الصين معجزة الحضارة وصوت المستقبل
الساعة 11:13 مساءً

حين تحط قدماك على أرض الصين، وتتنفس عبير بكين أو غيرها من مدنها العملاقة، تدرك أنك أمام مشهد لا يمكن للعقل أن يمر به مرور العابر، أنت أمام أمّة لم تكتف بصناعة نهضة اقتصادية أو هندسة عمران يلامس عنان السماء، بل شيدت تجربة إنسانية وفكرية وحضارية تصنع الدهشة وتلزمك بالتأمل العميق.

خلال عقود قليلة، تحولت الصين من عتمة الفقر والعزلة إلى وهج يضيء العالم، من أطراف القرى الريفية البسيطة إلى مراكز المدن المترامية، حيث القطارات فائقة السرعة تشق الزمن، والجامعات ومراكز البحث تصوغ الغد بمعايير مختلفة، إنها لوحة تمزج بين جذور ضاربة في 5 آلاف عام من الحضارة، وبين رؤية مستقبلية لا تعرف التردد.

في تفاصيل الحياة اليومية يتجلى السر: انضباط لا يعرف الفوضى، عمل ينساب بلا فراغ، روح جماعية تغني عن فردانية متعبة. الشعب هنا يعكس فلسفة أمة، ابتسامة صادقة، مساعدة عابرة في الشارع، ووعي إنساني يُعيد تعريف البساطة في عالم مضطرب.

وكان المشهد الأعمق حين شهدت العرض العسكري الصيني، لم يكن مجرد استعراض للقوة ولا تكديسًا لحديد أو نار، بل كان رسالة مكتوبة بلغة التنظيم والانضباط، لوحة تترجم كيف يمكن للجيوش أن تكون مدرسة للتخطيط الاستراتيجي، وكيف تصبح التكنولوجيا عمودًا فقريًا لأمن واستقرار عالميي. لقد رأيت في خطواتهم المتناسقة، وانضباطهم الصارم، ملامح أمة تعرف أين تضع قدميها في طريق المستقبل..

أما في قاعات الفكر والمحاضرات، فقد بدت الصين أكثر وضوحًا، فلسفة شراكة لا وصاية، تنمية لا استغلال، تعاون لا ابتزاز، إنها تطرح على العالم نموذجًا مختلفًا- أن تكون قويًا لا لتبتلع الآخرين، بل لتقيم معهم جسورًا من تعليم وطاقة وتكنولوجيا وبنية تحتية..

قال لي أحد الأكاديميين في جامعة بكين: "سر النهضة الصينية هو القيادة الموحدة وثقافة الانضباط والعمل الجماعي" كانت جملة قصيرة لكنها اختصرت ملحمة طويلة، حيث لا مكان للعبث أو الهدر، بل كل جهد يتم احتسابه بدقة، وكل إنجاز يتم تسخيره في خدمة المسار الكبير يتمثل في استمرار حضارة وصناعة مستقبل..

وإذا كانت دهشتي قد انطلقت من تفاصيل الحياة والإنسان، فقد تعمقت أكثر مع كلمات الدبلوماسي الصيني المخضرم "لي تشنغ ون"، حين أكد أن الصين تؤمن بالشراكة مع العرب، واستحضر في حديثه سد مأرب وزياراته لليمن في ثمانينيات القرن الماضي، ليربط بين حضارة الصين وحضاراتنا ، كانت تلك إشارة بالغة الرمزية هي أن الصين لا تسقط ذاكرتها، ولا تنسى روابطها، وتعيد إليها الحياة بزخم جديد..

اليمن، كسائر الدول النامية، بحاجة لأن تلهمها هذه التجربة، أن تقدس الانضباط، وتستثمر في التعليم، وتؤمن أن النجاح مشروع وطني شامل لا يخص فردًا أو حزبًا أو منطقة، بل هو قدر أمة بأكملها..

الصين اليوم ليست فقط قوة اقتصادية أو تكنولوجية، بل هي درس حي في فلسفة النهوض مفاده كيف تنتقل من قاع التاريخ إلى صدارة المستقبل دون أن تتخلى عن جذورك..

نعم، الصين ليست مجرد دولة عادية إنها بحق "معجزة الحضارة وصوت المستقبل".