2014/08/08
غزة والعدوان الغاشم

يبدأ الحزن مشواره من غزة, يتسع فيها كالبحر مالحا في القلوب وتضيق به شرايين الروح, لكنها وإن اختنقت به, يبقى نابضا بالأمل محبة الروح. لكني أتوقف مثل كثيرين لعدوان الاحتلال الغاشم والحرب على غزة, فيصبح التوقف سيرا طويلا مخيفا في غاية من الحزن, وقافلة تمضي في صحراء اليأس العربي ويلي إذن أيها القلب الباكي من قاطعي الطريق!! غزة التي ابتدأت بطولتها بالشموخ والصمود, هي عينها غزة التي انتصر كفها على المخرز ولم يستعصö عليها أن تهزم بالدم طغيان السيف حين استعصى علينا أن نجمع بعض الورود ونضعها على أضرحة شهدائها العظماء, ليس في جذوة قلوبنا سوى الرماد بعدما انطفأت, ووحدها غزة تحترق كالعود والبخور يزداد ضوعا وعبقا كلما ازداد احتراقها!! ولأننا بلا سيقان عجزنا أن نرحل نحو غزة, ولأنها عظيمة الإباء لم تنتظر حتى نذهب إليها فجاءت إلينا, ملأت قلوبنا أعيننا غرفنا وأرواحنا وبقينا مع ذلك فارغين من الامتلاء بكل قيمة, ساقطين من كل شاهق نستوطن كل قعر ونشتم في جوع كل طعام حقير وذليل, ونفرح إن لقينا فضلة طعام على موائد السادة الكبار, ونقبöل الأقدام والأحذية مسرورين بكوننا كلابا طائعة لسيدها وإن جوعها سيدها!! الحزن والفرح يأبيان تذكرنا, يشيحان بنفور كلما تلونا أسماءنا على الذاكرة الغاضبة, يصطفان الانشغال كلما مررنا بشارعيهما ويسدان الطريق علينا أمام منازلهما, لا شيء فينا يستحق أن يحترمه هذا الوجود المتأفف من وجودنا, ونحن المتسولون في أزقة التاريخ نأبى حتى أن نغسل أجسادنا, نحن السخرية ذاتها منا, وتنتحر السخرية هازئة بسخريتها وتغص في حلق التاريخ آخر ضحكة ولو كانت هازئة فتنتحب الأحداث وهي غارقة في الخزي والعار والذل والشنار!! ماذا بقي للعربي حتى يصح عليه لقب العربي سوى اسم لم يعقل كرامة أمته, وماذا بقي للمسلم حتى يصح عليه اسم المسلم سوى سبحة تدور في يديه في فراغ حزين مثلها مثل صاحبها, لقد مضينا من الأبواب الخلفية ولا ندري كيف سنعود, وأكفنا مرفوعة نحو السماء, فتحتقرنا السماء وتشدöد النكير على ملائكتها الذين ملأوا أرجائها ألا تصعد أرواحنا الكثيفة إلى لطافة قدسها. لا شيء تحتقره هذه العظمة أكثر من الخيانة, ونحن الخيانة ذاتها وعينها, وتبكي الأرض من ذل عيشها وتتمنى لو أننا لا نعيش على ظهرها ولا نكون عند موتنا في بطنها, من منكم سمع حشرجتها الباكية كل صباح ومساء إلى الله: إلهي حتى متى سأظل أحتمل هذا العار¿! ليست غزة من يحاصرها أعداؤها رهبا منها, ويحاصرها أشقاؤها رغبا في جود أعداءها اللئام, بل نحن المحاصرون بالعار, محاصرون بثرواتنا المهدورة, بقلوبنا الجاثية في محراب الأمم ذلا وانكسارا, بأرواحنا التي يعلوها سخام المحرقة حتى اسودت لهذه النفوس الضعيفة التي يسوطها الهلع من كل شيء فتمسك السوط مقبلة وتطلب الرحمة ممن لا يرحم, والشفقة ممن لا يشفق! نفذ العار في أجسادنا ونفوسنا حتى صار كأنه هي وكأنها هو, لكن حتى العار نفسه بدأ يستشعر الخزي من أن تكون هذه الأجساد والنفوس مسكنه, فصرخ غاضبا: أيها العار ألا يوجد في اتساعك المخزي مأوى أفضل¿ ارتعشت أعصاب التاريخ من قذارة الصرخة فأشاح عنها مضطرب الجنان والأصابع حين تمسك القلم “آه كم أنت تعيس! لماذا أنت مجبر على كتابة كل هذا¿ يهمس التاريخ في نفسه ويتهم نفسه طامعا في فضل تزكية يغدقها الله عليه إن صدق في الإدانة والاتهام, فتتمرد الأوراق حين الكتابة عليها كاضطراب الذبيح, ثم تسكن بعد نفاد تدفق الدم من العروق إلى الأرض الظامئة! العالمين يعرفون كلا بسيماهم¿ هل ستكون آلام غزة بداية النهاية لكل هذا القبح المشوه مثل مسخ كريه سلق بماء النار¿ هل يمكن أن تكون حمرة الدم القانية حمرة الزهور والورود الجذلة بالربيع القادم¿ ارفع رأسك أيها التاريخ…أقولها له ثم أمسح على رأسه, فينغض إلي وجها حزينا شائخا وأردف: لن تموت باكيا أعدك بذلك! ثم أستخرج من صدري نسخة من القرآن ونقرأ في خشوع ويمد النور الشحيح رداءه شيئا فشيئا على هذا الدرب, ويتراكم النور كما تراكمت من قبل الظلمة فيمسحها وتبدو غزة في صندوق الدنيا لؤلؤة حبيبة, ولكن أين ذهبت جوهرة هذا الكنز¿ أفتöش في قلق ثم أضع يدي عليها وأضمها إلى صدري, سأموت يا حبيبة لكني لن أسلمك إلى أحد!! لن أسلمك إلى أحد!! لن أسلمك إلى أحد!! *مستشار وزارة الأوقاف والإرشاد

تم طباعة هذه الخبر من موقع الثورة نت www.althawra-news.net - رابط الخبر: https://althawra-news.net/news91880.html