الرئيسية - الأخبار - بين التمدد والإنكشاف.. قراءة تحليلية لسلوك إيران ومحورها بعد السابع من أكتوبر
بين التمدد والإنكشاف.. قراءة تحليلية لسلوك إيران ومحورها بعد السابع من أكتوبر
الساعة 04:47 مساءً الثورة نت/ عبدالوهاب بحيبح

منذ السابع من أكتوبر الماضي، دخلت منطقة الشرق الأوسط منعطفًا خطيرًا، وسط سلسلة من التفاعلات والأحداث الإقليمية المتصاعدة. تجاوز مدى هذا الحدث حدود قطاع غزة، ليمتد إلى كل من لبنان، اليمن، سوريا، إيران، ووصلت فيه حالة التوتر في الإقليم إلى أعلى مستوياتها.

برز خلال هذه المرحلة سجال شديد بين من يرى إيران دولة تدافع عن الإسلام، بوصفها قائدًا لمحور المقاومة ضد الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، ومن يعتقد أن إيران وإسرائيل تتنافسان على تحقيق مصالحهما على حساب الأمة العربية، معللين ذلك بالدمار الهائل الذي أحدثه المشروع الإيراني بعدد من دول المنطقة. 

يقدم هذا التحليل قراءة متأنية للنشاط الإيراني الإقليمي، وما أفرزته أحداث السابع من أكتوبر من تطورات متلاحقة عرّت المشروع الإيراني التوسّعي وكشفت هشاشته وأهدافه الحقيقية، ويستشرف ما الذي ستتركه هذه التطورات على سلوك النظام الإيراني وأذرعه الإقليمية مستقبلًا.

جذور المشروع الإيراني: من ولاية الفقيه إلى تصدير الثورة

منذ سقوط نظام الشاه عام 1979م، ووصول الخميني إلى طهران على متن طائرة فرنسية خاصة قادمًا من منفاه في باريس، ليقطف ثمار ثورة الشعب الإيراني ويتربع على عرش الحكم، دخلت إيران في مرحلة جديدة لا سابق لها في النظم السياسية. 

وظّف الخميني فكرة "ولاية الفقيه"– أو ما يُعرف عند الشيعة الخمينية بـ"نائب الإمام الغائب" أو "القائم بأعماله"– بشكل عملي في حكم إيران، ليحل محل النظام الملكي نظام ثيوقراطي عقائدي، له نزعة توسعية، ونصّب نفسه ملكًا عقائديًا جديدًا تحت مسمى "المرشد الأعلى للثورة الإيرانية" (الولي الفقيه).

تقوم هذه الفكرة على الولاية الدينية والسياسية للمرشد، وأنه خليفة الله ورسوله في الأرض، وله عصمة القرار في ظل غياب ما يُعرف عند الشيعة بـ"صاحب الزمان" الإمام الغائب، المعروف في المذهب الشيعي الإثني عشري بالإمام الثاني عشر.

لا تقتصر "ولاية الفقيه" على السلطة الدينية والروحية فحسب، بل إنه في المفهوم الخميني هو صاحب السلطة والقرار، وهو القائد الأعلى للدولة وقواتها المسلحة، والوصي على الأمة، وهو المعني بقيادة العالم العربي والإسلامي.

من هذه النصوص انطلق النظام الثوري العقائدي في إيران للتعامل مع جواره العربي، من خلال إدراج مبدأ "تصدير الثورة الإيرانية" في الدستور الإيراني، كما نصت إحدى المواد على أن المذهب الديني للدولة هو المذهب الشيعي، وقدمت إيران نفسها ممثِّلًا للشيعة في العالم.

ومن مبدأ "تصدير الثورة" بدأت إيران الخمينية في نسج خيوط تدخلاتها في جوارها العربي بهدف إعادة تشكيل النظم السياسية فيه إلى كينونات تابعة للولي الفقيه في قم.

اصطدم مشروع الثورة في بداياته مع النظام القومي في العراق بقيادة الرئيس صدام حسين، لتخوض إيران والعراق حربًا دامية عام 1980م دامت ثمانية أعوام، كان شعار الخميني فيها: لا تراجع حتى إسقاط نظام صدام حسين. 

في تلك المرحلة تنبّهت عدد من الدول العربية لخطر المشروع الإيراني، وسعت إلى دعم العراق ضد إيران بهدف احتوائها في محيطها الجغرافي، بينما تلقت إيران دعمًا عسكريًا من الولايات المتحدة الأمريكية فيما عُرف بـ"قضية إيران- كونترا" في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق ريغان، كما تلقت أيضًا دعم أسلحة من إسرائيل.

وفي عام 1988م، وبعد حروب طاحنة نجم عنها خسائر كبيرة من الطرفين، وعجز الخميني عن تحقيق هدفه بإسقاط النظام العراقي، ونتيجة لصعوبة تحقيقه وقوة الموقف العراقي في ميدان المعركة، أعلن الخميني موافقته على إيقاف الحرب، فيما شبّه موقفه هذا بـ"تجرّع السم الزعاف".

خلال تلك الفترة، تراجع طموح إيران من خلال مبدأ تصدير الثورة، وانفتحت نسبيًا على الإقليم، حيث ترك المرشد الإيراني مساحة للرئيس هاشمي رفسنجاني، لإعادة ترتيب العلاقات مع دول الجوار. وكان الهدف هو مرحلة التعافي من آثار الحرب، وليس سلوكًا عقلانيًا ستتبعه السياسة الخارجية الإيرانية تجاه جيرانها لاحقًا.

خلال تلك الفترة، كانت طهران تعمل بصمت على كسب ولاء الشيعة العرب على حساب ولائهم لأوطانهم، فظهرت كيانات إرهابية في عدّة دول عربية كـ: حزب الله في لبنان، حزب الله في الكويت، حزب الله في البحرين، حزب الله في الحجاز، والحوثيين في اليمن، وحزب الدعوة في العراق، والأخير شارك إلى جانب إيران في الحرب العراقية– الإيرانية.

وخلال العقدين الماضيين، نفذت تلك الجماعات عددًا من العمليات الإرهابية في عدد من الدول العربية، وتسببت بأحداث عديدة في مواسم الحج راح ضحيتها عدد من حجاج بيت الله الحرام.

سقوط العراق وتمكين إيران

بعد الغزو الأمريكي للعراق عام 2003م، وسقوط النظام العراقي وحل جيشه، كُسرت البوابة الشرقية للوطن العربي أمام إيران، وهو ما أُسميه لحظة تمكين إيران برضى أمريكي للعب دور توسعي في الإقليم.

لم تكن إيران بعيدة عن إسقاط العراق وأفغانستان بل كانت شريكًا فاعلًا مع الولايات المتحدة، والتي بدورها سلّمت العراق لإيران على طبق من ذهب. 

بعد هذا التاريخ بدأت إيران فعليًا بمد نفوذها في الإقليم، سيطرت على القرار السياسي في العراق وأنشأت ميليشيا الحشد الشعبي. وسيطرت على القرار السياسي في لبنان عبر "حزب الله" الذي فرض سيطرته على العاصمة بيروت عام 2008م، ووجّه سلاحه إلى منافسيه السياسيين لينفرد بالقرار السياسي للدولة اللبنانية.

كما اشتعلت الحرب في اليمن خلال الفترة من 2004 إلى 2010م، بين جماعة الحوثي المدعومة من إيران، والحكومة اليمنية، لتسقط العاصمة اليمنية صنعاء بيدها في عام 2014م، لتعلن طهران عن سيطرتها على العاصمة العربية الرابعة، بعد بغداد وبيروت ودمشق، ضمن ما أسمته محور المقاومة.

كل هذه الأحداث أتت بعد خروج العراق من هيكل القوى الإقليمية بفعل الغزو الأمريكية والسيطرة الإيرانية، وهو ما فتح شهية طهران للتمدد أكثر مدفوعة بأطماع وطموحات توسعية.

وقد ساهم ما عُرف بـ"الربيع العربي" عام 2011م في بروز دور إيران في المنطقة، لتكون حاضرة في بؤر الصراع في سوريا واليمن، فقد رمت بكل ثقلها لإفشال الثورة السورية، ودفعت بجنرالاتها من الحرس الثوري وميليشيات طائفية من كل حدب وصوب، وأوعزت إلى حزب الله بالتحرك لإخماد المتظاهرين السوريين، وارتكبت ميليشياتها جرائم فظيعة بحق الشعب السوري.

وبالتزامن، كثّفت دعمها للميليشيا الحوثية في اليمن، ومدّتها بأنواع الأسلحة والطائرات المسيرة والصواريخ. 

من غير المنطقي القول إن الطموح الإيراني ينطلق من نص عقائدي ديني وحسب، بل إن المزاوجة بين الطموح القومي الفارسي والديني هي ما يشكل جوهر السياسة الإيرانية منذ الخميني إلى اليوم.

من بغداد إلى دمشق: هندسة الهلال الشيعي

منذ سيطرة النظام العقائدي الشيعي على مقاليد الحكم في إيران 1979م، برز- كما أسلفنا- 
مشروع تصدير الثورة الإيرانية إلى دول الجوار العربي كهدف استراتيجي، ونص أساسي في الدستور الإيراني.

تحرك هذا المشروع بشكل نشط في المنطقة بعد سقوط العراق عام 2003م، ونسجت طهران خيوط سيطرتها على العراق كنقطة انطلاق نحو الإقليم، ودخلت العراق أتون حرب طائفية بتمويل إيراني لاجتثاث ما تبقى من قوة للمكون السني، لتصبح بلاد الرافدين ساحة نفوذ إيرانية خالصة.

كما مكّنها النظام العلوي الديكتاتوري في سوريا من ربط نفوذها وصولًا إلى حزب الله اللبناني– الكيان التابع لولاية الفقيه، والذي يعد جزءً من منظومة الحرس الثوري– لتصبح إيران متواجدة على ضفاف المتوسط، وتُشكّل بذلك هلالًا شيعيًا ممتدًا من طهران إلى بيروت.

في الحقيقة، لم تكن سوريا قبل عام 2003م وصولًا إلى 2011م متاحة كليًا لإيران، فقد كان للنظام السوري أيضًا رؤيته الخاصة لمستوى علاقته بما يحقق مصالحه ويعزز نفوذه، ويعمل مع إيران طبقًا لهذا المنظور. لكن في المجمل، لم يكن معنيًا بأخذ المصالح العربية في الاعتبار في علاقاته مع إيران، فقد كان يغرد بعيدًا وفقًا لما تقتضيه مصالحه وتصوراته، وبما يعزز نفوذه.

لكن بعد عام 2011م، تزامنًا مع الثورة السورية، ومع دخول روسيا وإيران كداعمين عسكريين مباشرين على خط الصراع، وحالوا دون سقوط النظام السوري، تغيّرت المعادلة وأصبحت سوريا فعليًا تحت سيطرة المرشد الإيراني من خلال الحرس الثوري والميليشيات التي جلبها كل مكان لقتل الشعب السوري.

يمكن القول إن شعوب المنطقة قبل عام 2003م لم تكن تعاني من النعرات الطائفية، لكن مع انطلاق المشروع الإيراني بعد سقوط النظام العراقي وصولًا إلى اليوم، تصاعدت حدة الاستقطاب الطائفي، وانتشرت عشرات القنوات الممولة إيرانيًا التي تغذي الخطاب الطائفي بشكل يومي.

وقد عكست الأحداث في سوريا مدى الشحن والتوجه الطائفي، حيث ارتكبت إيران وميليشياتها مجازر بشعة بحق السوريين تحت شعار "يا لثارات الحسين"، وحملت معاركها عناوين طائفية كـ"الدفاع عن المراقد" وغيرها، بحسب تبرير المرشد الإيراني علي خامنئي، والذي يؤكد دومًا في خطاباته أن الحرب بين الجبهة الحسينية والجبهة اليزيدية مستمرة ولا نهاية لها. 

كما أعلن نصر الله زعيم حزب الله اللبناني المنخرط بشكل كامل في الحرب السورية أن طريق القدس يمر بالقلمون والزبداني والسويداء والحسكة في سوريا، في إشارة منه إلى المناطق المعارضة لنظام الأسد.

لقد استطاعت إيران– بعقلية النسّاج الإيراني– هندسة نفوذها من طهران مرورًا ببغداد ودمشق وصولًا إلى لبنان، لتشكّل الهلال الشيعي. كما جنّدت كثيرًا من الخلايا لاختراق الأردن، البلد الوحيد في بلاد الشام الذي لم يخضع للنفوذ الإيراني.

وقد كان سنام مشروعها يرتكز على البعد الطائفي الشيعي، كما حمل خطاب "محور المقاومة" لتُبرز نفسها كقائد للدفاع عن القدس والقضية الفلسطينية، كما تبنّت إيران دعم حركتي حماس والجهاد الإسلامي.

يمكننا القول إن شعار محور المقاومة "الدفاع عن القدس" الذي اتخذته إيران كان شعار حق يُراد به باطل، وكان الهدف منه كسب الجمهور العربي والإسلامي، نظرًا لما تحمله قضية فلسطين من شعور قومي وديني في وجدان كل مسلم، وبهذا حققت إيران زخمًا وقبولًا شعبيًا مستغلة هذا الشعار.

إن تحقيق مشروع الهلال الشيعي ليس مرتبطًا بالعداء لإسرائيل أو الدفاع عن الفلسطينيين، إنما هو سعي إيران للسيطرة على المنطقة ومد نفوذها وتوسيع مصالحها الجيوسياسية، وسعيها لفرض نفسها قائدًا على الإقليم، وتشكيل المنطقة كدول تابعة لولاية الفقيه في قم.

فالإيرانيون ينظرون إلى أنهم أصحاب حق تاريخي في قيادة المنطقة، وأنهم من "الجنس الآري" أصل البشرية، وهم المعنيون بتشكيل المنطقة سياسيًا واقتصاديًا وأمنيًا بما تقتضيه مصالحهم الاستراتيجية. 

كما تستخدم نفوذها وتوغّلها في المنطقة للتحاور مع الغرب بشأن مشروعها النووي، وتمنح نفسها امتيازات تجعلها القائد الإقليمي في المنطقة.

انكشاف سردية المقاومة: سقوط الأقنعة بعد السابع من أكتوبر 

لقد مثّلت تطورات السابع من أكتوبر نقطة تحول كبيرة في المنطقة، بدأت الأحداث بهجمات نفذتها حركتا المقاومة الفلسطينية حماس والجهاد الإسلامي في عمق الأراضي المحتلة، نتج عنها عدد من القتلى والجرحى ووقوع عدد من الأسرى من الجانب الإسرائيلي.

لا يمكن القول إن هذه الخطوة كانت متهورة، لأن الضغط يولّد الانفجار، فلم تكف آلة القتل الإسرائيلية عن ارتكاب الجرائم بحق الفلسطينيين العزّل، كما مثّلت سياسة إسرائيل القائمة على حصار مليوني إنسان في غزة لسنوات لحظة انفجار أدت إلى السابع من أكتوبر.

هجوم المقاومة نتج عنه ردة فعل إسرائيلية عنيفة راح ضحيتها قرابة 60 ألف شهيد، و130 ألف جريح، أغلبهم من النساء والأطفال وكبار السن، ولا يزال العدد في تزايد حتى كتابة هذا التحليل.

طبّقت إسرائيل سياسة الأرض المحروقة، وارتكبت جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية، وتعمل جديًا على إبادة الفلسطينيين من غزة وتهجيرهم في خطوة قد تتكرر بعد رحلة التهجير الأولى لعام 1948م.

واجهت غزة حمم النار منفردة، بينما وقف "محور المقاومة"، بقيادة إيران، يترقب من بعيد مجريات الأحداث، إلا من عمليات استهداف الأبراج التي كان ينفذها حزب الله اللبناني على الحدود اللبنانية- الإسرائيلية، وذلك تحت الضغط الشعبي الذي وقف مذهولًا من بقاء الحزب دون حراك وهو يردد شعار المقاومة ويتوعد إسرائيل بالحرب ليلًا ونهارًا.

من جانبها، لم تكن إيران ترغب في انخراط حزب الله في المعركة، مع منحه ضوءًا أخضرًا لشن ضربات مدفعية من مواقع تمركزه تُرسل إلى الضفة الأخرى، بينما كانت تُصوّرها الآلة الإعلامية التابعة للمحور كعمليات عسكرية مؤثرة.

وحتى بعد مضي عدّة أشهر، لم يدخل حزب الله الحرب إلى جانب حماس والجهاد الإسلامي، لتتوغل إسرائيل في عمق غزة دون أي تحرك فعلي من محور المقاومة، الذي طالما أنشئ وتمدد تحت شعار الدفاع عن القضية الفلسطينية.

مما لا شك فيه أن مشروع إيران في المنطقة، وإدخالها في صراع طائفي، أضعف عددًا من الدول العربية، فالعراق أصبح خارج المنظومة المؤثرة في الإقليم، ويشهد انقسامات عميقة في هيكله السياسي والاجتماعي، كما هو الحال في سوريا، ضعيفة، متشظية، منهكة، ومرتهنة للنفوذ الإيراني.
أيضًا الدولة اللبنانية كانت تحت رحمة حزب الله، ذراع إيران في المنطقة، وكذلك اليمن يعيش حربًا دامية بين السلطة الشرعية ومليشيا الحوثي المدعومة من النظام الإيراني.

ونتيجة لذلك أصبحت المنطقة العربية تواجه مشاكل كبيرة، وتعيش حالة احتراب وانقسام طائفي، وبرزت تحديات عميقة تواجه الدول العربية، مما شكّل فراغًا في منظومة التأثير الإقليمي.

كل ذلك منح إسرائيل مساحة أكبر للتأثير في الإقليم، حيث أصبحت محرّرة من القيود التقليدية التي طالما كانت تضعها في حساباتها، وكانت النتيجة أن لا حدود في عدوانها على قطاع غزة.

لقد مُنحت إيران لتحقيق هذا الدور الفوضوي في المنطقة، منطلقة من أطماع التوسع، وكان الهدف إضعاف الدولة الوطنية العربية، وإدخال المنطقة في أتون صراع طائفي، وما إن تحقق هذا الدور إلا وبدأت عملية تقليم أظافر إيران في الإقليم.

في هذا السياق رأت إسرائيل أنه حان الأوان لضرب مشروع إيران، وبذلك شنّت ضربات على القنصلية الإيرانية بدمشق في أبريل 2024م، قتل فيها عدد من القيادات الإيرانية، ليظهر حزب الله بعدها في بيان متوعدًا إسرائيل بالرد على هذا الاستهداف. لم يتحرك الحزب إلى جانب المقاومين بشكل مباشر في غزة، لأن حركته كانت مرتبطة فعليًا بالقرار الإيراني.

في يونيو 2024م، اغتالت إسرائيل ثلاثة من أبرز قيادات الحزب، على رأسهم فؤاد شكر، كبير المستشارين العسكريين لأمين عام الحزب حسن نصر الله، وتلاها عملية تفجير وسائل الاتصال الداخلية للحزب، ما عُرفت بعملية "البيجرات".

واصلت إسرائيل عملياتها لتصفية قيادات الصف الأول والثاني في الحزب، وعلى رأسهم حسن نصر الله. وأظهرت هذه العمليات الإسرائيلية خلال أيام مدى هشاشة واختراق إسرائيل لحزب الله، لتنتهي معركة الحزب قبل أن تبدأ، وتفقد إيران أهم أدواتها في المنطقة.

لم تكن هذه خسارة إيران الوحيدة، بل تداعت خسائرها الاستراتيجية بعد سقوط نظام بشار الأسد على أيدي الثوار السوريين، لتخسر إيران حلقة الوصل في مشروع الهلال الشيعي المتمثل في سوريا.

الورقة الأقل كلفة والأكثر فعالية

في الجانب الآخر كانت أداة إيران الأقل تكلفة والأكثر فعالية: ميليشيا الحوثي في اليمن، حيث استخدمت طهران الورقة الحوثية لتهديد الملاحة الدولية في البحر الأحمر.

وقد مثّل خروج سوريا وحزب الله من المعادلة الإقليمية لإيران، دافعًا لسعي الحوثي لتقديم نفسه كبديل جدير بالثقة ليكون رأس الحربة للمشروع الإيراني. فيما مثّلت الجغرافيا اليمنية الخاضعة لسيطرة الميليشيا الحوثية نقطة انطلاق لتجريب الصواريخ الإيرانية على إسرائيل، ليدخل اليمن المنهك فعلًا بتبعات الحروب العبثية الحوثية في منزلق خطير، وتصبح مقدراته الاقتصادية عرضة للتدمير بالطائرات الحربية الإسرائيلية، كما أرغم ترمب الحوثيين على إيقاف استهدافهم للملاحة البحرية بعد أن شن عمليات جوية طالت عددًا من القيادات ومراكز العمليات الحربية.

ارتدادات قاتلة.. طهران في دائرة النار

تسارعت وتيرة الأحداث لتتحرك كرة النار إلى إيران، ففي 13 يونيو 2025م شنّت إسرائيل ضربات جوية على إيران، دمّرت خلالها عددًا من مفاعلاتها النووية وأنظمة الدفاع الجوي، وعددًا من مصانع إنتاج الصواريخ الباليستية والمجنحة والطائرات المسيّرة. كما صفّت 60 من أبرز قيادات الحرس الثوري، والعديد من العلماء في البرنامج النووي الإيراني. لم تكن العملية جوية فقط، بل تحركت إسرائيل بعناصر من الداخل الإيراني.

كشفت هذه العملية عن درجة كبيرة من الاختراق في الجانب الإيراني، كما أظهرت عجزًا دفاعيًا، حيث فقدت إيران سيطرتها على أجوائها، واقتصر ردها على موجات صاروخية وطائرات مسيّرة طالت عددًا من المواقع داخل إسرائيل.

وفي اليوم الـ12 من المواجهة، جاءت الضربة الأمريكية بقاذفات B2 الأمريكية، الخاصة بتدمير التحصينات، والتي استهدفت منشآت فوردو، نطنز، أصفهان، ليعلن بعدها الرئيس الأمريكي ترامب، تدمير المشروع النووي الإيراني، إلا أن بعض التقارير قللت من تأثير هذه الضربة.

ورغم هذا، كان الرد الإيراني على هذه الضربة بشكل منسّق مع الجانب الأمريكي، باستهداف قاعدة العديد الأمريكية في دولة قطر، والتي وصفت بأنها عملية شكلية رد لحفظ ماء الوجه، وموجهة للداخل الإيراني. لكنها في نفس الوقت انتهكت السيادة القطرية، ولم تذهب أبعد من ذلك. 

موقف عربي إيجابي رغم الجراح

اللافت في الأمر، أن كل الدول العربية وقفت ضد الضربات الإسرائيلية على إيران، وفي تصريحات شديدة ندّدت المملكة العربية السعودية بهذا الهجوم، وأعلنت وقوفها إلى جانب إيران، وضد انتهاك سيادتها، وتلاها عدد من الدول العربية في التنديد.

لم تتعامل السعودية مع إيران بمنطق الكيد، رغم ما طالها من استهداف بالصواريخ والمسيّرات من أداتها الحوثية، والتي طالت مقدراتها الاقتصادية وأعيانها المدنية، بإيعاز ودعم إيراني، ناهيك عن المحاولات المستمرة لضرب الأمن السعودي من خلال الخلايا ومحاولات تهريب المخدرات، وغيرها من الخطط الشيطانية. ليأتي موقف الرياض، من منطلق عقلاني يدرك عواقب استهداف سيادة الدول، وما قد ينتج عنه من تداعيات لا تحتملها المنطقة.

هذا الموقف، أظهر أن السعودية تمتلك نظرة استراتيجية طويلة الأمد، تركز على النتائج لا على الانفعالات اللحظية، والحكمة السياسية التي تنتهجها في هذه المرحلة تقتضي إدارة التناقضات لا تفجيرها، واحتواء الخصم لا الانزلاق إلى مواجهة مباشرة لا يمكن التنبؤ بمآلاتها. 

إن الضابط في سلوك الدول ينطلق من مصالحها القومية، والحفاظ على كيانها في بيئة معقدة تتداخل فيها التهديدات، فالهجوم على إيران لن تكون تأثيراته محدودة، بل ستطال منطقة الخليج برمّتها، وستتجاوز آثاره حدود الجغرافيا إلى الاقتصاد الخليجي بشكل مباشر، وأمن الطاقة العالمي.

كما تدرك أن ما بعد السابع من أكتوبر ليس كما قبله، فعربدة إسرائيل في الإقليم، وتطاولها غير المسبوق، يفتحان الباب أمام مرحلة جديدة، قد تدفع القوى الإقليمية لإعادة تقييم أولوياتها الأمنية، وربما إعادة التموضع في ظل غياب التوازن في الإقليم.

أمام هذه العقلانية ليس من المرجح أن يتخلى النظام الثيوقراطي في إيران عن مشروعه القائم على مبدأ تصدير الثورة، قد يتراجع مؤقتًا تحت الضغوط الحالية على إيران، لكن ما إن تزول عوامل التهديد إلا وتعود إيران إلى مشروعها الفوضوي، إن سمح أصلًا لهذا النظام بالاستمرار.

تحجيم الدور الإيراني: التفاوض تحت النار والخيارات الصعبة

مع تطورات السابع من أكتوبر، تهاوت العديد من ركائز المشروع الإيراني في المنطقة، وفقدت إيران جزءًا كبيرًا من نفوذها، واهتزت صورتها كقوة إقليمية كبرى. 

خسر "حزب الله" كثيرًا من قوته، وأصبحت الدولة اللبنانية اليوم بعيدة عن هيمنته وتحكّمه. كما فقدت إيران سوريا وما تمثله من أهمية استراتيجية لها في حسابات نفوذها الإقليمي. وتبقّى لإيران ذراعها الحوثية في اليمن، وفي اعتقادي ستحاول إيران الحفاظ على هذه الورقة لما تمثّله اليمن من موقع استراتيجي هام، كما أن الحوثيين عملاء أقل تكلفة لإيران وجنود مطيعون لمشروعها.

لطالما استثمرت إيران في الفوضى لتمرير مشروعها، وغذّت بؤر الصراع في اليمن والعراق ولبنان وسوريا، لكنها اليوم تجني نتائج هذه الفوضى وترتدّ عليها بشكل مباشر، وأصبحت مستباحة لإسرائيل كلّيًا، بعد أن أضعفت عُرى التوازن في الإقليم.

وبالتأكيد موقفها التفاوضي الخاص بالبرنامج النووي سيكون اليوم بشروط مختلفة تمامًا عمّا كانت عليه في عهد أوباما. فإذا كان الاتفاق النووي السابق، الذي ظهرت بنوده تزامنًا مع سقوط العاصمة اليمنية صنعاء بأيدي الحوثيين– ذراع إيران في اليمن– ووقّع عليه في العام 2015م، قد منح إيران حق التخصيب بنِسَب محددة ومراقبة من الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ورفع العقوبات الاقتصادية عنها، وأعطاها دورًا في الإقليم، وغضّ الطرف عن تمددها بأربع عواصم عربية، كما لم يتناول البرنامج الباليستي، قبل أن يأتي ترامب ويسقطه في عام 2018م. 

كل تلك الامتيازات في تقديري لم تعد موجودة بعد قصف إيران وانكشافها الاستراتيجي وظهور مدى اختراقها وتعرية مشروعها وقوتها.

ويمكنني القول إن الاختراق الكبير الذي يحصل في إيران ما هو إلا مؤشر لحالة الرفض الداخلي لنظام الملالي، وهو طريقة يحاول بها المعارضون للنظام القمعي الخلاص منه بأي طريقة.

ونتيجة للتطويع والتهديد بالأداة العسكرية، قد تذهب إيران اليوم مجبرة إلى طاولة المفاوضات على اتفاق نووي جديد، لكن بدون السماح لها بالتخصيب. كما أن برنامجها الصاروخي سيكون في صلب المفاوضات، وأيضًا سيوضع في الحُسبان نفوذها الإقليمي الذي تم تقليمه، ولن يكون ملف العراق واليمن ببعيد عن ذلك.

لا أظن أن المعركة بين إيران وإسرائيل قد انتهت عند هذه النقطة، وفي تقديري ستتبعها جولات أخرى، أكانت من خلال عمليات استخباراتية داخل إيران، أو اغتيالات بطائرات مسيّرة، أو حتى عودة الضربات المباشرة، وهذا يعتمد على سلوك إيران التفاوضي. كما قد تتطور الأحداث وصولًا إلى إسقاط النظام من الداخل إن أبدى النظام تصلبًا في مواقفه.