الرئيسية - دنيا الإعلام - حتى آخر مرفق حكومي
بإمكان الانتفاضات العمالية أن تؤسس لحركة نقابية حقيقية ومستقلة لأول مرة، سيكون من شأنها الدفاع عن مصالح الطبقة العاملة والتأثير في القرارات الحكومية
حتى آخر مرفق حكومي
الساعة 12:00 صباحاً البديل متابعات - المصدر أونلاين - خالد عبدالهادي

rn
سيشعر الرئيس معزول السلطات وهو يرى رجاله يتساقطون تباعاً أنه كان يحلم حين قال لأنصاره بزهو إنهم صمدوا كما لم يصمد رفاقهم في تونس ومصر وليبيا.


وتتواصل الانتفاضات العمالية في معظم المؤسسات الحكومية ممتدة إلى غالبية محافظات البلاد في حركة احتجاجية عفوية غير محكومة بالموازين السياسية والتوافق الناشئ عن خطة نقل السلطة المدعومة عالميا.


هذه الخاصية أفضل ما في الانتفاضات العمالية المتوالية وهي الضامن لاستمرارها دون قدرة الأطراف السياسية على وقفها أو تقييدها باتفاقات سياسية.


وبإمكان هذه الانتفاضات القائمة كلية على أساس مهني ومطلبي أن تؤسس لحركة نقابية حقيقية ومستقلة لأول مرة في البلاد، سيكون من شأنها الدفاع عن مصالح الطبقة العاملة والتأثير في القرارات الحكومية لصالح منتسبيها.


صُدم الرئيس علي عبدالله صالح وحزبه بالانتفاضات النقابية التي تعم المؤسسات الحكومية وتنتشر بسرعة فائقة إلى المحافظات بعد أن ظنا أنهما قد حصنا نفسيهما بما يكفي واحترزا لكل ما من شأنه الإطاحة برجال الرئيس من مواقعهم التنفيذية.


بيد أن اتفاقية نقل السلطة التي اعتقد صالح ورجاله أنها حرز كاف للتحصن من تأثيرات الانتفاضة الشعبية السلمية منظومة تنفيذية لترتيب انتقال السلطة ولا سلطان لها على قرار المجتمع في تدبر شؤونه الخاصة.


بود صالح والمؤتمر الشعبي العام أن يطلبا اتفاقية أخرى، تحظر تغيير المدراء ورؤساء المؤسسات الحكومية التي يحتج فيها الموظفون بوحي داخلي من حاجاتهم ومعاناتهم جراء الفساد وهضم حقوق الفئة العاملة.


ويحتاج صالح على انفراد لاتفاقية ثالثة تبعد عنه شبح إمكانية ملاحقته عالمياً، واتفاقية رابعة تقيه من هاجس الخوف والشعور الدائم أنه في غير مأمن. هذا الشعور هو ما يقوض سكينته الداخلية ويقلق راحته.


لقد تسربت قبضة السلطة ولا يمكن لأحد أن يغادر الحكم ثم يبقي على معالم عهده دون مس.
من المقرر أن يشرًع البرلمان قانوناً لتحصين صالح ومعاونيه من المحاسبة في الأيام المقبلة، إلا أن هذا أيضاً لن يضمن الطمأنينة الطبيعية والتنقل الحر لفريق من رجال الحكم يعرف تهمته سلفا.


هل كان بوسع اتفاقية نقل السلطة مثلاً أن تمنح صالح حفاوة استقبال تليق برئيس وهو يستجدي حكومة الولايات المتحدة الأميركية طلب استضافته ثم يأتي الرد الأميركي بفتور وبعد أيام من تدارس الطلب بالموافقة على الطلب لكن بمقاييس شخص زائر للعلاج.


ويلغي الرئيس طلبه إما غضباً على تصرف حلفائه الذين أسدى لهم خدمات كما لم يفعل حاكم آخر في منطقة الشرق الأوسط أو اضطراراً للبحث في تدابير يكبح بها الانتفاضات العمالية التي تجتاح مرافق الدولة.


تسلط هذه الانتفاضات الضوء على تجربة العمل النقابي التي شوهها النظام ومسخ الغاية منها.
كان نظام علي عبدالله صالح بالمرصاد لأي توجه نحو ثقافة نقابية سليمة وأجهض كل المحاولات لتأسيس تجربة نقابية مستقلة عقب قيام الوحدة بين شطري البلاد وإقرار حرية تشكيل المنظمات النقابية والحزبية.


حتى أنه جرف في إطار ذلك التوجه التجربة النقابية الوافدة حينذاك من جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية التي تشكلت بواكيرها في عهد الاستعمار البريطاني للجنوب اليمني وشكلت إحدى بؤر المقاومة ضد الاستعمار قبل أن تتوسع وتتطور في مراحل لاحقة.


وربما كان نظام صالح النظام الوحيد المصنف بأنه ديمقراطي لكنه يفوق الأنظمة الشمولية في تدمير الحركة النقابية بمنهجية وإصرار عبر استنساخ النقابات المهنية والاتحادات الإبداعية والمنظمات المختلفة فضلاً عن إعاقة نشاطاتها والنظر إليها على أنها كيانات سياسية يتوجب التضييق عليها وفرض هجرة قسرية على منتسبيها.


تخشى الأنظمة الشمولية من الحركات السياسية المعارضة في المقام الأول لكنها لا تمعن في تفكيك نقابات الموظفين أو الجمعيات المهنية كما انتهج نظام صالح في مفارقة ملموسة، لا تعوزها الشواهد.


إذ أن وظيفة النشاط النقابي تهدف في المجمل إلى تنظيم العلاقة بين العمال المنتجين والجهة المستفيدة من إنتاجهم سواء كانت الدولة أو الشركات الخاصة. والدفاع عن مصالح العمال وحقوقهم لدى تلك الجهات.


لكن رؤية نظام صالح لرسالة العمل النقابي عامة كانت تنحصر في همًين فقط: أن يظل أعضاء أن تجمع نقابي تابعين دائماً ولطفاء في علاقتهم مع النظام مهما نزل بهم من عسف وأن كل عضو من هؤلاء يشكل رقماً مؤثراً في نتيجة الانتخابات؛ أي انتخابات. ويُفترض وفقاً لتلك الرؤية ضمان أن تذهب أصواتهم لصالح الحزب الذي يحكم به النظام ولا ضمانة فعالة لذلك أفضل من إبقاء الحركة النقابية برمتها تحت السيطرة.


لم تكن مجلة "ألف باء" العراقية التي كانت تصل نسخها إلى اليمن قبل حرب الخليج الثانية تشتمل على جملة سياسية واحدة غير أنها كانت تتناول كل أوجه التقصير أو اختلالات الأداء الوظيفي في مرافق الدولة إبان القبضة الحديدية للدكتاتور الراحل صدام حسين على سائر شؤون المجتمع والدولة وحزب البعث ونقابات المجتمع.


ويمكن لأي صحيفة في المملكة العربية السعودية أن تنتقد جوانب الأداء الحكومي وسلوك المدراء الحكوميين في أي من الوزارات فلا تنبري مطبوعة حكومية للدفاع عمن يطالهم النقد دون أن يعني هذا أنً حركة نقابية تعمل هناك إنما هو حد معقول لتمكين المجتمع من معالجة مشاكله دون تأثير على الحكم.


لكن هنا وفي عهد علي عبدالله صالح، كانت إشارة بسيطة بالنقد إلى مدير أو مؤسسة ما تقتضي بالضرورة اندفاع وسائل الإعلام النظامية للدفاع عن الجهة الموجه إليها النقد وتنزيهها مع تفسير كل شيء من هذا القبيل بـ"الأغراض السياسية".


بل تجاوز الأمر تلك الحدود بكثير: صالح نفسه تحدى ببجاحة مقززة في مقابلة صحفية قبل سنوات قليلة إثبات تهمة الفساد ضد أي من رجاله حين أثار محاوره أن فاسداً واحداً لم يقدم للمحاسبة في إطار برنامج مكافحة الفساد.


يشير مستوى العمل النقابي إلى واقع المجتمع وتطوره سياسياً. ولقد كان تعامل نظام صالح مع الحركة النقابية بتلك السلبية انعكاساً مباشراً لطبيعته المتخلفة ونظرته إلى البلاد على أنها ملكية خاصة به, يستطيع تصريف أمورها وفق رغبته ومشيئته.


وفي هذا السياق، يقول صالح في اجتماع مع مسؤولين حكوميين من حزبه مطلع هذا الأسبوع "لا يمكن بأي حال من الأحوال السماح بانهيار المؤسسات ومرافق الدولة التي بنيت منذ أكثر من 49 سنة".


فيما بدأ مسؤولون في المؤتمر الشعبي العام يهددون بالامتناع عن مواصلة تنفيذ خطوات اتفاقية نقل السلطة في حال تواصلت الانتفاضات النقابية ويلقون باللائمة على أحزاب اللقاء المشترك في تبنيها.


تعطي ردود الفعل هذه تفسيراً واضحاً لنزعة الملكية الخاصة التي تسكن الرئيس ورجال حزبه حيال مؤسسات الدولة فيغدو في تقديرهم الاحتجاج ضد مدير يرأس مؤسسة ما "سماح بانهيار المؤسسات ومرافق الدولة".


ستتواصل انتفاضة المؤسسات وفي حال جرى كبحها باتفاقات سياسية تقديراً لمخاطر الفترة الراهنة فإن انتفاضات من نوع آخر ستظهر لأنها تعبير عن فعالية الانتفاضة الأم التي تجدد نفسها.