أجهزة الأمن تضبط 43 متهما ومشتبها بقضايا وجرائم جنائية مختلفة
الإرياني يدين حملات الاختطاف الحوثية في إب ويكشف استهداف الأكاديميين والأطباء والمعلمين
بينهم عناصر خلايا حوثية.. الأجهزة الأمنية تضبط أكثر من 1500 متهم ومشتبه به في جرائم جنائية خلال شهر
مأرب تحتضن مجلس عزاء مهيب للعلامة الشهيد الشيخ صالح حنتوس رمز مقاومة الكهنوت
ارتفاع عدد ضحايا العدوان الإسرائيلي على غزة إلى 57338 شهيدا و135957 مصابا
قوات الجيش تحبط هجوما للمليشيات الحوثية في البقع بصعدة
الرئيس العليمي يهنئ بذكرى استقلال فنزويلا
وزير الصحة يوقّع إستراتيجية زيادة الإقبال على التطعيم ويلتقي مدير منظمة "ميد جلوبل"
عدن: بدء تأهيل 280 متطوعة لدعم حملة التحصين ضد شلل الأطفال
تدشين اليوم الحقلي لحصاد السمسم بمارب والوكيل مفتاح يكشف عن توجه لتوسيع زراعة هذا المحصول
رئيس مجلس الإدارة - رئيس التحرير
اكتسب الهاشميون ألقابًا لعائلاتهم في اليمن، واستوطنوا أريافًا ومُدنًا، وتملكوا شعابًا وأودية، وبنوا منازلهم كبقية اليمنيين، فأصبحوا جيرانًا في محيط واحد، وشغلوا وظائفَ في كل المؤسسات، وتحدثوا بلهجات اليمنيين المختلفة، صاروا جزءًا من ملامح اليمن، كان عليهم أن يكونوا كذلك، لكنهم لم يكونوا !
سجنهم أسلافهم خلف قضبان من الوهم، خطوط متعرجة في هرم اجتماعي ينتمي إلى اليمن مكانًيا، ويتجاوزه زمانيًا وإرثًا وهوية، يقول رجلٌ منهم إنّ لقبه العائلي ينتهي عند الكبسي، أو المضواحي، أو الجنيد.. وغيرهم، لكنه لقبٌ للاستخدام الوظيفي، للحصول على وثيقة سفر،لم يكن انتماءً وولاءً ووطنًا يحمده على أفضاله. ففي حيواتهم الأخرى يُكوّنون مجتمعًا آخرَ باطنيًا، وأفكارًا مرعبة لها فقهها الخاص، ومرويات أسلافهم الثورية، ودماء الحسين، وشهادة نسب تقول إنهم عيال النبي!، ومن بيدهم مقاليد كل شيء: السلطة، الدين، الثروة، الجاه، النفوذ والقصور، وعليهم يقع كاهل تفسير كل آية، وتأويل كل نص، وأن العِلم يأتي إلى أعماقهم من مكان ما كالوحي الصامت!. في ظل هذا الهراء أقنع الهاشميون عيالهم أنهم هاشميون قبل أن يكونوا يمنيين، ولهذه الأسباب يعود العنف إلى اليمن مهرولًأ نحو ساحل الفرات لاستكمال معركة "صفين"، ورفض الحوار الوطني!، فيموت سبعون ألفًا آخرين لا يعلمون شيئًا عما حدث ولماذا يموتون؟.
يولد طفل من عائلة هاشمية على أسوار مدينة ظامئة فتصبح مسقط رأسه، ويلقى أصدقاءه، ويتعرف إلى المجتمع، ويتسوّق، ويلهو، ويُحب، ويُصلي، كأنه واحدٌ من الناس، لكنه ليس كالآخرين - هكذا تسربت قناعاته مذ كان رضيعًا. إن من يراهم، ويأكل معهم، ويعيش بينهم، بالنسبة إليه مجتمعٌ اضطر للتعامل معه!، وعلى اختلاف تصرفات بعضهم، وأحيانًا رفضهم لهذا المنطق الاستعلائي، إلا أنهم لا يستطيعون الخروج من عباءة الهاشمية، فهي تعني لهم كل شيء، فوقع عبارة "حفيد النبي" لها نكهة ونشوة تجعلهم سعداء في أعماقهم، وأمثالهم من يقع عيالهم في خطيئة الخروج عن ورعهم وتقواهم فتجذبهم حركات التطرف العنصري بإشعال الحطب المدفون في أحشائهم، فيخرج التنين من رأس الإنسان نافث اللهب! وتنضج بفعل ذلك عيون الأمهات اللائي يبحثن في الفراغ عن فتى كان هنا، يتنفس ويضحك وقد استعد للزواج والنمو، وفجأه يتراجع عن الحياة، ويعدو مسرعًا نحو الجدّ الخامس للنبي الكريم صائحًا: لبيك يا جدي!، غير أن "هاشم" لا يسمعه.
شكّل هذا الكابوس الرافض لأي انتماء وطني محلي صراعًا نفسيًا للهاشميين مع أنفسهم، وبلدانهم، ومع الناس، وشكّلوا حالة عصبية سُلالية مُقلقة بعبورها الخارق للقارات والدول والمحيطات. يتجاوبون بسرعة مدهشة، فلمجرد أن يضغط أحدهم زر الاتصال يرتفع رنين الهاتف في الجانب الآخر من الكرة الأرضية، ويبدأ التفاعل بالصوت والصورة، وأحيانًا بالمال والسلاح والخبرات، ولأجل هذا قررت الحكومات الذكية مراقبة الأرقام المزعجة والتنصت على المكالمات ذات النطاق الواحد. في اليمن قرر الإعلام مراقبة أناس آخرين يعملون على الأرصفة، وينوءون بحمل دكاكينهم على ظهورهم طوال النهار، متفاعلين بفضول مع آخر أخبار الفيضانات في أقاصى آيسلندا شمالًا، إلى شلالات نياجرا غربًا، وغابات الكونغو جنوبًا. في ظل هذا الانفصال عن الواقع، تفاجأت النُخب اليمنية بأنها محاطة بأسئلة الناس الذين تهزهم ضربات راجمات الصواريخ على معسكرات صنعاء، لم يجدوا إجابة واحدة تفسر ظاهرة الاندفاع الهاشمي الثائر على حياة كانت أكثر عُمقًا - على ما يبدو.
لا أحد يستطيع إثبات نقاء سُلالته، حتى اليمنيين الذين يرفعون أصواتهم في مواجهة العرقية الهاشمية!. كانت الأرض مفتوحة لكل الناس، غادرت قبائل من أريافها، وارتحل مزارعون عن وديانهم بفعل القحط والحرب وأسباب أخرى، وتفرق أهل مارب في الأرض يوم أفاقوا على خيامهم تسبح في سيل العرم، وسافر بدو رُحل من مضاربهم للعيش داخل أسوار المدن، وتأسست دول بأسماء قادتها عربًا وعجمًا، وعاد آل رسول من أطراف العراق إلى تعز لإقامة دولة سُميت باسمهم، وتجمعت في أمريكا أعراق أمم عديدة تحت عباءة صنم واحد يرفع مشعل النار على ساحل ولاية نيويورك المدهشة. هذا التداخل البشري المُعقد في التناسب والتكاثر والهجرات خلق أممًا هجينة، ونقل هؤلاء إلى أرض غيرهم، واستبدل أممًا بشعوب وقبائل جديدة، وتطورت مجتمعات في نظرية حمايتها لأفرادها اقتصاديًأ وأمنيًا باختراع نظام إدارة جديد يُسمى الحكومة، وأنتجت العقول تحديثات أساليب الحُكم، وتوزعت ما بين رأسمالية واشتراكية، وجاءت النظرة الشوفينية المتعصبة للدول، وانتقلت الأساليب إلى الفيدرالية، الاتحادية، والملكية، والملكية الدستورية، والأنظمة الجمهورية، واخترع القذافي نظام الجماهيرية، وغادر أخيرًا كما غادرت النازية والفاشية، وجاءت الحدود بعد ملل طويل من الترحال، رغم اختراع القطار والطائرة، والسعي إلى اختراق الزمن، ليتحقق للهاشميين ما تمنوه بالانضمام إلى جيش "علي" وهزيمة معاوية، وتثبيت الحسين على عرش يزيد، ومنع أبي بكر الصديق من خلافة النبي، وكل الأشياء العالقة في الماضي.
التاريخ الجيني لتنقلات الأسلاف، وتزاوجهم من عرقيات ومجتمعات عديدة، خلقت اليوم هذا الكائن الذي بات يُعرف بإسم "المواطن الجديد" وهو اسم لم تعرفه البشرية إلا في زمن النظام العالمي الحالي، ولتأكيد "مواطنته" استلم شهادة ولادة حددت موعد بكائه الأول، ومنطقته، وحارته، واسم أمه وأبيه ولقبه، وفي لحظة خروجه من عالمه الطفولي يتسلم وثيقة تقول إنه صار رجلًا مسؤلًا عن نفسه وولائه وانتمائه إلى المنطقة التي يعيش فيها، وتُعرف هذه الوثيقة بـ "البطاقة الشخصية". ذلك يعني أن حاملها لا يستطيع الحصول على هوية أخرى إلا في حدود مُعقدة تقرها أنظمة الدول الأخرى، وصار الذين يعيشون في اليمن - مثلًا - يمنيون بحكم مسقط الرأس والجنسية الجديدة التي حُدّدت مساحتها الجغرافية، ونظامها، وطريقة إدارتها وأسماء حكومتها، وعَلَمها، ولغتها، وإحصاؤها السُكاني، في شكل واحد يُقسم أفراده يمين الولاء والانتماء للوطن بما له من موجبات الحماية والدفاع، وما على أنظمته من الحقوق في الإدارة والقوة، وبسط النفوذ والعدالة، وتوفير الأمن والرفاه لجميع المواطنين على قدم المساواة. الألقاب لم تعترف بأشكال الحصار الحدودي للمجتمعات، صديقي اكتشف أن لقب عائلته متوزع في مصر ونجران وسوريا وكردستان، وفي اليمن ينتشر على أربع محافظات، عائلته هي الأقرب لولائه ومنها قريته، ثم محافظته، ثم بلاده، ومنها إلى العرب، ومنهم إلى المسلمين كهوية دينية، ثم إلى العالم كجزء من البشر. إنه تسلسل طبيعي للعيش غير المضطرب.
* * *
هاشم رجل من قريش، وقد أصبح مهمًا جدًا يوصف أحفاده بـ "بني هاشم"، والده عبدمناف، وعمّه عبد شمس، ومن عبدمناف جاء نبي الله الكريم صلوات الله عليه، والعباس بن عبدالمطلب، وعلي ابن أبي طالب، والحسن والحسين، ومن عبدشمس جاء أبوسفيان، ومعاوية ويزيد، وتفرق ال هاشم فصاروا شعبين ينتسبان إلى العباس وأبى طالب، ثم صاروا أقل تحديدًا بوصفهم "العلويين"، وتجاوز الأمر علي بن ابي طالب لأنه تولى الخلافة وإن متأخرًا، واستقر المقام في الحسن والحسين، فقيل الحسينيون، وقيل الحسنيون، وتم التثبيت في هذه اللحظة الزمنية الحزينة. ومع تلاحق القرون انتشر الهاشميون، وتحولوا إلى عائلات لكل عائلة لقبها، واستوطنوا الكثير من بلدان العالم العربي والإسلامي، فتحول "هاشم" من اسم رجل إلى هوية تعبر الزمن والمكان كسُلالة واحدة تُقسِم أنها تنتمي إلى النبي الكريم من جهة ابنته.
السُلالة لها أشياع يوصفون بالشيعة، ولهم مذاهب متفرقة، تنوعت ذات زمن لصراعات فكرية وأدوار سياسية، لكنها لم تنس هويتها وباعثها: بني هاشم. في هذه الأثناء كان محمد بن إدريس الشافعي يُهندس الألقاب الدينية الجديدة للعائلة: فأطلق عليهم "آل محمد" ثم "آل البيت"، وأضاف واجب الصلاة عليهم في التشهد الأخير من صلاة كل مُسلم، وبهذا حققت العائلة مشهدًا مقدسًا وأبديًا.
رفض البعض هذه التسميات فأطلق الشافعي قصيدته الشهيرة:
إن كان حب آل محمد رفضًا
فليشهد الثقلان أني رافضي
واختلف المذهبيون، الاثني عشري يخالف الزيدي، وقد يصل الخلاف بينهما إلى التشكيك في الأصول الفقهية، لكنهما يتفقان على شيء واحد : هاشميتهما، وقياس ذلك من يرفض الحوثيين في اليمن لكنه يُستفز لرفض فكرة الهاشمية كهوية مناقضة للأوطان والسيادة والهوية.
في اليمن بالذات، وخلال قرون عديدة كان الهاشمي شخصاً لا علاقة له بالقبيلة كمكون أساسي للمجتمع، لا ينتمي إليها إلا كمسقط رأس، ولا يُعينها أو يدافع عنها أو يُمثلها، وقد استمرأ كثيرٌ منهم البقاء في المدن منذ نشوئها لتوافر أسباب التعلم والوظيفة الحكومية في القضاء والأوقاف، ولكونها سببًا للهيمنة الاقتصادية والإدارية على ما حولها من القرى والمناطق. صار الولع الهاشمي بالوظيفة والتجارة والنفوذ سمة أصيلة يُشكّل بها مستقبله، تاركًا الريف والمدرجات الخضراء، وفنون الزراعة لليمني الذي يولد ويموت لا يتقن شيئًا سواها.
الهاشميون الذين فضًلوا البقاء في الأرياف اشتغلوا كفقهاء دين، أو أمناء سجلات المواليد والوفاة والزواج، ومراجعَ لكبار الإقطاعيين من المشايخ، وسدنة جوامع، وأئمة مساجد، ومعلمي صبيان، وهبتهم القبيلة بعض أراضيها لبناء منازلهم، وسيطروا بدهاء على أموال الوقف، فاستلموا خراجها، واعتبروه موردًا ضخمًا يبعث مكانة نافذة في المجتمع، كما تولوا قضاء الأرياف، وساعدوا كل إمام هاشمي يتمكن من إثبات حضوره وسيطرته بإخضاع القبيلة له، وحث الناس على مبايعته، والعمل على التحشيد القبلي له بالسلاح والرجال في مواجهة خصومه!.
ما تزال مقدرة هواشم الأرياف على إسقاط القبيلة مثيرة للدهشة، تارة بإقناع شيخ القبيلة بموالاة الإمام المنتصر، أو ترتيب معاهدات تضمن للشيخ البقاء ضمن دائرة منافع الإمام الجديد، وأخرى بالانتفاض في وجه القبيلة من الداخل إذا رفضت الانصياع، وثالثة باستخدام السحر والشعوذة والتأثير الديني على الرجال المميزين في القبيلة إن رفضوا مبايعة إمامهم الغاضب الغاصب، ورابعة باستقطاب الطامحين لمشيخة القبيلة للتعاون معهم مقابل إعلانهم شيوخًا جدداً على قبائلهم، ومنهم من يكون مقربًا من الشيخ الممانع نسبًا أو خؤولةً، أو ناقدًا متبرمًا من سياساته وشئونه الخاصة، وخامسة بالتحريش بين القبائل لإضعافها واستدامة الحرب والثارات حتى على مستوى القرية الواحدة.
لقد ضمن الهاشميون فكرتين أساسيتين في التواجد والتأثير
- الأولى: بقاؤهم خارج دائرة الصراع القبلي بكل مستوياته، وسعيهم إلى الحياد مع كل حرب داخلية تندلع بين قبيلة وأخرى، وضمان استمرار نفوذهم "السيادي" على كل ما يخص الإقطاع الزراعي، وتأثيرهم الدعائي على المنبر لغسل أدمغة الشباب، وتحديد أولوياتهم، وضمهم إلى صفوفهم كأنصار وأشياع.
- الثانية: تنسيب العديد من الأسر المتحمسة إلى الهاشمية، واعتبارهم رؤوس حربة في مواجهة أعدائهم ونصرة أي إمام قوي، إما باكتشاف نسب جديد لأولئك المتحمسين بالحيلة والخداع، كأن يتعثروا "مصادفة" بصك مزور تحت صخرة مدفونة في عمق الوادي الفسيح، يسحبون به القبيلة من يمنيتها إلى الهاشمية، أو برؤيا شاهدها فقيه القرية المتمالئ في منامه وظهر عليه النبي الكريم يوصيه إشاعتها بين الناس تتضمن الدعوة إلى مبايعة ذلك الإمام الذي يملأ الأرض عدلًا وإنصافًا!، أو بالانتفاع من حماستهم في الحروب، وإغلاق المناطق القبلية الأشد حماسة، والأرق إيمانًا، والأجرأ مقاومة، والأعنف صلابة إلى الهاشمية، حتى يصبحوا قبيلة داخل القبيلة، ليس لهم ما للقبيلة، ولا عليهم ما عليها - يرعون مع الراعي، ويأكلون مع الذئب- توصيفهم الأكثر تحديدًا أنهم "جالية" تستثمر كل شيء، وتستولي على أجمل الأودية والبطون الزراعية، والوظائف، وتحمل الجواز كهوية وطنية لتسهيل إجراءات سفرهم فقط. ومع كل لحظة بروز لمدعٍ ولاية أو إمامة يبادرون إلى رفع راية التأييد، وخيانة المجتمع الذي عاشوا في كنفه طويلًا.
فقد اليمنيون هويتهم مع كثرة الضربات التي تعرضوا لها في حروب الهاشمية العلنية التي ركزت على محو الأثر التاريخي، وإشاعة التهم المسيئة عن خصومهم، وسجنهم والتنكيل بهم، واستخدام صعاليكهم في القدح والذم شعرًا ونثرًا على كل ثائر يرفض ولايتهم التي تتعدى التسلط العائلي ليصبح تسلطًا سُلاليًا يمارسه الهاشميون في كل ريف ومدينة – إلا القليل ممن ثبت نقاؤه وورعه – على اليمنيين الذين يعيشون حياة الزراعة بكل فنونها وجهدها.
عندما تُصارع الهوية الهاشمية هوية اليمن، وتُحوّل أشجار بابل الإنسانية إلى سياط يجلد بها العراقيون ظهورهم، فذلك يعني شيئًا واحدًا; أن الهويات الأكثر تجذرًا في تاريخ المنطقة قد استسلمت للشرعية الدينية "الكهنوت الهاشمي"، وقد يؤثر ذلك على بقية الدول العربية التي بدأت بتشكيل هوياتها الجديدة قبل أقل من قرن!.
في منطقة الشرق الأوسط اليوم يتركز الصراع في سببين:
الأول: الكيان الصهيوني الذي يحاكي الهاشمية في وهم الاصطفاء، لكنه على الأقل يعرف حدوده الجغرافية التي يأمل تحقيقها وتوفير دولة يهودية خالصة العرق والديانة، والثاني: إيران التي تسعى إلى التوسع بشراهة في مساحة مفتوحة، معتمدة على نشر التشيع، وتأمينه عبر الحركات المسلًحة مثل حزب الله في لبنان وأنصار الله في اليمن، وثار الله وجند الله وعصائب الحق في العراق، واستقطاب رموز الهاشمية الدينية والفكرية والسياسية من بلدان شتى، فمنهم من ظهر ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا.
قد يواجه النظام الإيراني مآزق عديدة داخلية وخارجية، لكنه مُصر على تصدير الثورة الخمينية، بذات الحماسة التي قاتل من أجلها الحسين بن علي في مواجهة كتائب الجيوش التي انتزعت روحه الجميلة، فاستغلال الحسين بصورته ومشاهده الدامية أمر يروق للنظام الإيراني، وقد أثبت نجاحه مع الكثير من المحتالين الطامحين للوصول إلى السلطة والثروة والمكانة، والتوسع أيضًا ابتداء بالمختار الثقفي وانتهاءً بحسين بدر الدين وشقيقه عبدالملك، وقد حقق الأخير في اليمن ما لم تكن إيران تأمله على المستوى المنظور، واجتاحت كتائبه الإرهابية العاصمة صنعاء، وتمددت إلى عدن سعيًا لتحقيق ولايته، والانتقام من "هشام بن عبدالملك" لقتله زيداً بن علي!، وفي ذلك الثأر خصوصية تتجاوز الحسين الذي يمثل رمزًا لشيعة العالم، إلى زيد ابن علي الذي يُنسب إليه المذهب الزيدي، ولا يعترف به الشيعة كواحد من أئمتهم الاثني عشر، ورغم ذلك الإنكار الذي يجب أن يكون مؤذيًا للهاشميين الزيود، إلا أن ما يجمعهم كهاشميين بأحلام السُلطة، وكهنوت قيام المهدي المنتظر، جعلهم يتغاضون عن ذلك الإنكار وإعلان الولاء لولي إيران صاحب العمامة السوداء.
لا تستطيع الهاشمية الاستمرار في تأثير السحر ما لم تصنع لها عدوًا يجعلها ذلك تضمن خداع العوام للضغط على الزناد دون تفكير، وإزاحة العدو، حتى إذا ما تخلصوا منه، اخترعوا عدوًا جديدًا، وثأرية أخرى، ولو فُني الأعداء في الأرض، اقتتلوا فيما بينهم، واستحوذ كل فريق منهم على أنصاره، وصنعوا من هاشميي الطرف الآخر خصومًا، يصفونهم بالمنافقين والخونة والعملاء والناكثين لعهد الله وميثاقه، وقد يصير الأمر إلى نفي نسب من يخاصمونه، وخلعهم عن الهاشمية خلع الهاشمية عنهم،واستباحة دمائهم، واتهامهم "بالأموية" المتسترة في جلباب الحسين.
أخطر ما في الإرهاب أن يصبح عابرًا للقارات، وله أنصار يتوالدون كل يوم، كل واحد منهم مُشبع منذ طفولته بالاستثنائية المدمرة، ومشحون بالاستعلاء والغرور، خطورة الإرهاب الهاشمي أنه سُلالي، أما داعش فإرهاب متطرف ينمو كل ما أرادت الهاشمية إقناع الناس بأنها الخيار الأنسب.
تطورت الهاشمية من عائلة إلى هوية، وهي الهوية الوحيدة في عالمنا المعاصر العصية على الانصهار في هويات الدول الجديدة التي أكسبتها اتفاقية سايكس – بيكو شرعية عالمية، لها حدود معترف بها ضمن قانون الأمم المتحدة، هوية قائمة على العرق، ومتوزعة على مختلف البلدان العربية والإسلامية بنسب متفاوتة.
اليوم: يقول الرجل الذي هاجر من اليمن إلى تونس في أواخر القرن الثامن عشر إنه مواطن تونسي، ويتحدث "إلياس الهرواي" الرئيس اللبناني الأسبق الذي هاجرت عائلته من اليمن، وتنصّرت بداخل إحدى كنائس جبل الأرز بأنه و لبناني هوية ومواطنة وحقوقًا، لكن ماذا عن الرجل الذي ارتدى جلبابًأ أخضرَ عَـثَر عليه في سوق شعبي بأقاصي مدينة خراسان، ومعه عمامة بيضاء، ومخلاة بها عودًا ومسبحة ومصحفًا شريفًا وقنينة ماء، مُطلقًا لراحلته العنان، فلما وصل إلى اليمن قال إنه "اسماعيل بن نهشل"، وجدّه علي بن أبي طالب!، فبقى فيها يُعلم الصبيان، ويتكاثر جيًلا بعد آخر، وبمرور خمسة قرون ولد له طفل من نسله لم يعد لقبه "نهشل" بل اغترف لقبًا يمنيًا نسبة إلى جبل أو قرية، مُضيفًا أل التعريف ليبدو أنه من عشيرة يمنية، ورغم كل الدلالات التي توحي بأعجميته، منعته الهاشمية التي التصق بها على حدود الموصل من الاعتراف بهويته الجديدة كيمني، حفيده الذي صار له لقب جديد ما يزال مُصرًا على أنه هاشمي الولاء. وهنا برز التناقض الذي أدّى إلى صراع الهويات داخل اليمن على وجه الخصوص، فأمثال ذلك المحتال الخراساني كثيرون، وجدوا مرتعًا خصبًا في أرض السبئيين، وعشائر طيبة مؤمنة قبلت بهم كأفراد تقديرًا لمن قالوا إنه جدّهم، وفي نهار مشرق على حقل صنعاء الشرقي كان اليمني يحرث أرضه، ويسقي بذور النبات، ويقلع الأعشاب الضارة التي برزت على حواف مزرعته، وقد بدت له زوجه تتهادى في مشيتها، وعلى رأسها آنية الغداء، وفي بطنها جنين في شهره الرابع، في تلك اللحظة أغار عليه حفيد الخراساني وأنصاره بخيولهم فقطعوا رأسه، وقتلوا أطفاله الصغار، واغتنموا زوجته سبية، وطافوا باقي القرى لإسقاطها بالعنف.
تلك الفجأة الغادرة صدمت اليمنيين الآمنين المطمئنين، لم يأتهم نبأ الحشود الاستعمارية حتى يستعدوا لها من مؤن وعتاد ورجا، الغزو جاء من الداخل، انتفض الذين أصروا على "هاشميتهم"، وقرروا تدبيرهم في ليل لا قمر فيه منازعة اليمنيين سُلطتهم على أرضهم، وفي كل جولة من جولات الصراع يستبدل الهاشميون ألقابهم، ويتخفون في قرى أخرى، ويتبادلون السكن بالمناطق والمواقع، ويندحرون مالئين الدنيا عويلًا ونحيبًا على الحسين بن علي، الذي تتكرر مأساته في كربلائيات يمنية!. فيصحو اليمني مُجرمًا غارقًا في دمه، ويغدو الهاشمي ضحية كتب عنه أبناء جنسه في كتبهم، حتى أصبح ذلك السِفر المكتوب الوثيقة الوحيدة لمعرفة أخبار زمن الحرب.
وهكذا صار يزيد بن معاوية رمزًا للشر، وهشام بن عبدالملك قاتلًا، ومطرف بن شهاب مرتدًا، وعلي بن الفضل خائنًا، ونشوان بن سعيد الحميري سفيهاً، وأبي الحسن الهمداني سجينًا، والإمام الشوكاني مطاردًا، وفي مواجهتهم صار عبدالله ابن حمزة إمامًا مؤيدًا بالله، وحفيده منصورًا بالله، وابن عمه السفاح شرفًا للدين، وخاله أميرًا للدين، وجدّهم الهادي إلى الحق، وخالهم المفضل، وصهرهم الصادق، وسبطهم المطهر. تخيلوا أن كل هذه الألقاب الفخمة قد أغرقت اليمنيين دمًا وعويلًا، وهدمت قصورهم، وأحرقت إنتاجاتهم الفكرية والإنسانية، ونهبت آثارهم، وشوّهت رموزهم، وصنعت لها على مدى طويل من الظهور والنكوص تاريخًا من الكهانة جعلتهم دون غيرهم قرناء القرآن و ورثة الكتاب! منتزعين الشرعية الدينية من اليمنيين المسلمين بديلًا عن الرضا الشعبي الممثل في الشورى كأرقى قيمة إنسانية دافع عنها القرآن وتميز بها اليمنيون الأوائل منذ عهد الملكة بلقيس وما قبلها.
ما الذي جعل الخميني يؤسس قلعة استعمارية قائمة على العصبية الهاشمية ككتلة صلبة في مشروعه الثوري الذي رغب في تصديره إلى العالم الإسلامي؟ هل أراد بذلك بعث حضارة فارس الميتة؟ وما الذي جعل حسن نصر الله أمين عام حزب الله في لبنان يموّل الحوثيين في اليمن، ويستقبل آلاف الفتية الهاشميين لتدريبهم على فنون حروب العصابات؟ ولماذا هاجم الصادق المهدي التدخل السوداني في اليمن ضمن إطار التحالف العربي؟ ولماذا ينزع مئات الآلاف من شيعة العالم بدءًا من العراق وانتهاءً بنجييريا في عداوتهم إلى الوسط السُني الذي لا يعترف بمعتقدات الشيعة وصنمية القبور وموالد الحسينيات وكربلائيات العذاب بالسوط؟ ما الذي يجعل كل هذه الأمة متحفزة للقتال، وغاضبة من اليمنيين الذين يقاتلون لإسقاط هاشمية عبدالملك بدرالدين في صعدة الخولانية؟
اختراع الصفات المقدسة للهاشميين احتيال علني على المسلمين، وتجارة لم تعرف البوار منذ بدايات العصر العباسي الأول 5.. ففقدانهم الشرعية الشعبية دفعهم إلى اختراع شرعية دينية، ونسب مزعوم إلى النبي صلوات الله عليه، وفي اليمن زاد عليها الهادويون فجعلوها ثورة مسلًحة يأخذونها بالسيف والغلبة، نسفهم لمبدأ الشورى واغتصاب الشرع الجماعي للأمة، وتغيير هوية اليمنيين الحضارية والإنسانية، سبب دائم في عدم استقرار حُكمهم، وانهياره بعد سنين من المقامرة التي تدفع بهذا البلد المسكين إلى فقدان أسس الدولة، ونمو مساحات الانقسام والتشظي. وبروز تكتلات مسلًحة يصعب احتواؤها بسهولة.
* نقلًا عن كتاب القبيلة الهاشمية