الرئيسية - دنيا الإعلام - عن غزة! نزار حي لايرزق
عن غزة! نزار حي لايرزق
الساعة 12:00 صباحاً البديل خاصبقلم اسكندر شاهر

كان أحد أصدقائي الشعراء الذي لا يزال الطفر والجمال يلازمانه كروحه كلما سألته عن حاله يجيب إجابته العتيدة "حيٌ لا يُرزق" ، اليوم تذكرتهُ وتذكرتُ إجابته التي أحب .

هذا اليوم بصُبحه ومسائه بالنسبة لي كان نزارياً بامتياز ، فقد اعتدتُ أن أقطع مسافة طويلة مشياً من منزلي الكائن بحي المزة بدمشق إلى قلب العاصمة السورية مخترقاً وسطها "البرامكة" وصولاً إلى دمشق القديمة وهناك أعرج على جامع الأمويين الشهير الذي بناه الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك ومرقد رقية بنت الحسين ومقام رأس الحسين بن علي الذي نعيش اليوم ذكراه (عاشوراء) التي نستحضر معها الوحشية الإنسانية ونشهد نسخة مختلفة منها اليوم في غزة الجريحة على مرأى ومسمع من العالم وبتواطؤ مخزي من القادة العرب الأنصار الجدد ليزيد بن معاوية وعبيد الله بن زياد . فأمُر في أزقة المحروسة التي تضم واحدة منها منزل الشاعر العربي السوري الكبير الراحل نزار قباني ، فأستحضر بعضاً من أبياته مما أحفظه لهذا الشاعر الذي شهدتُ وفاته في ربيع العام 98م حيث ووري الثرى في مدينته دمشق مدينة الياسمين التي لطالما تغنى بها وقال عنها :

فرشتُ فوق ثراك الطَّاهر الهُدبا

فيا دمشق لماذا نبدأ العتبا

حبيبتي أنت ، فاستلقي كأغنية

على ذراعي ولا تستوضحي السَّببا

أنت النِّساء جميعاً ما من امرأة

أحببتُ بعدكِ إلا خلتها كذبا

حبّي هنا وحبيباتي ولدن معي

فمن يعيد لي العمر الذي ذهبا

هذي البساتين كانت بين أمتعتي

لما ارتحلت عن الفيحاء مغتربا

فلا قميص من القمصان ألبسهُ

إلا وجدت على خيطانه عنبا

إنها المحروسة دمشق التي قال فيها محسوبكم كاتب هذه السطور :

بيني وبين دمشق .. عشر من السنوات ومليون ألف من الكلمات .. وألف لحظة سحر مذاب بأرصفة "الصالحية" .. بحضرة "زينب" مليون تسبيحة ودعاء .

لـ "شيخ التصوف" إطلالة في "فتوحاته" .. باقة من "فصوص الحكم" .

بيني وبين دمشق "سكرة" غورها ليس يسبره غير صمت تراخى سدولاً بوجه معالم "جلّق" محروسةً بـ"الأمل" ..

لكن حزناً تدثره بسمةٌ هادئة .. هي ذاك الصراط الذي يأنف الأشقياء ..

راغب في سلام الصناديد ..

راغب عن حدود تحاصر أزهارنا بين شوك انكسار الوغى وبين ظلام الأخاديد

****

هكذا أخبرتني معالم "جلّق" في صمتها الكستنائي ..

كان لوناً من الشعر لم يُكتشف ..

كان زيتاً لزيتونة من "حلب" .

وبصمت يقاوم بعض الكلام أرد عليها وأشكر خطبتها الصافية ..

وأحمد كوني بحضرتها كامتداد المعاني بوجه الصور

****

عندما أصبح السر يوماً "مراهق" كان عمر الطفولة عمري .. وكانت دمشق تعلمني كيف أصبح شيخاً يؤم الصلاة التي يشتهي خمرها الأصفياء ..

 جوعهم ليس يسكته دون أن يصبحوا آلهة ..

كان في السر "أنثى" .. تشتهيه اغتراباً .. تزدريه اقتراباً ..

كانت الريح .. كان "حطاماً" .. تارة للحريق وقود .. تارة فارس لا يشق جحافله غير قهقهة مستحبة ..

ولـ "صنعاء" في السر روح العلن .. رونق الغيرة المستطابة

لوحة صارخة ، لم تجارِ الزمن ..

صاغ شاعرها قصةً من تراث السماء ..

قال : إن (ثُريا) لـ (سُهيل) المُنى

ثم إن سُهيلاً من ثريا دنا ....

وأزعم أني كنزار قباني : "وأنا في دمشق لا أستطيع أن أكون محايداً ، هذه المدينة تخضُّني ، تشعلني ، تضيئني ، تكتبني ، ترسمني باللون الوردي . كلُّ ألف رسمتها على الورق مئذنة دمشقيَّة . كلُّ ضمة مستديرة هي قبَّة من قباب الشَّام . كلُّ حاء هي حمامة بيضاء في صحن الجامع الأموي . كلُّ عين هي عين ماء . كلُّ شينٍ هي شجرة مشمشٍ مزهرة . كلُّ سينٍ ، هي سنبلة قمح . كلُّ ميمٍ هي امرأة دمشقية" .

وقد ثبت لي أن نزار قباني لم يمُت وأنه لا يزال حياً ولكن لا يُرزق ، بل نُرزق نحن الكثير من المآسي التي تحدّث عنها واستشرفها وعبّر عن مرارتها أكثر منا نحن الأحياء الأموات .

فبعد هذه الجولة الدمشقية التي أقوم بها كل أسبوع تقريباً –من باب كسر العزلة التي يتهمني بها بعض (الفهّيمين) ممن بذّروا فلوسهم/مصاريهم في شراء أحذية "غير منتظرية" تُقلّهم من وإلى "السفارة" ... في العمارة- . مررتُ على أحد الأكشاك واقتنيتُ صحف اليوم وإذا بي أقرأ هذه القصيدة النزارية وقد تصدّرت صفحة كاملة بالخط العريض في "الوطن" السورية وعنوانها : يا تلاميذ غزة .. وأنا أقرؤها لم أكن أقرأ لنزار الذي غادر هذا العالم قبل سنوات بل نزار الذي يعيش مع عالمه العربي مأساة غزة 2009م التي ترزح اليوم بأطفالها وتلاميذها ونسائها وشيوخها تحت القصف والنار وجحيم الكلاب المسعورة في إسرائيل ووقاحة كلاب آخرين يريدون أن يحولوا مأساة غزة العظيمة إلى دعاية انتخابية رخيصة. فإلى القصيدة ولا تعليق .

يا تلاميذ غزة ..

تلاميذ غزة علمونا بعض ما عندكم فنحن نسينا

علمونا بأن نكون رجالاً فلدينا الرجال صاروا عجينا

علمونا كيف الحجارة تغدو بين أيدي الأطفال ماساً ثمينا

كيف تغدو دراجة الطفل لغماً وشريط الحرير يغدو كمينا
كيف مصاصة الحليب إذا ما اعتقلوها تحولت سكينا
يا تلاميذ غزة لا تبالوا بإذاعاتنا ولا تسمعونا
اضربوا اضربوا بكل قواكم واحزموا أمركم ولا تسألونا
نحن أهل الحساب والجمع والطرح فخوضوا حروبكم واتركونا
إننا الهاربون من خدمة الجيش فهاتوا حبالكم واشنقونا
نحن موتى لا يملكون ضريحاً ويتامى لا يملكون عيونا
قد لزمنا جحورنا وطلبنا منكم أن تقاتلوا التنّينا
قد صغرنا أمامكم ألف قرن وكبرتم خلال شهر قرونا
يا تلاميذ غزة لا تعودوا لكتاباتنا ولا تقرؤونا
نحن آباؤكم فلا تشبهونا نحن أصنامكم فلا تعبدونا
نتعاطى القات السياسي والقمع ونبني مقابراً وسجونا
حررونا من عقدة الخوف فينا واطردوا من رؤوسنا الأفيونا
علمونا فن التشبث بالأرض ولا تتركوا المسيح حزينا
يا أحباءنا الصغار سلاماً جعل اللـه يومكم ياسمينا
من شقوق الأرض الخراب طلعتم وزرعتم جراحنا نسرينا
هذه ثورة الدفاتر والحبر فكونوا على الشفاه لحونا
أمطرونا بطولة وشموخاً واغسلونا من قبحنا اغسلونا
إن هذا العصر اليهودي وهم سوف ينهار لو ملكنا اليقينا
يا مجانين غزة ألف أهلاً بالمجانين إن هُمُ حررونا
إن عصر العقل السياسي ولّى من زمان فعلمونا الجنونا ..

[email protected]