مفهوم "الغير" عند الكاهن الرسي.. كيف أسّست الزيدية الهادوية لرؤية تكفيرية وعنصرية؟
الساعة 10:25 مساءً

لم يؤسس الكاهن يحيى بن الحسين طباطبا، مؤسس الزيدية الهادوية، نظام حكم ثيوقراطيا فحسب، بل أرسى رؤية تقسّم المسلمين إلى "نحن" و"الغير"، "أهل الحق" و"أهل الضلال"، وفي فكره، المخالف ليس مجرد مختلف، بل عدوّ يجب لعنه، ونجس لا تؤكل ذبيحته، ومصدر البلاء الذي يجب اجتثاثه.

فالرسي يستخدم تعبير "الغير" بكثافة ليتحدث عن كل من خالفه، فلا يُسمّيهم بمذاهبهم أو بأسمائهم، بل يذوبهم في وصف عدمي: "وقال غيرنا، ويرى غيرنا، وأما غيرنا".

هذه ليست مجرد صياغات لغوية، بل إعلان قاطع عن أن الحق محتكر في ذاته وسلالته، وكل ما سواهم ضلال يجب إقصاؤه.

في هذا الفكر، الغير ليس فقط المختلف، بل هو المضل، والخطر، والسبب في ضياع الأمة، والواجب التحذير منه فكريا، والانعزال عنه اجتماعيًا.

ويظهر ذلك في موقفه من العلم.

الهادي يحذر من الأخذ عن المخالفين، بل يرى أن التعلم منهم ضلال، وأن من يجالسهم أو يتلقى عنهم العلم، كمن يضع نفسه في طريق الفتنة، ويستحق أن يُطعن في دينه.

لكن أخطر ما في هذا الفكر أنه لا يكتفي بالإقصاء الذهني، بل يخلق نجاسة طقسية للمخالف، فهو يُحرّم ذبائح أهل السنة والجماعة، الذي يسميهم المرجئة، والمجبرة، بل ويضعها في مستوى ذبائح اليهود والمجوس، ويقول:

"ذبائح المجبرة والمرجئة والمشبهة والمجسدة لا تؤكل، كما لا تؤكل ذبائح أهل الكتاب."

هذا التحريم ليس مسألة فقهية، بل إعلان واضح: أنتم لستم مسلمين في نظرنا.

وفي قمة هذا الهرم العدائي، يأتي موقفه من الصحابة.

فهو لا يرى فيهم رموزا للمرحلة الأولى من الإسلام، بل مصدر البلاء كله، يقول عن أبي بكر وعمر: "أوجب على نفسه وعلى صاحبه الكفر بالله والقتل"، ثم يُصرّح: "عليهم لعنة الله من يومهم ذلك إلى يومنا هذا."

ويُجيز سبّهم، ويعتبر ذلك من البراءة الواجبة، لأنهم– حسب رأيه– غيّروا الدين، ونقضوا العهد، وتمردوا على الرسول وعلى أهل بيته.

هذه التصورات، التي وضعها الرسي وكرسها كل أئمة الزيدية من بعده، ليست تأملات دينية، بل أدوات لتشكيل وعي عدائي، يرسخ العداوة مع المخالف، ويمنع كل جسور التواصل، بل يجعل القطيعة فريضة.

الإمامة… حجر الزاوية وميزان الإسلام 

لفهم موقف الرسي من "الغير"، لا بد من الوقوف على الفكرة المهيمنة على تراثه الفقهي، وشكله الذي طرحه لا كنظام حكم قابل للتداول، بل كعقيدة دينية راسخة، في مواجهة مباشرة مع مفهوم الخلافة السائد عند جمهور المسلمين.

فرفع الرسي شأن الإمامة حتى جعلها الركن الثالث من أركان العقيدة بعد الإيمان بالله ورسوله، ففي كتابه الأحكام يؤكد: "لا يتم إيمان امرئ حتى يعتقد بأيقن الإيقان أن ولاية علي بن أبي طالب واجبة على جميع المسلمين، فرض من الله رب العالمين" (الأحكام، ج1، ص15).

ومن لا يؤمن بهذا الركن– بحسبه– "فقد رد كتاب الله ووقع في الفجور والكفر" (الأحكام، ج1، ص16).

هذا التأسيس العقدي الصارم مهد لتكفير كل مخالف، بدءا من الصحابة وصولا إلى عامة الأمة.

تعريف "الغير": من هم أعداء السلالة؟

انطلاقا من مركزية الإمامة، حدد الرسي "الذات" حصريا في خرافة آل رسول الله من ذرية الحسن والحسين، واعتبرهم المصطفين للحكم. وبالمقابل، صار كل من هو خارج هذا الإطار "غيرا" معاديا، صنفه في مستويات:

الغير التأسيسي (التاريخي): الصحابة الذين– بزعم الرسي– نازعوا عليا حقه الإلهي، وعلى رأسهم الخلفاء الثلاثة أبو بكر وعمر وعثمان، الذين وصفهم بأنهم: "غصبوا الحق، وخانوا الله ورسوله، ووالوا أعداءه" (المنتخب، ص203).

الغير الفكري (الأيديولوجي): وهم علماء المذاهب الإسلامية الأخرى، ممن لم يجعلوا الإمامة أصلا من أصول الدين، وأطلق عليهم مرارا عبارة "غيرنا" ترسيخا للفصل والقطيعة.

الغير السياسي (المعاصر): خصومه المباشرون، وفي مقدمتهم الخلفاء في عهده، و"أهل اليمن" الذين رفضوا دعوته وقاتلوه.

مقتضيات الإمامة: التبعات العملية لمفهوم الغير

وبهذا تصبح الإمامة عند الرسي منظومة ملزمة، ليست مجرد فكرة جدلية، بل نظاما يعيد تشكيل المجتمع وفق قواعد حصرية:

إقصاء ديني: من لم يؤمن بالإمامة فهو كافر، ومن قاتل الإمام العادل فهو "باغٍ" يحل قتاله، وقد نص في الأحكام صراحة: "من قاتل الإمام من أهل البيت، فقد كفر كفرا يخرج به من الإسلام" (الأحكام، ج2، ص47).

إقصاء سياسي واجتماعي: الرافض لبيعة الإمام من آل البيت تسقط عدالته، وتُرد شهادته، ويُحرم من الفيء والعطاء، وقد يُعاقب بالحبس أو النفي.

امتيازات حصرية للذات: تخصيص الخُمس من الغنائم لذرية الحسن والحسين، وتحريم الصدقات عليهم "لرفعتهم"، وجعل ولايتهم شرطا لقبول العبادة ودخول الجنة، ووصل الأمر الى تحريم الزواج لهاشمي من غيرهم.

لم يكن مفهوم "الإمامة" عند الكاهن الرسي مجرد اختلاف فقهي حول نظام الحكم، بل كان تأسيسا لرؤية تقسّم العالم إلى "ذات" مصطفاة مقدسة و"غير" مقصي مستباح، مبررة التمييز الطبقي والهيمنة السياسية باسم الدين.

هذا الفكر، الذي انطلق من زعم المظلومية والحق المسلوب، رسّخ في النهاية صراعات دموية طويلة، وترك في التاريخ اليمني إرثا من الانقسام على الهوية والشرعية

وبعد أكثر من ألف عام، ما زال "الغير" حيا، لكن بثوب حديث، فهذا التراث لم يُدفن في بطون الكتب، بل بُعث من جديد في سلوك جماعة الحوثي، الإماميون الجدد، التي ورثت عن الرسي طباطبا منطق "الغير"، وأعادته للحياة بأشكال حديثة.

في مناهج التعليم، في خطب الجمعة، في الإعلام، وفي التصنيفات اليومية التي يسمعها الناس في مناطق سيطرة الحوثي: "نحن أنصار الله" وغيرنا نواصب، مرتزقة، عملاء، دواعش…"

يرتكبون المجازر ثم يُبررونها بأنهم يطهرون البلاد من "الغير"، يمنعون الإغاثة عن الناس ويقولون إنها لا تجوز للمنحرفين عن "الحق"، ويُقيمون إمبراطورية قمع تحت ذريعة الدفاع عن "الولاية" و"الحق الإلهي".

وهنا تصبح الفكرة أخطر من السلاح، لأن السلاح قد يُنزع، لكن الفكرة، إن لم تُكشف وتُفكّك، ستظل تُعيد إنتاج نفسها في كل جيل.

لهذا نحن بحاجة لفهم هذا التراث، لا لنشعل فتنة، بل لننزع الفتيل، لنكشف كيف صُنعت ثنائية "نحن والغير"، وكيف استخدمت لتكريس العنف، ومنع التعايش، وتحويل اليمن إلى حقل صراع دائم.

نحتاج لوعي جديد:
يرى في الناس مواطنين، لا رعايا،
يرى في التنوّع ثراء، لا تهديدا،
وفي الخلاف فرصةً للنقاش، لا مبررا للتكفير.

إن كشف هذه الجذور ليس ترفًا فكريًا، بل ضرورة وجودية لبقاء اليمن دولة لكل أبنائه، لا مزرعة للولاية ولا حقلا لمعارك الغازي الرسي وتراثه وسلالته.