الرئيسية - محليات - ميناء المخا.. لم تعد تتذكر تاريخها!!
ميناء المخا.. لم تعد تتذكر تاريخها!!
الساعة 03:00 صباحاً الثورة نت../

‮‬صقر الصنيدي –

تبدو المراكب الحربية الراسية في‮ ‬ميناء المخاء كما لو أنها عائدة من معركتها الأخيرة التي‮ ‬جلبت عليها الويلات‮ .‬ إلى جوار هذه المراكب توجد سفن لم تعد قادرة على الإبحار وحظها العاثر لم‮ ‬يمكنها من الغرق كما فعلت التيتنك‭ ‬ولا تصلح للحياة على البر فجثت بين الماء واليابسة‮ ‬ووفقا لمدير ميناء المخاء فإنها سفن تم تجميعها من شواطئ عديدة بعد أن أصبحت لا تصلح لشيء‮ ‬غير الحسرة لتزيد من ترسيخ سمعة ميناء المخاء‮ ‬غير الجيدة منذ أن دمره البريطانيون في‮ ‬حربهم ضد العثمانيين‮ ‬1915م ولم‮ ‬يجد من‮ ‬يخبره أن تلك المعركة قد انتهت‮ .‬

وللتاريخ عبرة فالمدن التي‮ ‬تخوض حربا أما أن تنهض من أول‮ ‬يوم في‮ ‬السلم كما حدث لطوكيو أو تبقى رهينة الخوف كما حدث لهذا الميناء التاريخي‮ ‬الذي‮ ‬سار مجموعة من شباب تعز قبل أشهر راجلين إليه‮ ‬92‮ ‬كيلو مطالبين بعودته إلى الحياة‭ ‬وأطلقوا على مسيرتهم تلك‮ “‬موكا‮” ‬نسبة إلى القهوة المعروفة عالمياٍ‮. ‬أحد هؤلاء الشباب محمد عبدالرحمن صبر هو من‮ ‬يتولى إدارة الميناء حالياٍ‮ ‬ويريد أن‮ ‬يعيد إليه مكانته‮ ” ‬تأتي‮ ‬القليل من السفن لتفرغ‮ ‬حمولتها لكنها جدا قليلة‮ ‬‭ ‬وحتى نجعل العدد‮ ‬يزداد لابد من استعادة الثقة مع التجار الذين توقفوا عن استلام بضائعهم من هذا المنفذ الهام منذ سنوات وذهبوا إلى موانئ أخرى‮ “.‬ تكالبت الظروف على نشاط الميناء قديما‭ ‬البن اليمني‮ ‬الذي‮ ‬كان‮ ‬يمر من هنا فقد قيمته المرتفعة بعد أن دخلت البرازيل والمكسيك بالإنتاج الضخم لهذه المادة‮ ‬وميناء الحديدة وعدن وفرا الخدمات الأفضل فتراجع المخا ببطء‮ ‬كما تعود مياه الجزر في‮ ‬سواحله ببطء أيضا‭ ‬وصار منفذا عسكريا تواجد فيه مئات الجنود من ألوية ومناطق عسكرية عديدة حتى أصبح مزعجاٍ‮ ‬للسفن المدنية‮. ‬يقول مدير الميناء الذي‮ ‬تسلم مهامه قبل أسابيع‮: ” ‬أول ما وصلت اجتمعت مع العسكريين وطلبت منهم تخفيف تواجدهم إلى أكبر قدر ممكن حتى نتمكن من العمل وقد بدأ التجاوب منهم‮ ” .‬ ويشير محمد صبر نحو رصيف الميناء وتحدد إحدى‮ ‬يديه مباني‮ ‬عشوائية صغيرة تم استحداثها وأكشاك من الخشب أقيمت من حطام السفن ليسكن فيها جنود‮ ‬وجميع هذه البنايات تجعل الميناء ضيقا‮.‬ ويردد صبر‮: “‬كيف للتجار أن‮ ‬يقيموا أرصفة ومستودعات للبضائع القادمة من البحر‮” .‬ بالفعل‮ ‬يبدو المكان محاصرا بسور محدود‭ ‬بالنسبة للعاملين في‮ ‬الميناء فإنهم مقتنعون فقد عاصروا ميناء بمساحة أصغر مما هو الآن‮ .‬ والجيد أيضا أن المنطقة تم فتحها أمام السفن وتعد الصور المرفقة بالمادة من أوائل الصور التي‮ ‬سمح بالتقاطها لما كان‮ ‬يعرف بالمنطقة الممنوعة‮. ‬يقول صبر‮: ‬لا نريدها أن تظل منطقة عسكرية لا داعي‮ ‬لهذا نريد أن تنفتح أمام العالم وتصبح جزءاٍٍ‮ ‬من نظام الموانئ‮ ” .‬ وزير النقل واعد باذيب كان في‮ ‬الميناء قبل أيام وهي‮ ‬زيارة مكررة له ليعرف ماذا على الوزارة أن تعمل‮. ‬وقال إنه حانت اللحظة لتطوير المخاء جذرياٍ‮ ‬قبلها كان قد كشف عن اتفاقية تطوير للميناء بين الوزارة والمجلس المحلي‮ ‬لمحافظة تعز تكلف في‮ ‬مرحلتها الأولى‮ ‬30‮ ‬مليون دولار امريكي‮ .‬ من الخطوات الأولى‭ ‬النزول الميداني‮ ‬إلى التجار وتحديدا في‮ ‬المدن القريبة تعز‮- ‬إب‮- ‬الضالع لإقناعهم وطمأنتهم بعدم الخوف من العمل في‮ ‬ميناء المخاء واستقبال بضائعهم فيه‮. ‬هذا سيعيد للميناء حركته التجارية وسيعيد على الأقل من فقدهم الميناء تدريجيا في‮ ‬الفترات السابقة‮ ” ‬يقول صبر متفائلا‮ .‬ لقد ظلت الإشاعات تطارد هذا الميناء وتقيم جدارا بينه وبين التجارة وعندما‮ ‬يرد أن بضاعة أو حتى أفراداٍ‮ ‬تم تهريبهم عبر المخاء فالجميع‮ ‬يعتقد أنه عبر الميناء‮ ‬والحقيقة كما‮ ‬يرويها محمد صبر أن للمخاء‮ ” ‬المنطقة‮ ” ‬شواطىء كبيرة وهناك من‮ ‬يستغلها لأعمال‮ ‬غير مشروعة تضر بسمعة الميناء البعيد عن أي‮ ‬أنشطة سيئة الصيت‮ .‬ شهدت المخاء عصور ازدهار جعلتها تتصدر المدن الهامة في‮ ‬التصدير ولعل أكثر تلك العصور أيام العثمانيين الذين ضمنوا في‮ ‬قوانينهم إلزام السفن التي‮ ‬تبحر نحو البحر الأحمر أن تمر من ميناء المخاء حتى حدثت المعركة بينهم وبين البريطانيين ضمن الحرب العالمية الأولى وكانت بمثابة وداع رسمي‮ ‬لخدمات هذا الميناء‮ ‬بعدها لم‮ ‬يجد طريقا‮ ‬يسلكها إلا وتعثر ومعه فقدت المدينة رونقها وكثيرا من جاذبيتها‮ ‬وحين‮ ‬يصل الزائر إلى إحدى بواباتها الخمس التي‮ ‬لا أثر لها إلا في‮ ‬الكتابات القديمة والمدونات‮ ‬يرى جدراناٍ‮ ‬رسم فيها الزمن تجاعيده ومبانياٍ‮ ‬تركت حتى انهارت دون أن‮ ‬يعرف جيرانها حدوث الأمر أو ليسوا مهتمين لبقائها أصلا‮. ‬وأمام هذا التدهور في‮ ‬تماسك التاريخ المعماري‮ ‬تنشئ مباني‮ ‬قليلة بطراز لا علاقة له بالأمس ولا بتاريخ المدينة التي‮ ‬يقول عنها الناس هنا أنهم‮ ‬يقيمون فوقها‮ ” ‬المخاء تحتنا‮ ” ‬أي‮ ‬أن كثبان رمل دفنتها لدهور قبل أن‮ ‬يأتوا ليقيموا حياتهم عليها‮ ‬أو هذا ما استوعبته من أحاديثهم‮ .‬ قادمون من البحر‮ ‬ ذهابا و أيابا‮ ‬يمكن مشاهدة القادمين من الصومال أو جيبوتي‮ ‬أو أثيوبيا‮ ‬يسيرون بالتوازي‮ ‬مع الخط الأسفلتي‮ ‬الذي‮ ‬يحميهم من فقدان الوجهة التي‮ ‬يبحثون عنها ويعتقدون أنها خلف التل القريب‮ ” ‬رداع‮ ” ‬الكلمة العربية الوحيدة التي‮ ‬يحفظونها ويقصدونها للعمل في‮ ‬مزارع القات هناك‮ .‬ ‮ ‬يخبرهم المهربون الذين حملوهم على السفن القديمة إنها قريبة جداٍ‮ ‬وأنهم سيعثرون على فرص الحياة الكريمة فيها ولأنهم لا‮ ‬يفهمون ما نقول نعجز عن إخبارهم أنها بعيدة‮ ” ‬يقول أحد أهالي‮ ‬المخاء وفي‮ ‬عينيه خليط من مشاعر الشفقة والحياد‭ ‬هذه الصفة الأخيرة أصبحت الأكثر انتشارا هنا لا أحد‮ ‬يمتلك‮ ‬غير الحياد تجاه من‮ ‬يحملون أكياساٍ‮ ‬صغيرة وأحلاماٍ‮ ‬كبيرة‭ ‬تتوقف أيدي‮ ‬الأفارقة من التلويح لسائقي‮ ‬السيارات أن‮ ‬يقلوهم معهم فقد ملوا الرفض ولم‮ ‬يعلموا السبب‮ .‬ في‮ ‬عودتنا خرجنا عن الحياد وقرر الرائع رفيق الرحلة المهندس عبدالرحمن أن‮ ‬يفاجئ مجموعة من الإثيوبيين بالتوقف وهو‮ ‬يشير إليهم أن‮ ‬يصعدوا إلى السيارة وهو‮ ‬يهمس مبتسما‮ ” ‬هؤلاء أخوالنا‮ ” ‬ولأنهم لم‮ ‬يصدقوا فقد وقفوا ذهولا لثواني‮ ‬ثم هرولوا نحونا بعنف وخوف من أن نتراجع عن الرحمة‮.‬ ‮ ‬رموا أجسادهم وابتسامتهم نحونا كانوا أربعة وحين أردنا عدهم أصبحوا سبعة لم نمتلك التفسير المنطقي‮ ‬للسرعة التي‮ ‬لحقنا بها الثلاثة الإضافيين وبقينا نتساءل من أين هبطوا علينا‮ .‬ ‮ ‬في‮ ‬الطريق كانت أيادي‮ ‬من أصبحوا في‮ ‬مأمن ترفرف في‮ ‬الأعلى ملوحين لمن نمر بهم من المحبطين الذين‮ ‬يرمقونهم بنظرات حسد على ما صاروا فيه من نعيم فهم قد أراحوا أقدامهم من طي‮ ‬الحصى وسيصلون قبلتهم رداع أولاٍ‮ ‬لم نشا أن نتوقف مجددا‮ .. ‬حتى لا نكثر من‮ ‬يشاركهم الفرح الذي‮ ‬زال بمجرد وصولنا إلى النقطة العسكرية عند مدخل مدينة تعز فقد خبط جندُُ‮ ‬سيارتنا بعنف‮ “‬جنبوا‮” ‬وطلب منا الترجل وهو‮ ‬يقول‮” ‬أنتم تهربوا صومال‮” .‬ ‮ ‬فسرت هذه الكلمات برنامج الحياد الذي‮ ‬حاولنا الخروج عنه وعرفنا أن حمل إنسان‮ ‬يقطع مئات الكيلو مترات حاملاٍ‮ ‬قنينة ماء فارغة جريمة ولم نفهم معنى أن‮ ‬يترك الباب مفتوحا لدخولهم إلى البلاد بينما تقديم خدمة بسيطة‮ ‬يعد جريمة‮. ‬أراد الجندي‮ ‬أن‮ ‬يأخذنا الى الجهات الأمنية قبل أن‮ ‬يأتي‮ ‬الضابط المسئول عن النقطة وبعد إقناعه أننا لم نمتلك من القسوة ما‮ ‬يكفي‮ ‬لتركهم‮ ‬يسيرون على أقدامهم المنهكة‮ ‬طلب أن‮ ‬ينزل السبعة الذين لم‮ ‬يكونوا قد فهموا أنهم سبب احتجازنا‮ .‬ ‮ ‬لا وجود لقانون‮ ‬يمنع حمل الأفارقة لكن عليهم أن‮ ‬يسيروا على أقدامهم ولا‮ ‬يركبوا سيارة وكأننا فقط نستمتع بعذابهم‮ ‬لا نحن أجدنا المنع ولا الاستقبال فرغم أن بلادنا أمضت على اتفاقية الباب المفتوح إلا أنها لا تسمح لهم بغير السير على الأقدام‮ .‬ بعدها وجدناهم وقد اجتازوا النقطة العسكرية سيرا ولم‮ ‬يفكر لا هم ولا نحن أن نقلهم من جديد فقد صرنا محايدين كما‮ ‬يجب أن نكون‮ .‬ يتولى أحد أهالي‮ ‬المنطقة شرح عملية الوصول الأول وأن المهربين‮ ‬يقومون بنقلهم إلى اليمن ويرمون بهم على شواطئ المخاء ليلاٍ‮ ‬وفي‮ ‬الصباح‮ ‬يمكن مشاهدة البشرة السمراء تكسو المدينة الصغيرة والتي‮ ‬لا‮ ‬يبقون فيها‮.. ‬إنها محطتهم المؤقتة تشاركهم الطيور المهاجرة التي‮ ‬تهبط من أعلى نقطة طيران في‮ ‬السماء لتأخذ قسطا من الراحة تزيد قدرتها على الاستمرار في‮ ‬رحلتها السنوية بين قطبي‮ ‬الأرض‮. ‬يقول علماء الطبيعة إن هذه الطيور تحمل في‮ ‬خلايا دماغها الدقيقة خرائط توضح أماكن التوقف والاستراحات و إنها تمارس هذا منذ آلاف السنين‮ ‬في‮ ‬الطريق‮ ‬يضطر الهاربون من فقر وحرب أفريقيا للسير على أقدامهم ترافقهم الشمس التي‮ ‬يتمنون أن تحول السحاب دونها‮. ‬تواجدهم على طرفي‮ ‬الطريق‮ ‬يجعل كل من‮ ‬يراهم‮ ‬يسأل عن المكان الذي‮ ‬مروا عبره فتكون الإجابة المخاء وتزداد الشكوك حول هذا الممر وتكبر المخاوف من التعامل معه أكثر وكأنه مركزا لتهريب البشر‮ .‬ كل هذه الإشكاليات لا تثني‮ ‬إرادة القائمين حالياٍ‮ ‬عن العمل لكنها ترهقهم وتضاعف جهودهم للخروج بالميناء إلى بر الأمان وإعادة جزء من أمجاد ماضي‮ ‬المخا‮.‬