من الرسي إلى الحوثي.. اليمن "دار حرب" في الفقه الزيدي الهادوي
الساعة 09:30 مساءً

مقال استقصائي يتتبّع الجذور الفقهية لفكرة "دار الحرب" في المذهب الزيدي الهادوي من الهادي إلى الحوثي، وكيف تحوّل الداخل اليمني إلى ساحة جهاد وفرض جبايات وسبي.

 

مدخل

منذ أن وطأت أقدام الكاهن يحيى بن الحسين الرسي طباطبا غازيًا أرض صعدة أواخر القرن الثالث الهجري، أدخل مفاهيم دخيلة إلى الوعي الديني والسياسي للمسلمين، لم تكن من تراثهم ولا من أصل عقائدهم.

في مقدمة هذه المفاهيم مصطلح "دار الحرب"، الذي استُخدم لاحقا في تصنيف المدن والقبائل اليمنية المناوئة لمشروع الإمامة، واعتبارها أرضا معادية يجوز غزوها، وسبي أهلها، ونهب أموالها، وقتل رجالها.

خليط الزيدية الهادوية

لم يهبط الكاهن الرسي كوباء إلى اليمن بمذهب مكتمل، بل صاغ مزيجا من الزيدية السياسية والجارودية الاعتقادية، وأضاف اجتهاداته الشخصية، فخرجت الزيدية الهادوية كنسخة إمامية ذات طابع تكفيري، جوهره أن الإمام معيار الإيمان والسياسة معا، يترتّب على القبول به حقوق وامتيازات، وعلى رفضه أحكامُ نزع للمواطنة والإسلام، تبدأ تلك الاحكام بالتفسيق والاتهام وتنتهي بالتكفير الصريح.

لقد لخص الكاهن الرسي طباطبا أبعاد وأصول الزيدية الهادوية في نص واحد، رسم فيه اركان مذهبه المبنية على إمامة البطنين، وخرافة الحق الحصري في الحكم، ووصم المخالف بالكفر الخالص، فيقول: 
"إن ولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب واجبة على المسلمين جميعهم، فرض من الله ربّ العالمين، ولا ينجو أحد من عذاب الرحمن ولا يتمّ له اسمُ الإيمان حتى يعتقد بذلك بأيقن الإيقان، فمن أنكر أن يكون علي أولى الناس بمقام رسول الله، فهو عند جميع المسلمين كافرا". كتاب الأحكام (١/٣٦–٣٨)

تدوير "دار الحرب" على الداخل

التقسيم التقليدي بين دار إسلام ودار حرب استُعمل في التجربة الهادويّة ضد الداخل اليمني، فلم تعد "الحرب" توصيفا لعدو خارجي، بل لمدن وقبائل لا تعترف بالإمام، وصار الامتناع عن البيعة مسوغا لاعتبار مناطق بأكملها "دار كفر"، تجري عليها أحكام القتال، والغنيمة، والسبي.

يقول الكاهن الرسي في مجموعه في الإجابة على سؤال عن جواز السبي في اليمنيين:
"يجوز سَبْيُهم؛ فما جاز في الكبار جاز في الصغار، ولا خلاف بين الأئمة أنّ دار المجبرة دارُ حرب، ولا نعلم أحدا من أئمتنا تمكّن منهم إلا أقام عليهم حكمَ رب العالمين في أعدائه الكافرين".

ويقول ذلك شعرا:
دعوتُ الناسَ كلَّهم لحقٍّ
وأكثرُهم عن التقوى يحيد
فقلتُ لهم ذروا كفرا وفسقا
وخلوهُ فقالوا لا نريد.

ثم يؤكد ذلك:
وقلتُ ألا احقنوا منّي دِماكم،
وإلاّ تحقنوها لا أبالي
ولستُ بمسرعٍ في ذاك حتى
إذا ما كفرَ كافركم بدا لي

وبعد أن استمرت حربه، حتى كثر القتل في رفاقه الطبريين وخشي الهزيمة، مع ابن خلف، ارسل الكاهن الرسي اليه كتابا يقول فيه: "ابرُز إليّ، فإن ظفرتَ بي أرحتَ منّي الكافرين، وإن ظفرتُ بك أرحتُ منك المؤمنين".

التكفير كسلاح سياسي

لم يكن الخلاف الفقهي هو مدار الصراع، ولا التنافس على السلطة من أسبابه، بل سوّى الكهنة الزيديون الخلاف سياسيا عبر التكفير، وفي رسائل وخطب لا تحصى، صنف الكهنة المخالفين من الشوافع وأهل الاجتهاد المختلفين بوصفهم "أهل ضلال" وسماهم الرسي "الغير"، وتجري عليهم أحكام الحرب، لتصبح البيعة السياسية حدا فاصلا بين الإسلام والكفر في التطبيق الإمامي الزيدي.

يقول الكاهن عبدالله بن حمزة:
"إنَّ المجبرةَ والمطرفية ومن جرى مجراهم كفّارٌ أصلا، ودارُهم دارُ حرب قطعا، وليسوا بالمرتدّين، وإنّما نقول: مرتدّين تقريبا، لأنّ المرتدَّ هو من كان مسلما فكفر".

وقال في المجموع المنصوري/فتوى إبادة المطرفية، ص ٨٥
"فكلُّ جهاتهم دارُ حرب، يحلُّ فيها قتلُ مُقاتِلهم، وسبيُ ذَراريهم ونسائهم، وغزوُهم كما تُغزى ديارُ الحرب ليلا أو نهارا، وقد أجَزْناه لمن اعتقد إمامتَنا من المسلمين غِيلة ومجاهرة، ومن جاءنا بأحد من ذراريهم اشتريناه بثمن مِثله، كما يفعل أئمة المسلمين بمن غزا ديار المشركين…".

فقه الجباية: الأعشار والخُمس وأرض الخراج

لم يكن توصيف "دار الحرب" مجرّد شعار، فقد انبثقت عنه هندسة مالية كاملة، فالأعشار والخُمس بوصفهما حقّا ثابتا للإمام ومن معه، وتحويل اليمن إلى أرض خراج تُجبى على أساس الفتح والقهر لا على أساس الملكية الأهليّة، ثم شرعنة الاستيلاء على أموال المخالفين باعتبارها "غنائم"، ومنح جزء منها للمقاتلين ترسيخا لاقتصاد الحرب، كلها نتاج ممارس لفكرة "دار الحرب، فكان كل إمام زيدي "يعتبرُ أيَّ أرض يفتحها من أرضِ سُنّة اليمن أرضا خراجية عُشرية، فيجبي منها العُشر، وليست الزكاة كما في مناطق الزيود والإسماعيلية".

سابقة الإبادة الفكرية: المطرفية مثالًا

حين واجه مشروع الإمامة الزيدية مدرسة عقلية يمنية كالمطرفية، لم يتم مناقشة فكرها بقدر ما استُبيحت جماعاتها، وتم اجتثاث بيئتها الاجتماعية بالقسر والنهب، في ترجمة حرفية لفكرة "دار حرب”" لكنها مُسقَطة على الداخل، وكانت الرسالة واضحة: من يخرج عن النسق الزيدي الهادوي يُنزع عنه الأمان والإيمان.

بل إن الكاهن عبدالله بن حمزة "كفّر حتى بعض علماء الزيدية والشافعية الذين لاموه وخطّأوه على فعلِه الإجرامي بحقّ المطرفية".

ويرد في فتاوى عبدالله بن حمزة في المجموع المنصوري:
"فبلادُ الجبرية والقدرية عند القاسم والهادي والناصر عليهم السلام دارُ حرب لا يختلفون في ذلك" وهذا تأكيد على أنها سنة زيدية هادوية متوارثة.

وتحكي كتبهم انه: "لما ظهر ابنُ علي بن مهدي في تهامة أفتى الكاهن أحمد بن سليمان بن شاور بجواز قتل مقاتلة عرب تهامة وسبي ذراريهم، فسُبيت نساء المسلمين وبيعت السبايا في الشام/ غاية الأماني في أخبار القطر اليماني، ص ٣١٦

أثرٌ ممتد إلى النسخة الحوثية

في خطاب الحوثيين وممارساتهم اليوم، يظهر المحتوى ذاته بعبارات جديدة، فقد لا يُستخدم المصطلح حرفيا في كل مرة، لكن مضمونه حاضر بوضوح: خصوم سياسيون يُعاد توصيفهم دينيا كنواصب ومنافقين وعملاء، فتصادر ممتلكاتهم وتباح دماؤهم، وتعامل مناطقهم كأرض معادية تُحاصر وتُقصف وتُنهب.

والأخطر، أن أدبيات الجماعة الإرهابية الحوثية الزيدية، لا تزال تعتبر أن اليمن لم يصبح "دار إسلام"، ما لم يخضع كل شبر فيها لـ"إمام العصر"، وقائد الجماعة.

كما تفرض الحوثية الإمامة الزيدية المعاصرة على اليمنيين ذات الجبايات التي فرضها أجدادهم الكهنة من قبلهم، من خُمس وأعشار ومجهود وحق للقائد العلم، في توريث مباشر لمبدأ فقهي زيدي سياسي يرى البلاد ملكا لهم متى ما توهموا التمكين لولاية الإمام.

يقول الكاهن محمد عبدالعظيم الحوثي في مقطع مصور:
"الواجبُ علينا أن نقاتلكم أنتم، أمّا أمريكا فبيننا وبينها مسيرُ أكثر من عامين، الواجب علينا جهادُكم، وجهادُكم أفضلُ من جهاد الكفّار".

وهو ذات منطق الكاهن أحمد بن سليمان بن شاور، ونقله مجد الدين المؤيدي في التحف شرح الزلف، ص ١٧: "ولي نيف وعشرون سنة، كلّما فرغتُ من حربِ قوم من الظالمين قمتُ بحرب أخرى".

وغني عن القول أن تلك الحروب جميعها كانت ضد اليمنيين بلادا وإنسانا فلم يسجل تاريخهم أي حرب ضد أي كفار، أو خارج الأرض اليمنية.

المواطنة تحت المقصلة

حين تُختزل شرعية العيش، في الطاعة المطلقة لكاهن زيدي، لا في العقد الاجتماعي، يصبح كلّ خلاف سياسي مدخلا للقتل: فتسقط الحقوق، ويباح الدم، ويُحرم التزويج، وتُصادَر الممتلكات، وتُستبدَل الدولة بمذهب، والمواطِن بتابع، والقانون بفتوى.

يقول الكاهن عبدالله حمزة في مجموع رسائله (١/٩٣–١٣٥، بتحقيق الوجيه)
"حُكمُ ما يسمُّونه “ديار المجبرة” — وهم المسلمون السنّة — دارُ حرب؛ وكونُ ديارهم بين الكعبة من جهة وبين ديار أئمة الزيدية من جهة أخرى فهو عذرٌ كاف لسقوط الحجّ عنهم؛ لأنّ أرضهم أرضُ نجاسة، ولا يمكن لهم الاحتراز من رُطوبتهم".

لماذا نقول ذلك الآن؟

لأن النقاش ليس تاريخيًا، فكلّما جرى تسكين اليمن في خانة "دار حرب" عاد الخراب من الباب: تتضخّم اقتصاديات النهب، تتآكل المؤسّسات، وتتهشّم الروابط الوطنية، والمقابل الوحيد القادر على كسر الحلقة، هو تصور مدني يرى اليمن “دار مواطنة” لا "دار حرب" وحقوقا متساوية، لا ساحة لادعاء الأفضلية واختزال الدين في عقيدة الإمام.

خاتمة

لم تولد فكرة "دار الحرب" في اليمن من تربة البلاد ولا من التشريع الإسلامي لذلك المفهوم، بل زُرعت في بنية الزيدية السياسية ثم غُلفت بفتاوى عابرة للعصور، وما لم يجر استئصالها من الوعي العام- نقدًا وتفكيكًا وتجريمًا وإزاحة، لصالح دستور حديث- ستظل تتجلّى، بأسماء جديدة وأردية مختلفة، لكن بالجوهر نفسه: وطن مُباح من سلالة غازية، وعصابة ترى نفسها فوق الدولة، وتستمر في التصرف كغاز أحمق.