رئيس مجلس القيادة الرئاسي يعزي بوفاة المناضل حسين الحداد
رئيس مجلس الشورى يعزّي بوفاة المناضل حسين الحداد
العرادة يؤكد على أهمية توحيد الخطاب الإعلامي في هذه المرحلة
وفاة وإصابة 225 شخصا بحوادث سير خلال النصف الأول من ديسمبر
وزارة التربية تحتفي بالطلاب الفائزين بالمركز الأول في تحديث الروبوتات العالمي
عضو مجلس القيادة المحرّمي يناقش أوضاع منظومة الكهرباء
ابن الوزير يؤكد انفتاح محافظة شبوة على مختلف انواع الاستثمارات
الزنداني يبحث مع القائم بأعمال السفارة الصينية علاقات التعاون الثنائية
الزبيدي يشدد على أهمية تطوير العملية التعليمية في جامعة عدن
الوالي يؤكد أهمية مواصلة الجهود الرقابية بما يسهم في استقرار الأسواق
لم تُبنَ الدولة في اليمن يومًا من مدينة واحدة ولا من كتلة جغرافية أحادية، بل كانت دائمًا ثمرة توازن دقيق بين الجبل والبحر، بين مركز القرار ومصدر الثروة، وبين الأمن الداخلي والانفتاح الخارجي. هذه الحقيقة التي قد تبدو تاريخية في ظاهرها هي في جوهرها قاعدة سياسية صلبة تفسّر لماذا نجحت بعض التجارب اليمنية في بناء دولة مستقرة نسبيًا؟، ولماذا تعثرت أخرى؟، ولماذا يعيد اليمن اليوم إنتاج أزمته بصيغ جديدة؟.
الجغرافيا اليمنية “ليست محايدة” في تشكيل السلطة. الجبل ليس مجرد تضاريس إنما وعاء للسيادة ومجال للحماية ومخزن للقوة السياسية الصلبة. من يسيطر على المرتفعات يملك القدرة على فرض القرار وتأمين الحكم وضبط الداخل. في المقابل لا يمنح الجبل وحده دولة مكتملة إذ يبقى الحكم معزولًا فقير الموارد سريع التآكل ما لم يمتلك منفذًا بحريًا يربطه بالعالم، ويمنحه القدرة على التمويل والتفاعل مع الاقتصاد الدولي. هكذا تشكّل البحر في التجربة اليمنية بوصفه مصدر الثروة والاعتراف الخارجي لا مركز الحكم .
“التجربة الرسولية” أدركت هذه المعادلة مبكرًا لا بوصفها خيارًا جغرافيًا بل كفلسفة حكم، لم تُحوِّل عدن إلى عاصمة سياسية رغم ثقلها الاقتصادي، ولم تُغلق السلطة داخل الجبل بمعزل عن البحر، بل فصلت بين الوظيفتين: سلطة تحكم من الداخل الجبلي الآمن وثروة تُدار من الميناء المنفتح. هذا الفصل لم يكن ضعفًا في مركزية الدولة بل تعبيرًا عن نضج سياسي منع تسييس التجارة وحمى القرار من الارتهان للمصالح الاقتصادية وفي الوقت ذاته وفّر للدولة موارد مستقرة مكّنتها من الاستمرار.
في المقابل كشفت تجارب أخرى حدود الاختلال في فهم الجغرافيا. دولة تُحكم من الجبل بلا سيطرة بحرية تتحول إلى كيان مكتفٍ بالقوة، ضعيف الاقتصاد وسريع الانقسام، ودولة تُبنى من الميناء دون عمق جبلي تصبح ثرية بلا حماية، مفتوحة للتدويل وسهلة الكسر عند أول صدمة عسكرية أو سياسية. اليمن لم يعرف في تاريخه دولة ساحلية خالصة ولا دولة جبلية خالصة “نجحت طويلًا” لأن الجغرافيا نفسها ترفض هذا الانفصال.
ما يعيشه اليمن اليوم ليس قطيعة مع تاريخه بل إعادة إنتاج لفشله البنيوي القديم. الجبل مفصول عن البحر والقرار مفصول عن الثروة والسياسة مفصولة عن الجغرافيا. تتوزع السلطة بين قوى تمسك بمناطق دون أن تمسك بالدولة، وتسيطر على موارد دون أن تمتلك السيادة، وتبني مشاريع سياسية تقوم على الجغرافيا الناقصة فتبدو قوية في لحظة لكنها هشّة في الزمن.
هنا تتبدّى خطورة الطروحات التي تتعامل مع الانقسام بوصفه حلًا، لا بوصفه تعميقًا للأزمة. فالدولة التي تقوم على الساحل وحده مهما امتلكت من موانئ ستظل رهينة الخارج، والدولة التي تنغلق في المرتفعات مهما امتلكت من قوة عسكرية ستظل محاصرة اقتصاديًا. الانفصال في السياق اليمني ليس حلًا سياسيًا بل فشلًا جيوبوليتيكيًا مؤجلًا.
الدولة في اليمن لا تُستعاد بالشعارات ولا بإعادة رسم الحدود بل بإعادة وصل ما انقطع بين الجبل والبحر وبين القرار والموارد وبين الداخل والخارج. أي مشروع سياسي يتجاهل هذه القاعدة محكوم عليه بأن يكون مؤقتًا مهما بدا واقعيًا أو مدعومًا. فاليمن بحكم موقعه وتاريخه لا يقبل إلا دولة تُحسن قراءة جغرافيته.
في المعادلة المعاصرة لا يأتي النفط بوصفه بديلًا عن الجبل أو البحر، بل كعنصرٍ مُربِك لهما إن أُسيء إدخاله بحسابات ضيقة، أو مُعزِّز لهما إن أُحسن توظيفه. النفط في اليمن لم يتحول إلى قاعدة سيادية بل ظل موردًا منفصلًا عن منطق الدولة الحديثة ولذلك لم يؤدِّ إلى الاستقرار بل غالبًا إلى تعميق الاختلال.
النفط بطبيعته مورد «صامت» جغرافيًا لا يحمي نفسه ولا يصنع سلطة بذاته ولا يبني دولة دون إطار سياسي قادر على تحويله إلى معنى سيادي. في اليمن تركز النفط في مناطق صحراوية أو طرفية جغرافيًا، بعيدة عن مركز القرار التاريخي في الجبل، وبعيدة في الوقت نفسه عن الموانئ الكبرى القادرة على إدخاله في دورة اقتصادية وطنية متماسكة. هذه القطيعة جعلت النفط يتحول من رافعة دولة إلى موضوع صراع ومن أداة توحيد إلى عامل تفكيك. في النموذج المتوازن النفط يجب أن يكون الحلقة الثالثة في المعادلة لا مركزها. الجبل يمنح الشرعية والسيطرة، البحر يمنح الانفتاح والتجارة، والنفط يمنح القدرة التمويلية لتعظيم الدور لا لتعويض النقص.
الخلاصة: الدولة في اليمن تبنى على توازن دقيق بين الجبل الذي يمنح القرار والحماية، والبحر الذي يمنح الاتصال بالعالم، والنفط الذي يعزز القدرة. أي مشروع سياسي يقوم على أحدها دون الآخر محكوم عليه بالهشاشة مهما بدا قويًا في بدايته، لأن الجغرافيا اليمنية ترفض الانفصال كما يرفض التاريخ تكرار التجارب الفاشلة.
*من صفحة الكاتب على منصّة إكس






