الزمن لم يمنح المسّاح لحظة إضافية
الساعة 11:22 مساءً

تغص حسابات الإعلاميين والصحفيين والمثقفين اليمنيين على منصتي إكس وفيسبوك بصورة محمد المَسّاح فقيد الصحافة والأدب اليمنيين الذي غادر دنيانا أمس.

عرفنا المساح بعموده الدائم في صحيفة الثورة بعنوان "لحظة يا زمن". 

كان هذا العمود يحمل لقطات بسيطة من الواقع الذي يراه المساح ويكتبه في سطور محدودة وبكلمات معدودة هي هواجس وهلوسات الواقع العبثي والمجنون قلما يطول العمود. 

نصوص حياتية بنسق قصصي فاخر يحمل عناصر القصة القصيرة: حكاية، موقف، حدث، شخصيات، وحبكة وبالطبع سؤال ومفاجئة وصورة حية مفعمة بالحركة.

لم أكن أعرف عنه سوى أنه صحفي من الجيل الأول ويساري عتيق بالكلمة والموقف ونمط الحياة.

وكان أحد أولاده صديق الشِلة التي أنتمي إليها من عشاق القات الصوطي ورواد مطاعم الجامعة القديمة ورفاق الصحف المحلية وفلسفة الذي لا يفلسَف. 

ثم قرأتُ ما كتب عنه رثاءً الاستاذ العَلم عبد الباري طاهر  فزاد حزني أكثر فأكثر عندما أدركت مكانة ودور المَسّاح في الحياة الصحفية اليمنية كأحد مؤسسي هذا الفن وهذا العالم. وقرأت ما كتبه الأديب والصحفي محمد الشيباني عن المساح ومأساة فقدانه لأحد أبنائه بسبب الحرب والغياب ومجهولية المصير فأحسست بغصة في الحلق.

كان أبي يطرب لقراءة عموده في صحيفة الثورة وكنت أطرب لطرب أبي وعنايته لهذه السطور وأبي الذي بالكاد تعلم فك شفرات الحروف والقراءة.

أتذكر واحدة من نصوصه الخاطفة تلك في ومضاته في العمود المذكور وهي حكاية شخص أدمن فحص أقفاص السجائر الفارغة الملقية على الأرصفة على أمل أن يجد داخلها ورقة مالية مطوية يهديا له النسيان والحرص الخاذل للمدخن المجهول إنقاذا من عبء الحاجة وحمل السؤال. 

كان عالم المساح عالمًا واقعيًا بلا رتوش، فيه الفرد المسحوق في العالم المنسي أمام تلهف الناس على الحياة ومطامعها. وكان عالم القرية الصغير هو مجرته الواسعة. 

أما "لحظة يا زمن" فكانت اختزالا مكثفا لعبارة تناسب مزاج الفرد العادي قبل الصحفي والكاتب والأديب. وأتذكر وأنا في سنوات الجامعة كان هناك عامل في بوفيه السامعي/ الصلوي في كلية الآداب وهو صبي مراهق لتوه صعد من القرية. وعندما ناداه "معلّمه" صادق - وهو يستشهدني لما تربطني بتلك البوفية وعمالها من صداقة وأكثر- يحثه ممازحاً له للعمل، ألتفت الصغير نحوي مستنكرا الأمر وقال بحسرة الممازح: لحظة يا زمن. وانفجرنا ضاحكين.

يموت الآباء المؤسسون لعناصر الحداثة اليمنية دون تأريخ لحياتهم ولا جمع لأعمالهم.

لعل ما يخفف من الحسرة التي صاغها المساح هو أن الأديبة انتصار السري والباحث فوزي الحرازي كانا قد  أعدا ونشرا كتابًا يحمل العنوان ذاته يجمع بعض أشتات حكاية الفقيد محمد المساح ونصوصه. 

لكن هناك وجه إبداعي آخر للمَسّاح وهو كتاباته الشعرية والقصصية التي إن جُمعت ونُشرت ستكون أجمل تكريم لرجل كثير في عالم الصحافة والأدب، وقبل هذا في الكفاح والنزاهة وهدية للذاكرة الثقافية اليمنية. فمن يبادر! 

السلام لروحه والعزاء الصادق لأهله وصحبه ومحبيه.

*من صفحة الكاتب على منصة إكس