"سلمان للإغاثة" يوقع اتفاقيتين لتوزيع 600 ألف سلة غذائية وبرامج مهنية وصحية في اليمن
عضو مجلس القيادة البحسني يلتقي نائبة رئيس بعثة السفارة الألمانية لدى اليمن
الكابتن بن نهيد يبحث مع رئيس الأكاديمية المصرية لعلوم الطيران التعاون بمجال التدريب
وزارة الأوقاف تُطلق "دليل الحاج والمعتمر" لخدمة ضيوف الرحمن
اليمن والسعودية توقعان اتفاقية لدعم استدامة تشغيل المرافق الصحية وتعزيز قدرات وزارة الصحة اليمنية
طارق صالح يوجه بإنشاء منظومة طاقة شمسية لكليات جامعة تعز في التربة وتجهيز معمل حاسوب
وزير الخارجية يلتقي السفير الأمريكي لدى اليمن
وزارة الزراعة والري تتسلَّم حاجز سد شعب الناشع المائي بالضالع من الجهة المنفذة
إصابة امرأة برصاصة قناص حوثي غرب الضالع
طقس حار بالمناطق الساحلية والصحراوية وأمطار رعدية بالمرتفعات الجبلية
رئيس مجلس الإدارة - رئيس التحرير
دخلنا صنعاء ..
فلم ننتظر من أحد أن يفرش لنا سجادة النصر. كُنّا نحن السجادة، والغبار المتراكم في العيون منذ عشرة أعوام، والخبز اليابس الذي أكله الأطفال على عتبة الانتظار، والحلم الذي ظل محبوسًا في قنينة غاز فارغة بداخل مطبخ فقير. وثبنا كما يثب السهم من قلب رمح قديم، لا ينكسر ولا يلين.
لم أذهب إلى أبي أولًا، أو إخوتي، وهُم الذين حفروا في ذاكرتي ممرًا من صمت. كان الطريق الأول إلى مؤسسة الثورة للصحافة، المبنى الذي علق صور الأبطال على جدرانه وسمّاهم "الخونة"، وكتب طيلة عشر سنوات ما لم تكتبه أعتى أنظمة القمع، دلفت بوابته القديمة التي كادت تُنسى، وأعلنت من هناك بداية عهد جديد ..
جلست إلى الطاولة المهترئة، وكتبت كما يُصلّي الصدّيق في الليلة الجديدة، ومثل همس النصر في أذن الجرحى "تحررت صنعاء، وسقطت الإمامة مرة أخرى"
غير أنها هذه المرة .. لن تقوم لها قائمة.
▫️▫️▫️
في يوم التحرير المجيد، صدرت النسخة التاريخية الأولى، غلفناها بالياسمين، وزينّاها بصور الأطفال الذين لم يُولدوا بعد، أولئك الذين سيقرؤون ذات يوم ويعرفون أن الحرية فقط من تدفع رواتب الموظفين، وهي وحدها من تبني المدرسة، إنها خبزٌ في اليد، ودفتر على الطاولة.
▫️ ▫️ ▫️
طبعنا مئات الآلاف من النسخ ..
وزعناها مجانًا على الأرصفة، في الأسواق، بين كتب الجامعات، وعلى أبواب المساجد التي كانت تُسبّح لغير الله تحت لافتات سُلالة بني "هاء"، أولئك الذين لم يؤمنوا يومًا بالمواطنة العادلة، فالشعب في طغيانهم وقود لطقوسهم، وخراف لمذابحهم، وجدران لحروبهم الموروثة.
▫️ ▫️ ▫️
رأيت اليمانيين من شُرفة المكتب، يضحكون لأول مرة بعيون كاملة. لا يخشون مُشرفًا مُسرِفًا، ولا انتظار لعطايا "سيد لص"، لكأنهم اكتشفوا أن الجثة التي تحكمت فيهم كانت لبقايا "شخص" لا يعرف في حياته غير القبو، ولم يفكر بأمر حقيقي سوى السجن.
عبدالملك الخوثي .. جثة ميتة كانت تمشي من كهف إلى آخر، يُكلّم الناس من وراء الشاشات عن مزاعم "الحق الإلهي" فيما يمتصّ بشره صموت دم البلاد كما تفعل الضباع بأرواح الجثث. لكن اليمانيون اليوم دفنوه، تحت الأرض، وفي وعينا، وعلى دفاتر التاريخ.
▫️ ▫️ ▫️
خرج الناس إلى الشوارع، كيّ يتنفسوا..
خرجت العجائز من البيوت يتمتمن بالقول: كنا نظن أن التحرير لن يأتِ، لكنه جاء من أولادنا، بفضل من الله ونصر عزيز. وأقبل المعلم إلى فصله لأول مرة دون خوف من مشرف خوثي، وعاد المغني إلى مسرحه، والطفل إلى مدرسته، والأب إلى راتبه.
▫️ ▫️ ▫️
سيكتب التاريخ أن صنعاء قبل أن تحرر، أفاقت، استيقظت .. ونهض معها جيل جديد يعرف أن شعار الكراهية لا يُطعم أحدًا، وأن الحرية لا تُباع، وأن الوطن لا يُرهن لسُلالة لا تعرف الله إلا في دفاتر النسب.
▫️ ▫️ ▫️
في الداخل، كانت الجدران تبكي ..
جدران مؤسسة الثورة للصحافة والطباعة والنشر، عندما كانت الكلمات سجينة تحت أحذية المحررين الجدد آنذاك، من أطلقوا على أنفسهم اسم "أنصار الله"، وكانوا نقيضه، هم أنصار الظلام والخوف والجوع والمهانة.
..
لامست بأصابعي رفوف الأرشيف، فتحت الأدراج التي اختنقت فيها الحقيقة لأعوام. وجدت قصاصات مقالات كُتبت ثم مُزّقت، وصورًا صحفية حُجبت لأنها لم تكن تُناسب عمامة سوداء تعيسة، وتلك القصيدة التي كتبها شاعر شاب قبل أن يختفي في أقبية "عبدالرب جرفان".
..
جلست على الكرسي الخشبي العتيق، شعرت أني أوقظ مقعدًا شهد على زمنين، زمن الخوف، وزمن الخلاص.. فتحت جهاز الحاسوب، كتبت العنوان الأول "صنعاء تحررت .. وعاد اسمها يمنيًا"
طاب الخط في ضوء الشاشة الفضية المُبهِر أمامي، كأني نسجته من دموع الذين صبروا، وابتسامات الذين آمنوا، وحشرجة الذين قُتلوا على أبواب الحقيقة.
..
في الخارج، كان الوطن يرقص دون موسيقى. اليمن عندما يفرح لا يحتاج إلى ناي، فأنفاس الأمهات وحدها تلحنُ أعذب من ألف سيمفونية.
رأيت الأطفال يركضون كما لو أنهم طيور خرجت للتو من قفص. سمعت امرأة تهتف وهي تمزق صورة عبدالملك: هذا وجه الخوف .. وليس وجه إمام.
من صعدة إلى عدن، ومن المهرة إلى تعز، علِم الجميع: أن أدعياء الحق الإلهي سقطوا تحت أقدام أبطال الشعب، وأن الذين قالوا "الولاية" كانت أفئدتهم خواء، إلا من الطمع، وعيونهم ملئ بالحقد والحسد.
..
أوقفنا المطابع سبع ساعات، فقط لنضيف اسم كل شهيد في صفحة النصر، لأننا وعدناهم أن نكتب أسماءهم بالحبر، بعد أن كتبوه لنا كل يوم بالدم.
وأرسلنا نسخًا إلى الجبهات قبل أي مكان، فجنودنا كانوا أول من يستحق أن يقرأ:
أن صنعاء عادت،
وأن الجمهورية نهضت،
وأن زمن العنصرية والسُلالة انتهى .. دون رجعة.
بكيت وأنا أكتب الافتتاحية ..
لم أخجل ..
فكل كلمة في ذلك المقال القادم كانت طهارة لوطن تلوث طويلاً ..
كتبت:
الحرية لا تنزل من السماء.
الحرية تُنتزع من بين أظافر الطغيان.
الحرية معاش يُدفع، وأمن يُحفظ، وحقٌ يُصان، وقانون يسري، ومواطنة متساوية ..
هي المدرسة التي يُعلّق على بابها نتائج الطلاب، لا صُور الطغاة الفاشلين دراسيًا
كتبت:
لقد سقطت السُلالة.
سُحِقت، وتناثرت، كما يتطاير الغبار حين نفتح النافذة.
كتبت:
على كل أم أن تروي لأطفالها ما جرى،
أن تقول لهم: كنا في قفص،
وجاء إخوتكم ..
فكّوا الأقفال، وحرّروا العباد.
ثم وقعتُ بخطٍّ صغير أسفل الصفحة: كتبها من مقعده الأول بعد التحرير .. ابن الثورة الحقيقي.
(..)
في الأسواق، كانت النسخة تُوزّع، وتتلقفها الأيدي كأنها كسرة خبز على طابور جائعين، غير أن الجوع هذه المرّة كان للصدق، أكثر منه للطعام، وكل مواطن أمسك الجريدة، واحتضنها على مقربة من قلبه،
وأخذ يقلب الصفحات في وجل، كأنّه يخشى أن تكون خدعة أخرى من خدع السُلالة.
..
في "التحرير"، الرجل الذي فقد ابنه في جبهة نهم، جلس على الرصيف،
فتح الصفحة الأولى، نظر إلى العنوان الكبير،
"صنعاء ليست للهاشمية .. صنعاء لليمنيين"
ووضع يده على فمه وبكى.
ضحك الطفل بجانبه، وقال: بابا .. يعني خلاص؟ رجعت اليمن؟
تهدج صوت الأب دون أن ينظر إليه: رجعت .. لكنها تأخرت قليلًا.
..
وفي المقيل، حيث اعتاد الرجال الحديث عن الطقس والسُلالة وسعر القات،
كانت الجريدة اليوم سيّدة المجلس.
قرأ شيخ طاعن في السن فقرة تقول: إن الحوثي ليس إلا مشروع قبر جماعي
ثم نظر إلى من حوله بإستغراب، قائلًا: هذه أول مرة يكتب فيها أحدهم ما كنّا نهمس به.
..
في مجلس الوزراء الجديد، وقف وزير التعليم لأول مرة دون عباءة سوداء، تحدث بصوت متهدج: من اليوم، بل من اللحظة هذه، كل كتاب مدرسي سيبدأ بجملة: أنا يمني، لستُ تابعًا لدعيّ إيراني أخرق.
..
وفي الشارع، ثمة لافتة رفعها شاب لم يقرأ جريدة في حياته، كتبها بيده المرتجفة:
"علمونا في المدارس أن الطاعة فوق العقل، واليوم عرفنا أن الطاعة كان هي من يقتلنا بصمت.
..
وفي الساعة الخامسة مساءً، خرج المتحدث باسم الحكومة الجديدة. كان الطير الجمهوري على المنصة ناصعًا، براقًا، أخذ نفسًا عميقًا، وأعلن: صدر القرار الأول بعد التحرير:
يُمنع استخدام لقب سيّد أو مولى في الأوراق الرسمية.
المواطنون سواسية.
ولا صوت يعلو فوق صوت الإنسان.
..
وفي مؤسسة الثورة، التي غدت خلية نحل، كنا نطبع النسخة الثانية من الجريدة، فقد نفدت الأولى مثلما تُفنى أمنية عند طلوع الفجر.
كل صحفي يكتب بعنف، وكأن قلمه مدفوع بنبض شهيد، وكل مقال يُغرس في الصفحات مثل عود بخور تسامق على قبر مجهول ..
لنخبره أن الوطن عاد.
وفي الردهة، عبر طفل صغير يحمل نسخته راكضًا نحو عمّه صائحًا: أبي يقول لك، اقرأ هذا، هذا اليمن الحقيقي.
..
في قرى لم تعد تعرف الضوء إلا كما يعرفها الحنين، وفي بيوت سقفها الدُعاء والإيمان والسحاب المركوم، كان وصول الجريدة أشبه بوصول العيد في زمن المجاعة.
وصلت نسخة واحدة إلى قرية في حراز،
تداولها أربعون رجلًا،
جلَسوا تحت شجرة لوز عجوز،
وأخذوا يمررون الورق كما يُمرر المسباح في مجلس ذكر بهيج،
كلّ واحد يقرأ بصوت،
وكلّ آخر يبكي بصمت.
قال أحدهم:
أخيرًا .. الكلام يخرج من فمنا نحن، لا من فم السُلالة. وردّ آخر وهو يشير إلى مقال في الصفحة الأخيرة: انظر .. كاتب يمني يقول: لم نُخلق عبيدًا، ولا خدمًا في مزرعة بني "هاء".
في جبل صبر،
امرأة أرملة خرجت إلى سطح بيتها الطيني، رفعت الجريدة بيديها إلى السماء، نادت : يا الله .. هذه الورقة أغلى من زفة العيد.
وفي وادي مور،
رجل ضرير طلب من حفيده أن يقرأ له الافتتاحية، فلما وصل إلى جملة: عبدالملك الخوثي هو الوهم المشؤوم الذي خرج من فتحة سرداب ..
ضحك الرجل حتى سال دمعه،
وقال: هذا الذي قلتُه للناس في منامي، لكنهم لم يفهموا
في مدينة إب ..
وُزّعت الجريدة في الباصات، والأكشاك، على أبواب المدارس، رأى الناس وجوهًا جديدة تُدير التوزيع، لا يحملون سلاحًا، ولا يسألون عن اسمك الثلاثي، ولا يطلبون "الهوية" كما كان يفعل الرُسل السيئون للسلالة.
وفي السدّة ..
رفع أحد المعلمين الجريدة، وقال لتلاميذه:
هذه شهادة ميلاد جديدة لليمن.
وفي الحديدة ..
كان صبيّ يبيع الصحف على الرصيف،
قال لرجل مسنّ سأله عن السعر: اليوم مجانًا يا عمّي .. التحرير لا يُباع وليس له ثمن.
ورجل آخر قرأ العنوان الذي يقول: موت السُلالة إعلان لحياة الجمهورية، ثم أردف قائلًا: يستاهل عبدالله السلّال أن يعود اليوم من موته، ليضحك معنا قليلًا.
حتى الشمس كانت تشرق على البيوت بطريقة مختلفة. والأبواب الخشبية التي كانت تُغلق خوفًا، انفتحت هذا الصباح على نَفَسٍ جديد، فيما الهواء نفسه يبدو قد تحرّر من غبار الكهنوت.
وفي بيت صغير في ريمه ..
كتبت طفلة في دفترها: اليوم قرأت صحيفة الثورة مع أبي .. وعرفت أن الوطن ليس قصيدة،
أو صرخة،
ولا لافتة،
إنه .. أنا
..
في دار الرئاسة، التي غادرتها الكرامة يوم دخلتها عمامة إيران الدموية، دخلها اليوم ضوء ..
كان كل شيء صامتًا ..
يخشى المكان أن يتنفس قبل أن يُعلِن عن نفسه من جديد.
في القاعة الكبرى، التي عُلّقت فيها صور "الوصيّ المنتظر" لسنوات، سقطت آخر صورة.
لم تطالها يد، ولم يُمزقها أحد
سقطت وحدها،
كان الجدار ذاته يتبرئ منها.
دقت الساعة العاشرة صباحًا، وقف رئيس الجمهورية، رئيسٌ بلا نَسَب مقدّس، وبلا عِرق مُختار، ابن فلاح من تعز: اسمه رشاد العليمي: قال: من هذا اليوم، يعود اليمن إلى ناسه. ثم أشار بيده إلى الشاشة العملاقة خلفه، فانطلقت المقطوعة.
كانت موسيقى .. فقط موسيقى ..
لا صراخ ولا صرخة، لا موت لأميركا، ولا لعنات ..
مجرد نوتة عزفها فنان يمني على العود في صعدة، واختلطت مع صوت صبيّ ينشد في تعز، ورنين بابور ماء في ريمة، ودفوف عرس في مأرب.
لم تكن الموسيقى بقادرة على إعلان الجمهورية،
إنما عرّفتها.
وفي تلك اللحظة،
على جبل نقم،
ارتفعت الأيادي،
ورُفع العلم.
ذوت الصرخة الخمينية، وتجلت راية اليمن، وتماهت الألوان المسروقة من تاريخ الحسين رضي الله عنه.
راية اليمن الجمهوري، ثلاثية الألوان، تحمل بين خطوطها دم الشهداء وعرق المقاتلين وحلم الأمهات.
هتف الناس في الشوارع ..
هتفوا من نوافذ المستشفيات،
من الحقول،
ومن مقاهي الإنترنت،
من عتبات المساجد التي طُهّرت من الخرافة.
رددوا معًا : الجمهورية باقية .. والسُلالة إلى زوال.
وفي لحظة الصمت،
سمع الجميع شيئًا عجيبًا ..
صوت الأرض اليمنية ..
يـبتسم.
..
في أول فجر بعد التحرير،
فُتحت المدارس .. كأنه يوم بعثها، وعُلِقت الزينات على أبوابها، وصدى صوت فرقة الإنشاد اليمنية يغني من داخل الإذاعة المدرسية: توقدي توقدي مشاعل الفخار .. والكل يُدندن وراءهم فرِحًا.
في صنعاء، دخل الأطفال إلى فصولهم،
شاهدوا السبورة قد اغتسلت من عبارات الصرخة الإيرانية الميتة، والمميتة، ولم تعد الجدران مُلطّخة بصور أصحاب السلالة، فلا "سيدٌ دعيّ" يقول: أنا باب الله وأنتم قطيعي.
كتب المعلم على اللوح: الوطن لن يكون فِرقة، إنه فكرة .. ثم التفت إلى تلاميذه وسألهم: من يعرف ماذا تعني كلمة مواطنة؟
رفع طفلٌ يده، وقال: يعني أنا مثل أيّ واحد، حتى لو ما أعرف اسمه الكامل.
ضحك المعلم، وبكى في الوقت ذاته.
وفي مسجد الفليحي ..
وقف الإمام الجديد بلا عمامة، قال للمصلين: لقد جاءت الحرية ومعها أطل العناق اليماني الذي كان صعبًا، وخُمدت الفتنة، وعرفتم وعرفنا العدو، فحافظوا على وحدتكم، أثابكم الله.. ثم أطرق قليلًا، ورفع رأسه، وبدا مُشرقًا، أشار بيده في الهواء، قال: وأقيموا الصلاة.
جاء صوته مثل ماء البئر في يوم حرور. كرّر: سنبدأ من جديد. فلا فرق بين الناس، ولا فضل لفقيه على نجّار، إلا بما يُصلح الأرض.. ونزل من المنبر في خفة طفل صغير.
عقِب الصلاة، لم تُطلق الرصاصات في الهواء، تعالت زغاريد الأمل، انتشر الناس في همس يدور: إنها أوّل خطبة لم نرَ فيها أي تهديد.
في القرى ..
الكتاتيب التي كانت أوكار تخلف، تحوّلت إلى مدارس حقيقية. وعِوضًا عن تدريس نسب زيد، بدأوا بتعليم نسب كرب إيل وتر.
وفي مدينة ذمار ..
قال مدير مدرسة لطلابه: الهوية المدرسية من اليوم لا تسأل عن أصلك، ولكنها ستسألك بإصرار عن حلمك.
وعاد كتاب النحو بلا تزوير .. والتاريخ بلا تأليه، والدين بلا وسيط .. والجغرافيا ساكنة بلا فتنة.
جاءت أول بعثة تربوية من تعز إلى صعدة،
وكان أوّل ما فعلوه: رسموا خارطة اليمن على الحائط، دون ألوان تفريق، ثم قال أحدهم على جمع عريض من الطلاب الجُدد: هذا وطنك، احفظ شكله كما تحفظ وجه أمّك.
وفي جعبة طفل في الحديدة ..
ثمّ دفتر جديد، كتب في أول صفحة بخطّه المرتبك: في المدرسة اليوم قالوا لي إني يمني، دون أن يسألوا عن جدّي، ومهنتي !
وهناك، في مِقبرة دفن الموتى التي زُيّنت بالعشب الأخضر، ويحسب أنها "روضة شهداء"، أخرج أحد الجنود قلمًا عريضًا من جيبه، وكتب على لوح الرخام البارد: هذا سرداب وليس قبر، حفرة جُهّزت لتصنع آلهة من الطين، وتدفِن في الأرض كذبة أن الحوثي لا يموت !.
وكانت الجرّافات من وراءه، تزمجر في بداية العمل الكبير، الآلة الصمّاء، لا تسأل عن المذهب، أو الولاية، لم تكن لتحفل بالمعجزة الوهمية، أو عطور المتحللين في الأسفل، وروائحهم الزكيّة - كما كانت تروج دعاية الخوثيين المضحكة - مرّت فوق الإسمنت، وعلى أسطح الرخام، كما تمر الحقيقة على التمويه ..
ساحقة ..
نابشة ..
بلا خطبة
أو بيان.
وفي المكان الذي كان يُقال فيه: هنا يرقد جندي في جيش السماء ..
زرع طفلٌ شجرة.
وقالت أمه بصوت خفيض: أخيرًا .. شيء ينبت في الأرض ولا يُفجّر.
بعد أيام ..
تحوّل القبر إلى مرج ..
وصار الخوف ملعبًا
وسُمّيت الحديقة باسم كان محرّمًا: حديقة الجمهورية.
لا "زينب"
أو "كربلاء"
ولا "وعد بالجنة" لمن يُقتل ..
(..)
فقط مرجيحة ..
وصبي يقول لصديقه: فيما مضى، كان ممنوع علينا أن نضحك هنا.
.. وإلى لقاء يتجدد يا صنعاء.