السبت 05 يوليو 2025 م
الرئيسية - الأخبار - «العرضي».. مسرح إعدام الثوار وموقد شرارة الثورة الأولى
«العرضي».. مسرح إعدام الثوار وموقد شرارة الثورة الأولى
الساعة 03:00 صباحاً الثورة نت../

«الثورة» – إبراهيم الحكيم: –

الخطِاط والتنافيذ والمأموريات.. مهمات قرنت بالجيش صفة «الموت جي» بدلاٍ من النموذجي الجبايات والاستقطاعات الجائرة شملت العسكر فعززت نشأتهم الشرسة والساخطة

حال الجند البائسة لم تكن أفضل من الرعية.. فأحالتهم ادوات بطش بالسليقة

يقال في المثل «رْب ضارة نافعة».. وهذا بالضبط ما حدث هذا العام مع مكان ايقاد شعلة العيد الخمسين للثورة اليمنية (26 سبتمبر).. واختيار اللجنة العليا للاحتفالات نقله من ميدان التحرير أو ما كان يعرف بـ «ميدان شرارة» إلى هذا المكان الذي كان بحساب الزمان موقد الشرارة الأولى للثورة على الطغيان. « من هذا المكان كانت انطلاقة الثورة اليمنية في سبتمبر 1962م».. يقول بثقة المؤرخ والمحقق والسفير حسين عبد الله العمري في سياق مادة علمية عن تاريخ نشأة هذا المكان وتسميته ومكوناته ضمن الموسوعة اليمنية. (ج:3 ص: 2054) المكان هو ما يسمى «العرضي».. تعريباٍ للكلمة التركية «أوردو» التي تعني جيشاٍ أو قوة عسكرية في لغة الترك والمغول وأطلقت على الجيوش المغولية التي اجتاحت أجزاءٍ من آسيا وأوروبا بحسب العمري. (ج:3 ص: 2052) الكملة أصبحت تعني ثكنة عسكرية أو منطقة التجييش وتجميع الجند.. وعقب الاحتلال العثماني الثالث لليمن كان تجمع العسكر النظامي التركي جنوب السور بين باب اليمن والخندق حيث شيد العرضي. (ج:3 ص: 2052) كان البناء بأمر السلطان عبد الحميد الثاني في العام 1884م كما تفيد لوحة لا تزال تعلو بوابة المدخل الرئيسي وبدأ في عهد الوالي محمد عزت باشا واكتمل بناؤه في عهد الواليين حسين حلمي باشا والمشير عبد الله باشا. (ج:3 ص: 2053) «الثورة» – إبراهيم الحكيم:

مجمع الأهوال وعقب جلاء الأتراك وتقلد الإمام يحيى حميد الدين حكم البلاد في 1918 اتخذه مجمعاٍ لتشكيل وتأهيل الجيش النظامي.. لكن المبنى وبجانب كونه كان بمثابة مصنع الرجال ومجمع لجيوش القتال كان مجمعاٍ للأهوال أيضاٍ. عمد الإمام يحيى مستعيناٍ بالضباط الأتراك الذين بقوا في اليمن إلى تأسيس جيوش نظامية لتثبيت حكمه وتحصيل الجبايات الضريبية والزكوية وقمع التمردات القبلية ومقارعة منافسيه في المنطقة الأدارسة والإنجليز. (ص: 107) تألفت جيوش المملكة اليمنية المتوكلية وفق «التاريخ العسكري اليمني 1839-1967م» المؤرخ الراحل سلطان ناجي من:الجيش المظفر (الأزكي) والجيش الدفاعي (المليشيا) والجيش البراني (الاحتياطي) بجانب الحرس الإمامي (العكفة). واعتمد نظام تشكيل الجيوش فرض التجنيد الإلزامي مدى الحياة للجيش المظفر والخدمة الإجبارية للجيش الدفاعي والتجنيد الاختياري لأبناء رؤساء ومشايخ القائل للجيش البراني والتعيين الانتقائي للحرس الإمامي (العكفة). أدوات بطش لم تكن حال الجندي أفضل بكثير من حال الرعية بل كانوا أشد بؤساٍ وحرماناٍ وشقاءٍ.. فبجانب نظام الكفيل لكل جندي والبدل النقدي للعاجز عن التجنيد والبالغ 100 ريال فرانصي كانت الاستقطاعات تلاحق راتب الجنديالمتراوح بين (4-5) ريالات. من ذلك حسبما ينقل المؤرخ ناجي عن قانون الجيش استقطاع: ثمن البدلة المقدر بـ 12 ريالاٍ بواقع ريال من راتب كل شهر و»أرش الفردة» في حال تمزقت الشملة قبل مضي مدة استخدامها المحددة بست سنوات. (ص: 116) أيضاٍاستقطاع «أدب المونة» ريال ونصف عن كل طلقة في الهواء و»أدب النقل» من سرية إلى أخرى والبالغ معاش شهر أو شهرين أو ثلاثة مع تنزيل الرتبة وقطع الراتب كاملاٍ مع دفع قيمة العلاج والأكل وأجرة الخدمة في مدة نوبة المرض. (ص: 116-117) لذلك فقد تحول الجنود إلى أدوات بطش تعتمد في معاشها على ما تجبيه من تنافيذ على الأفراد تحت مسمى «حق المأمورية» والذي يوازي راتبه لعدة أشهر إلى درجة استحقوا وصفهم بعسكر الجيش «الموت جي» بدلاٍ من النموذجي. (ص: 121) وفي هذا يظهر ما يبرر وصف أبو الأحرار الشاعر الراحل القاضي محمد محمود الزبيري للعسكري في فترة ما قبل ثورة سبتمبر والذي لخصه في بيته الشعري الشهير: «العسكري بليد للأذى فطن.. كأن إبليس للشر رباه»!!. استخدامات الجيش تتضح الصورة أكثر بمعرفة طبيعة استخدامات الجيش الإمامي بأنواعه والتي يلخصها المؤرخ سلطان ناجي في ستة أمور بجانب مهمة القتال في الحروب وحراسة الإمام وأبنائه سيوف الإسلام وعماله والاستعراضات العسكرية. (ص:122). أولى هذه الاستخدامات في ما يعرف بـ «الخطاط» وهو توزيع أفراد أي جيش يْرسل لإخماد تمرد قبيلة أو قرية ما على منازل القبيلة المجاورة والزام أفرادها بكامل احتياجاتهم من الغذاء ومصروف الجيب وطاعتهم طوال فترة الخطاط. (ص: 123) يضاف إلى ذلك استخدام الجيش في «التنافيذ» وهي الأوامر المطلقة من الإمام إلى جميع العمال والحكام والمكلفين بحقوق الإمام والسيوف والأسياد بإنفاذ الجنود على الرعايا وبقائهم منفذين عليهم حتى يجمعوا الضرائب المطلوبة. (ص: 123) ويذكر المؤرخ ناجي من وسائل التنافيذ: «الاحتساب» وهي ايعاز الحاكم أو عامل الإمام لمن يحتسب على شيخ أو عاقل ما بدعوى أنه لم يسلم حقوق بيت المال لسنة ما فينفذ العساكر على العزلة أو القرية. (ص: 123) كذلك «التخمين» وهي تنفيذ عشرات العسكر بصحبة «المخمن» الذي يقدر غلة السنة وإلزام الرعايا بإيوائهم وإعاشتهم وأجرتهم فإن تظلموا من ارتفاع تقديرات المخمن عززه العامل باخر يسمى «الكاشف» وفصيلة من الجنود. (ص: 123) وهناك تنافيذ «القبض» فترافق مجاميع الجند قابضي الضرائب وتنافيذ «الإصلاح» حين يكلف الرعايا بإصلاح طرق لعبور السيارات أو بغال رجال الدولة أو أشغال عامة من دون أجر بنظام «السْخرة». وتنافيذ «الوقف».(ص: 124) ثم تأتي تنافيذ «زكاة الباطنية» من الحلي والمجوهرات وتنافيذ «زكاة المواشي»..بجانب استخدام الجيش في «المأموريات» لضبط جمارك البضائع ومنع التهريب ونقل البريد واصلاح أعمدة سلك اتصالات البرق. (ص: 124) كل هذه الاستخدامات ساهمت وفق المؤرخ ناجي في فتح باب الرشوة لشراء أوامر التنفيذ وشغل العساكر وتكريس قواهم في سلب أقواتهم من الرعايا وانعكاس بؤس الجيش في معالمته الفجة للشعب وإيجاد العداء بينهما وتأجيجه. (ص: 124). استعراضات قوة كما ظل العرضي يشهد تقليداٍ اسبوعياٍ يستعرض فيه الإمام قوات حرسه الخاص (العكفة) الذين قْدر عددهم بثلاثة آلاف بحسب المؤرخ سلطان ناجي فيحضر الإمام العرض على عربته يجرها خيلان وتظهر فيه الفرقة الموسيقية ومختلف الأسلحة. (ص:124). وينقل ناجي عن المؤرخ أدجار أوبلانس وصفه لاستعراض العكفة بأنه «في نظر المشاهدين الأوروبيين المشدوهين أقرب إلى الأوبرا الكوميدية منه إلى العرض العسكري لأن كل جماعة من العسكر تقوم بالاستعراض حسبما اتفق». (ص:124). كما ينقل عن الكاتب الإيطالي سلفاتور أبونتي خص استعراض أخر جمعة في رمضان بتقليد اصفطفاف الموظفين العموميين لكتابة عرائض حاجات ومظلمات من له حاجة ومظلمة لينثروها على موكب الإمام «ويلتقطها الإمام بحذق غريب».(ص:125-126). سجن دهاق ولما كانت بين مرافق العرضى مبنى السجن العسكري في حوش «دهاق» فقد أبقى عليه الإمام وظل يتكسد بالسجناء المعتقلين في غياهب الظلام وحيث لا يملك المرء أدنى إرادة ليقرر حتى متى يصحو ومتى ينام…!. لم يكن السجن يراعي الحد الأدنى لأدمية الإنسان.. وكان يجمع بين السجين وبين قضاء حاجته في نفس المكان فضلاٍ عن ضيق حجراته وانعدام نوافذه وغياب الشمس عنه والهواء ما جعله قبرا لدفن الناس أحياء!!. الأدهى من ذلك هي القيود التي كانت تصفد أقدام المساجين حتى وهم داخل السجن وعرفت بأنواع خاصة من الأغلال المصنوعة محلياٍ من الحديد ترتبط بالسلال لتقييد اليدين والنحور لتعجل الموت دونها أهون!!. وتفيد مذكرات وروايات كثير من الأحرار أن بيئة السجن غير الأدمية جعلته كما باقي السجون آنذاك مرتعاٍ خصباٍ للحشرات الناهشة في أجساد المساجين خصوصاٍ «القمل» و»الكتن» والأخيرة ماصة للدماء وناقلة لشتى صنوف الداء!!. مسرح إعدام!! وفي ساحات العرضي الشاسعة وحين كانت لا تزال جرداء قاحلة كانت تسفك دماء الأحرار من العلماء والقضاة والفقهاء والشعراء وأهل النصح وأصحاب الحقوق.. ثمناٍ لحق رفض الطغيان ورفض عيش الهوان!!. وتعميماٍ للعبرة كانت مجاميع الناس الغفيرة تدعى إلى هذه الساحات لا للتسلية أو متعة مشاهدة العروض العسكرية في أعياد الجلوس على عرش الملكية وإنما في الغالب لمشاهدة مآل كل من فكر أن يفكر وقرر أن يتدبر ويقرر!!. كان المآل واحداٍ لغالبية من فعلوا ورفضوا أو ثاروا بوجه الظلم.. السجن لأشهر قد تمتد إلى أعوام في غياهب الظلام ثم الاقتياد إلى الساحات نفسها ودونما محاكمة عادلة أو حتى ظالمة تتوافر فيها أدنى فرصة للدفاع والمرافعة أو المحاججة. كثيرون اقتيدوا جراٍ بالقيود الثقيلة الحادة والصدئة إلى هذه الساحات وعلى مرأى ومسمع الجموع كانت تتلى فرمانات لا فصال فيها.. قرارات إعدام لا استئناف لها ولا ترتكز –غالباٍ – على أدنى وجه حق من شرع أو شر موجب للقمع حد الصرع!!. ومع بزوغ الشمس كانت تبدأ ملهاة إرهاب الشعب ومأساة اغتصاب الأرواح.. وتأصيل الاستلاب لفكرة الخنوع وأنها السبيل الوحيد للعيش وتعميم منطق الخضوع وتقديمه على أنه الملاذ من هول العذاب في الدنيا وآخرة العذاب يوم الحساب. في هذه الساحات التي حملت ذات التسميات مع فارق المحافظات وسواء كانت في صنعاء أو تعز أو الحديدة.. لا فرق.. ظل البؤس والضيم قاسمان مشتركان للجلاد والضحية.. فكلاهما منكوب بجور الإدارة ومسلوب الإرادة وحق العيش بحرية وكرامة. هنا.. في ساحات العرضي.. مجمعات العسكر التركي ثم الجيش الإمامي قبل أن تصير مجمعاٍ للجيش الجمهوري.. ظلت الرقاب تنحر.. والعقول تهدر.. والرؤوس تبتر.. والدماء تسفك لتروي الأرض كما الأنهر.. فيما الجماجم يْمثل بها وتعلق طوال أشهر. المئات سيقوا إلى هذه الساحات.. والآلاف حشدوا إلى هذه الساحات.. لرؤية جزاء مْنكر الظلم ورافض الظْلم.. ممن ظلوا حتى أخر لحظة لهم في الحياة ثابتين على الحق لا يساورهم الندم.. ولا يطاولهم شعور المنكسر المنهزم. نصب للشهداء كان حرياٍ تشييد نصب تذكاري لشهداء ساحات العرضي وشهداء المقاومة اليمنية للحملات العسكرية التركية إلى اليمن بوصفهم ثواراٍ ضد ما يعتبر قوات أجنبية غازية وسلطات احتلال بدلاٍ من تشييد نصب تذكاري لقادة الحملات العسكرية التركية!!. لا يوجد حصر شامل ودقيق بعد لعدد من أعدموا هنا في ساحات العرضي خلال عهد ما قبل ثورة سبتمبر لكن مصادر محلية وأجنبية تتفق في أن أعدادهم تضاعفت أضعافاٍ عهد الإمام أحمد بن يحيى حميد الدين خصوصاٍ عقب إفشاله ثورة «الدستوريين» عام 1948م ثم انقلاب 1955م فتمردات القبائل نهاية الخمسينيات. على أن أسماء كثير ممن اعتقلوا وجرى إعدامهم لم يكونوا من المتمردين عسكرياٍ أو قادة تمردات مسلحة بقدر ما كانوا من دعاة التغيير والإصلاح السياسي والإداري والانفتاح والمطالبين بالعدل في الزام الواجبات والحقوق. جْلهم كانوا من الفقهاء والعلماء والمثقفين والمفكرين والأدباء والشعراء إلى جانب عسكريين وعدد من المشائخ والوجهاء وغيرهم ممن كانوا أفضل حال بكثير من عامة الشعب المطحون وذوي الامتيازات أيضاٍ. موقد الثورة وحدها الدماء حين تراق بلا وجه حق تظل فائرة في العروق لا تخور ثائرة في الأرض لا تبور.. تماماٍ كما الأرواح حين تزهق باطلاٍ .. تظل في السماء غاضبة بكل ما أوتي نفاخها من جبروت السخط.. وهذا ما حدث في نهاية المطاف.. بقيت النفوس التي ارهقت ضيماٍ والدماء التي اهرقت ظلماٍ والأرواح التي ازهقت باطلااٍ.. ناراٍ تصطلي تحت الرماد سرعان ما تفجرت حمماٍ تحرق من أوقدها وظل يغذي اتقادها.. لكن ومع ذلك لم تنتقم الثورة اليمنية في السادس والعشرين من سبتمبر 1962م من مسرح اعدام الأحرار هذا بعكس أبواب صنعاء التي دكتها انتقاماٍ من عنصرية خص المدينة للأمراء والحاشية والتجار واشتراط تصريح مسبق لإقامة الوافدين. حفظ وترميم وبخلاف نقمة الثورة على أبواب مدينة صنعاء وإغلاقها مع مغيب الشمس وحتى طلوع الفجر وعدد من قصور الحكم فيها بقي «العْرضي» على حاله سالماٍ الدك الكلي إلا من آثار قصف الملكيين في «حصار السبعين» يوماٍ لعاصمة الجمهورية. بل أن الرئيس السابق علي عبد الله صالح أمر بتنفيذ مشروع ترميم وإعادة تأهيل شامل للعْرضي ومبانيه المختلفة واسواره العالية مع الحفاظ على طابعه المعماري المازج بين النمطين العثماني واليمني الصنعاني. أعاد مشروع الترميم الذي انتهى في العام 2003م وشمل زرع ساحته بهاء دار العرضي وعلى نحو يليق بأن يكون مجمعاٍ لوزارة الدفاع يضم بينما يضمه مكتباٍ للرئيس صالح بصفته القائد الأعلى للقوات المسلحة اليمنية. وقد أعيدت إلى العْرضي في 2001م الدبابة التي خرجت منه إبان قيام الثورة لقصف دار البشائر (قصر الإمام البدر محمد) وعْرفت باسم «المارد» وظلت في مكانها مصوبة فوهتها باتجاه الدار في ميدان التحرير رمزاٍ للثورة. وهاهي اليوم «شعلة الثورة» السنوية تلحق بدبابة «المارد» التي سحبت من ميدان التحرير وما كان يعرف «ميدان شرارة» إثر بدء تنفيذ مشروع أنفاق مرور المشاه ولأغراض الصيانة لتعود إلى ساحة انطلاق الشرارة الأولى للثورة.