من السماء إلى الأرض!
الساعة 07:50 مساءً
  • رئيس مجلس الإدارة رئيس التحرير

صوت كابتن الطائرة يأتي من ميكروفونات شفافة، مجهَّزة لنقل صوته الرصين القادم من قمرة القيادة إلينا، وهو الراعي الذي يقودنا إلى المهبط الآمن بإذن الله.


من يجلس على نافذة الطائرة في نهار رائق كالذي سافرت فيه، يرى كل شيء من الأعلى؛ حيث تبدو السحب على مرمى حجر منك، وترى الأرض بعيدة كبُعد السماء وأنت مستلقٍ على أعشاب فناء منزلك الجميل، متأملًا تلك السُحب البعيدة جدًا.


أنا الآن أطير في علٍ متوهج مثل نجم سماوي عظيم، أتأمل عروج النبي صلوات الله عليه، قبل ألف وأربعمائة سنة، كيف كانت مشاعره، وهو يبتعد أكثر مما وصلنا إليه – ربما بآلاف الكيلومترات – حتى دنا فتدلى، فكان قاب قوسين أو أدنى.


ما كذب الفؤاد ما رأى.. وأنا أشاهد بعينيّ الصغيرتين انهيار النهار ودنو الليل القريب، مع وصولنا الآمن بسلامة الله إلى مطار آخر يبعد عن موطن سكني وعائلتي ثلاثة آلاف كيلومتر، وهو أمر سهل بحساب الزمن مع ناقلة حديدية تنفث محركاتها بشراسة، وتمخر عباب السماء لتدنو من أقرب نجمة متلألئة هناك. وأسأل نفسي: أين تغور النجوم في الصباح؟ هل تبقى في مكانها حتى يغمرها ضوء الشمس، كما يفعل بأيامنا المتلاحقة، فتغيب عن أنظارنا القاصرة، ثم يأتي الليل لتستعيد وظيفتها الأثيرة، فتكون زينة السماء؟


قال أحدهم: إن النجوم يتجملن كل صباح، حتى الغسق، فيعدن إلينا بكامل زينتهن، متوهجات، متأنقات، متألقات، مضيئات، وأنوارا.


في الأعلى، قبل أن تُحلّق الطائرة، كان رجل المطار الذي يحمل إشارات مضيئة في يديه يبدو عاديًا، والمبنى الذي يخترقه ممر الوصول إلى بطن الطائرة يبدو كبيرًا، والسقف عالٍ وأنيق. عندما بدأت الطائرة في الارتفاع نحو السماء، تضاءل كل شيء، حتى بات مسمار الجناح الأيمن للطائرة أكبر من حديقة ضخمة، وأوسع من قصر باذخ يفوق سعره ملايين الريالات. وأما القطعة المعدنية الصغيرة المُعلّقة بالجناح النفّاث فأكبر بعشرات المرات من حيّ سكني كامل. وأُحدِث نفسي: كيف تكون هذه الأشياء الصغيرة كبيرة؟ وأنا في الأعلى أحلق كما النسر الذي جعله أجدادنا رمزًا لهم، ويظل السؤال حائرًا: ألهذا جعلوا من الوعل الساكن في أعالي الجبال حيوانًا وطنيًا وقربانًا نادرًا يتقربون به إلى الله في مذابحهم المصنوعة من المرمر والرخام الرائق؟


الوعل يرى البشر صغارًا، ويرونه بعيدًا مثل نقطة في صفحة الجبل الأشم. وما أكثر الجبال والصخور المترامية في بلادي العنيدة، وقد صار بعض أهلها يأكلون بعضهم، ويجوعون، فيأكل القوي منهم الضعيف، ويبخل الغني على الجائع، ويكثر اللصوص، ويتزاحم الناس على صغار الأراضي، ويتعاظم الفساد دون ناهٍ، وقطاع الطرق يكمنون في بطون الليل والأودية لاصطياد العابرين الآمنين، وتتزاحم الشعارات، وتبدو الحياة بائسة بأكثر وأوحش مما يجب.


لو أن اليمانيين يصعدون جميعًا إلى الأعلى، ترجُ حيواتهم فوق السُحب لزمن محدد، ينظرون من هناك إلى الجغرافيا التي صارت آثمة، والتباب التي أراقوا عليها دماء عيالهم دون مبرر، والحدود المصطنعة التي رسموها لأنفسهم ومناطقهم، والثروات التي اكتنزوها لمستقبلهم الرديء، والعداوات التي اكتسبوها من أجل قطعة أرض، هي الآن– عندي– لا تُقارن بحجم مسمار صغير من المعدن الرخيص.


ترى، لو أنهم كانوا هنا فوق السحاب، يهيمون على الجبال البيضاء الوثيرة كأسرّة القطن الدافئ، ليروا ضآلة ما كانوا يفعلونه على الأرض، وفداحة ما هم عليه من الصراع، والتشابك، والاشتباك، والولع المشتهي للسيطرة والنفوذ، والإيغال المجحف في الظلم، والولع المتقد للدم، والبسط الآثم على أراضي الضعفاء والمستضعفين، هل كانوا– لمجرد هبوطهم إلى الأرض– سيقلعون عن عداواتهم المترابطة بالحسد والضغينة والقلق وثائرات الغضب؟


ترى، هل كانوا سيبتعدون عن الآثام، ويبدؤون في الصفح الجميل والعيش المشترك، أم أنهم سيُقطِّعون طريق السُحب، ويمنعون الطائرات من التحليق، ويتعالون على البشر الذين في الأرض، فيطلقون عليهم أوصافًا دونية، ويتبخترون في سُحبهم، ثم ما يلبثوا أن يُحقِروا بعضهم، فمنهم من يعلن أنه الولي الفقيه، وأن جدّه أغلى من جدّ جاره الذي يسكن معه في السحابة البيضاء، فيجعلون سكان السحب حسب المساحة والمُسمى، كأن يكون ساكن المُزن أعلى مرتبة من ساكن السحابة!


هل كانوا سيسمحون للودق بالخروج من خلاله إلى أهل الأرض، أم سيخترعون لهم “خوثيًا” و”سيدًا” ليُعبّدهم، فيقتِلون ويُقتلون، ويحبسون ما أفاء الله به على أهل الأرض، ليفرضوا عليهم الخُمس، بحُجة أن أقلية بخيلة منهم تدّعي نسبًا زائفًا إلى النبوة المحمدية.


النفس اليمانية غيورة وغاضبة على الدوام، هذا الغضب من عدم اتساقها مع جيرانها في الثراء والاستقرار، يدفع غالبها إلى السخط مما حولها، ومن حُكّامها وحُكّامهم. وأما إذا أعطاهم الله تعالى من فضله، قد “يجحد” بعضهم، كمثل أصحاب القرية الذين حلفوا ألا يدخلنها اليوم عليهم مسكين، فأصبحت قراهم ومزارعهم كالصريم.


وتُرى لو صرنا في السحاب، بجواري الآن، حيث أجلس على كرسي وثير تقريبًا في المقعد الأول، وحولي طاولة يزينها إبريق دافئ من القهوة الرائقة اللذيذة، وقطعتان من الكيك المُحلّى بالفانيلا، وصحن صغير من السلطة الخضراء المخضّبة بعصرة زيت زيتون بكر، وكأس ماء بارد.. هنيئًا مريئًا، واللهم لك الحمد على نعمك وفضلك وحُسن رعايتك. تُرى، هل كنا سنرضى بالهبوط إلى الأرض مرة أخرى؟


لقد هبط آدم وزوجه بسبب العصيان، وهبط اليمانيون عن الأرض الفالحة والثمار اليانعة والحياة الراغدة بسبب المعصية التي لم يستغفروا ربهم عنها حتى الآن، فما يزال أكثرهم في كل وادٍ يهيمون، يضربون بعضهم بالقنابل والأسلحة والوشايات الرخيصة، حتى صاروا أهبط أهل الأرض هبوطًا. وكلما زادت معاصيهم، اتسعت حفرة البقاء، لتصبح قبرًا عملاقًا لا يراه إلا الذي غادره.


لقد غادرت، ولم أزل فوق السحاب، حيث آمل أن يرى اليمانيون من هناك صراعاتهم البغيضة بغيضةً وعجيبة، عديمة الجدوى، فلا شيء سيبقى من ذلك كله. ولو أنكم ترون من الأعلى ما تملكونه وتتصارعون من أجله كما أراه الآن، لكففتم أسلحتكم ونيرانكم، وخجل الطغاة من أنفسهم، فالدنيا بأسرها – والله – لا تساوي جناح بعوضة. وإن هذا الجناح الذي يرف لذُبابة صغيرة سافرت معي من أرض مطار الرياض نحو وجهتي القادمة بإذن الله، لهو أكبر من مدينة عملاقة بحجم صنعاء.


فهل من مُدّكِر؟

.. وإلى لقاء يتجدد