليم ، وعن مؤسسات المجتمع المختلفة).

** ووجها أخلاقيا قيميا يربط الأخلاق بالتاريخ والوازع بالضمير ، بدل الالتزام والترهيب بعقاب الآخرة. د. ضاهر ص 37

باختصار فإن العلمانية تبني نظرية المعرفة على بعد واحد هو البعد المادي ، وتخضع له كل شيء في الوجود : نفسه الوجود ، وجوده وتفسير ، وبناه المختلفة السياسية والاجتماعية الاقتصادية ، وكذلك الروحية بناه ، وفي قلب ذلك كله الإنسان.

وإذا كانت مجمل الأديان تقيم نظرية المعرفة من خلال مصدريها : الوحي والتجربة الإنسانية ، وتتضمن هذه على نوعيها الرئيسيين : العلم بمختلف صنوفه وتراكماته وإفرازاته ، والقيم بمختلف تجلياتها ومستوياتها ، وبين العلم والقيم تتولد العلاقات الإنسانية وتقوم مفاهيم الجمال والأخلاق والفنون والقانون وكلها مكونات نظرية المعرفة ،

فإن العلمانية تعني من وجهة النظر المعرفية إلغاء الجانب الأول من جوانب نظرية المعرفة التي يستند إليها الفكر الديني واعتماد الجانب الثاني فقط ، جانب الإنسانية التجربة ، الإنساني والعقل ، والخبرة الإنسانية بمعزل تام عن الأول الجانب ، وحصر هذا بالمكون المادي وإفرازاته ونتائجه ، وفي هذا الإطار فإن مرجعية القيم تكون فيما تعارف وتواطأ عليه الناس ، لذلك فإن القيم نسبية وبشكل مطلق يحدها الزمان والمكان ، إن هذا لا يعني أن العلمانية ترفض الأخذ بأي شيء أو قيمة جاءت عن طريق الوحي أو دلت إليها الأديان ، وإنما يعني بدقة أنها حين تأخذ أو تقبل شيئا من مصدر الوحي أو الدين فإنها لا تأخذه لأنه من هذا المصدر وإنما لأن الناس والمجتمع يريدان ذلك في هذه المرحلة.

والعلمانية من هذا المنظور لا تغفل أثر الدين على النفس البشرية ، وأثره في المجتمعات تحريك ، وأثره في حركة التاريخ ، إذ أنها تقر بذلك كله ، ولكنها تنظر إليه باعتباره مجموعة أساطير شكلت حيزا من ذاكرة الشعوب ووعيها وتجربتها ، والتعامل معه يتم من هذا الاعتبار ، والأساطير بطبيعتها ليست مجرد أوهام وأكاذيب وإنما هي تخلط الصحيح بالخيال والواقع بالرغبات ، وتختزن الكثير من تجارب الشعوب وقيمها ومعارفها ، ومن هنا فمن غير الجائز عند العلمانيين إغفال ذلك كله ما دام له وجود وفاعلية بين الناس ، وإنما المقصود هنا تفسير هذا الجانب وتحليل مصادره ووضعه في مكانه من نظرية المعرفة.

العلمانية هنا تتضمن نفي القداسة عن أي شيء وعن كل شيء ، فليس هناك مقدس نص ، وليس هناك مقدس كتاب ، وليس هناك مقدس مكات ، وليس هناك شخص معصوم ، وليس هناك مصدر للمعرفة خارج الإنسان وملكاته نفسه ، وليس هناك غيب وعالم غيبي ، أوآخرة ، وحساب ، أو أي شيء يتصل بهذا الجانب الذي يعطي الانسان صفة المؤمن "فالعالم والواقع والدنيا هي مرجعية التدبير للاجتماع الإنساني والحياة والدولة ، ومن ثم فإن هذه ليست في حاجة إلى مدبر من خارج العالم هذا ، ومن وراء هذه الطبيعة... والإنسان مكتف بذاته ، يدبر د شئونه ويبدع قيمه ونظمه بواسطة العقل والتجربة وليس في حاجة إلى شريعة سماوية تحكم هذا التدبير "محمد عمارة الوسيط في المذاهب والمصطلحات الاسلامية ص 246 نهضة مصر 2000

ومن هنا فإن اعتماد العقل والتجربة والعلم سبيلا للمعرفة لا يوفر موقفا علمانيا إلا إذا تضمن الشق الآخر من معادلة العلمانية وهو الخاص بنفي وإلغاء الوحي ورسالات السماء والأديان والإيمان بالله والآخرة ، وما يدخل في هذا المجال من تشريعات وقيم والتزامات من نظرية المعرفة.

بقليل من التدقيق يتضح أمامنا وسنرى أمثلة لاحقة على ذلك أن العلمانية في مستواها المعرفي تحولت عند اصحابها الى دين ، والى هذا يذهب القطب العلماني اليهودي الأمريكي "إرفنج إكرلستول" إيرفينغ كريستول حين يؤكد : (أن العلمانية رؤية دينية شاملة لها مقولاتها عن الحياة الإنسانية حاضرا ومستقبلا ، وتأثيرها الفعال في العقائد الدينية التي لم تندثر بعد في هذا العصر العلماني).

ولأن العلمانية موقف معرفي فإنها تعلمن كل شيء في المجتمع : تعلمن الإنتاج ، والاستهلاك ، والاستثمار ، والتعليم ، والإعلام ، والصحة ، والسياحة ، والفنون... الخ ، أي أنها تعلمن طرفي المجتمع : والإنسان المادة ، من زاوية أن الاثنين هما في مادة الجوهر ، ويخضعان التنظيم لقواعد ، والترشيد ، والتقييم نفسها.

وبعيدا عن تصادم فكرة العلمنة مع فكرة الدين والإيمان ، فإن آلية العلمنة هذه تفرز نفيا للدين والقيم والمؤثرات ذات المصدر المادي غير ، كما أنها تنظر إلى الإنسان على أنه مكون من مكونات الطبيعة يخضع لما تخضع له الطبيعة ذاتها من وقواعد قوانين ، لا يمتاز عن مكوناتها الأخرى بميزات حقيقية ، ولعل في تسويق الاكتشافات الراهنة الخاصة بالجينات الوراثية والشفرة ، وإمكانية تغيير وتعديل الوراثية الصفات ، الرجل وفكرة الخارق "السوبر مان" ، وإمكانية تصنيع إنسان آلي "روبوت" ، يمتلك خصائص الإنسان وهو ما تبشر به أفلام الخيال العلمي الأمريكية ، لعل هذا في كله تجسيد لما تذهب إليه العلمانية بشأن النظر إلى تشييء الإنسان واعتباره كائنا ذا بعد واحد هو البعد المادي.

الخلاصة هنا : أن العلمانية تقدم نظرية للمعرفة مغايرة للنظرية التي تقدمها الأديان ، وبالتالي فإنه من زاوية نظرية المعرفة نكون أمام موقفين متعارضين : موقف علماني ، وموقف غير علماني أو لنقل موقف إيماني ،

ونظرية المعرفة الإيمانية هنا أوسع مدى ، وأكثر غنى ، إذ بينما تكتفي نظرية المعرفة العلمانية بنفي وجود شيء خارج عن الكون المادي ، مؤثر أو غير فيه مؤثر ، كما تنفي بالطبع كل حديث عن الغيب ، فإن النظرية الإيمانية في المعرفة تعتبر علوم الغيب جزء أساسيا في المعرفة الإنسانية توفرها الأديان بواسطة الرسل ، وتتحدث عن نقطة البدء في وجود المادي الكون ، وتقدم أساسا أوليا لنظرية الأخلاق قاعدته الإلهي الإرشاد ، وتعتبر أن الأخلاق المستندة الى هذا المصدر تنمو وتتكامل ولكنها لا تتغير وتتبدل ،

إن العلمانية تخضع كل القيم التي تبدو غير مادية مثل الدين والأخلاق والعواطف للقيم المادية البحتة ، فتكون نتيجة لها بحدودها ومقيدة ، في حين أن النظرة الإيمانية تعتبر المادية جزءا من المكون العام ، لها حدودها وهي خاضعة لقيم أعلى تحدد مكانتها من الحياة كما تحدد آفاقها.

إننا هنا لا نتحدث عن العلمانية باعتبارها إلحادا ، فهذا وإن صحيحا كان ، إلا أنه موجود منذ وجدت المجتمعات البشرية ، وقد حدثنا القرآن الكريم عن بعض مظاهره بسم الله الرحمن الرحيم "وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر ، وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون الجاثية / 24 وليس صحيحا المطابقة الكلية أو الجزئية بين الإلحاد والعلمانية ، فالإلحاد موقف من وجود الخالق وبالتالي الغيب والبعث، لكن العلمانية نظرية في تفسير الكون، وموقف في صنع الحياة، وفي التغيير الاجتماعي تسعى لتصبغ المجتمع كله بصبغتها، والإلحاد موقف شخصي وسلبي قائم على النفي، حتى ولو شكل في النهاية تيارا، بينما العلمانية حركة فكرية ـ اجتماعيةـ شاملة.

إن هذا التحديد والتفريق ضروري حتى لا يذهب بنا البحث ـ ونحن نريد أن نتعرف على مولد العلمانية ـ بعيدا في التاريخ نتتبع فيه حركة الإلحاد ومفكريه، منذ التاريخ اليوناني القديم، أو ما قبل التاريخ اليوناني القديم، وصولا إلى علمانية النهضة الأوربية، ثم نضم الجميع في سلك واحد ونقول : هو تاريخ العلمانية وتجلياتها. إن من شأن هذا الخلط أن يشتت الجهد وأن يضيع الملامح الحقيقية للعلمانية .

العلمانية واحتياجات الأمة 2 -- العلمانية مستويات

إذا كانت الرؤية المعرفية والفلسفية للعلمانية واحدة ، كما بينا في الحلقة الأولى فإن هذا لا يعني أن العلمانية لدى المفكرين والسياسيين وفي المجتمعات واحدة ، إذ من المعلوم أن الرؤية المعرفية والفلسفية هي بالطبيعة رؤية أنموذجية تجريدية ، وبالتالي فإن هناك فاصلا وفرقا دائما بينها تجلياتها وبين في مستويات الفكر والتطبيق المختلفة.

ومن هذه الزاوية فإننا نواجه مستويات أو عناوين متعددة للعلمانية ، وقد أدرك الباحثون هذه الحقيقة التي يجدونها أمامهم في مكان كل ، لذلك فإنهم راحوا يتحدثون عن هذه المستويات بمصطلحات مختلفة : مثل العلمانية الشاملة الجزئية والعلمانية ، أو العلمانية الصلبة المرنة والعلمانية ، أو العلمانية النظرية والعلمانية العملية ......

وقد ذهب الدكتور المسيري إلى القول أن هناك علمانيتان لا علمانية واحدة :

** الأولى جزئية باعتبارها فصل الدين عن الدولة ،

** والثانية شاملة لا تعني فصل الدين عن الدولة وإنما فصل كل القيم الإنسانية والأخلاقية والدينية ليس عن الدولة فحسب وإنما عن الطبيعة وعن حياة الإنسان في جانبيها العام والخاص. العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة / دار الشروق مجلد أول 2002 ص 16

وفي مجمل الجهد الموسوعي الذي قدمه الدكتور المسيري بشأن العلمانية تتجلى ثلاث مستويات لها اعتقد أنها تستوعب مختلف أشكالها ومظاهرها :

المستوى الأول : العلمانية الشاملة

وهي تلك التي يتوصل إليها الفرد حين يقف على المعني الفلسفي المعرفي للعلمانية ويمكن تسميتها أيضا العلمانية الطبيعية / المادية فهي رؤية شاملة للكون بكل مستوياته ومجالاته ، وللإنسان فيه ، لا تفصل الدين عن الدولة وعن

تم طباعة هذه الخبر من موقع الثورة نت www.althawra-news.net - رابط الخبر: https://althawra-news.net/news104253.html