الصين.. والصورة المغايرة للدولة العظمى
الساعة 06:55 مساءً

وأنا أكتب عن الصين أشعر بمسؤولية كبيرة، فأنا أكتب عن أمة عظيمة تمثل ١٨.٥٪ من سكان العالم وهي ثالث أكبر دولة في العالم من حيث المساحة، وهذه معلومات بديهية عن الصين لكني أوردها هنا لأبرز أهمية الأمة (الدولة) التي أتحدث عنها.
هذه الدولة التي أصبحت رقما عالميا لايمكن تجاهله أو تجاوزه، لا يمر يوم على أي مهتم أو حتى على الإنسان العادي دون أن يقرأ أو يسمع أو يشاهد خبرا عن الصين، فهي تحطم كل الأرقام القياسية في الجانب الإقتصادي وتحقق قفزات مذهلة على الصعيد العلمي وتتقدم بخطوات واثقة على الصعيد السياسي وتتبوأ موقع الصدارة في الجانب الرياضي وتساهم في إعمار دول العالم الثالث وإرساء الإستقرار فيها.
لامجال هنا لتعداد الأرقام التي تحققها الصين أو لعرض الجوانب الإقتصادية التي تساهم بها في معظم دول العالم، فهي معروفة للجميع، في هذه المقالة سأحاول تقديم الصورة الواقعية والحقيقة التي نرى بها الصين في منطقتنا العربية، ولأجل ذلك سأرجع قليلا للقرن العشرين، ففي الرابع والعشرين من سبتمبر ١٩٥٦م أقيمت العلاقات الصينية اليمنية وكان اليمن من أوائل الدول العربية التي أقامت علاقات مع جمهورية الصين الشعبية بعد مصر وسوريا.
وبعد قيام ثورة ٢٦ سبتمبر دعمت الصين الجمهورية الوليدة وأثناء حصار السبعين كانت البعثة الصينية هي البعثة الوحيدة التي لم تغادر وظلت الطواقم الطبية الصينية تعمل في صنعاء، ومازالت الحكومة الصينية تقدم الدعم للشعب اليمني وللحكومة الشرعية المعترف بها دوليا، وتدرك المخاطر التي تمثلها جماعة الحوثي وعلى رأسها التهديدات في البحر الأحمر التي تعتبر الصين من أكبر المتضررين منها، لأن نسبة كبيرة من الصادرات الصينية تمر عبر البحر الأحمر، وأيضا هذه التهديدات والمخاطر تؤثر على مشروع الحزام والطريق.
هذا المشروع العملاق الذي نستطيع تسميته بمشروع القرن العالمي، الذي تحاول من خلاله الصين تنمية البلدان التي يمر بها هذا المشروع العملاق، وكما كانت الصين تقدم المساعدات للدول النامية ومن بينها اليمن والدول العربية حتى قبل النهضة الإقتصادية الكبيرة التي غيرت  العالم، لأن الصين كانت في الخمسينيات والستينيات دولة قوية أيضا ولها  نفوذها الدولي واستقلاليتها التامة، واليوم أصبحت الصين قوة عالمية رئيسية تقود دفة الإقتصاد العالمي وتسهم في استقراره وهاهي ترفع من وتيرة مساعداتها لكل الدول التي تحتاج للمساعدة ومن بينها الدول العربية.
والملاحظة المهمة هنا هي أن الصين لم يكن لها أي أهداف ولا اشتراطات وهي تقدم المساعدات لا في الماضي ولا في الوقت الراهن، هذه السياسة التي اتبعها الحزب الشيوعي الصيني وهي عدم التدخل في شؤون الدول إلا فيما يسهم في رخائها وازدهارها هي التي جعلت الصين حلما جديدا للعالم، وكما كانت أميركا حلم العالم في القرن العشرين بالسفر إليها، أصبحت الصين هي حلم العالم في القرن الحادي والعشرين ولكن هي من تأتي إلى الشعوب وتحقق أحلامها، خاصة الشعوب العربية التي عانت من الإستغلال الغربي وابتزازه السياسي حتى لأقرب حلفاءه.
كيمني عشت بطبيعة الحال في صنعاء ثم انتقلت بسبب الحرب إلى المملكة العربية السعودية وعشت فيها أربع سنوات وها أنا ذا أعيش في القاهرة، سأتحدث عن صورة الصين في الوسط الثقافي والإعلامي الذي عشت فيه في العواصم الثلاث.
في اليمن مثلا معظم شرائح المجتمع اليمني تنظر بعين الريبة والشك لكل الدول الكبرى ويرى اليمنيون أن لهذه الدول مصلحة ما في الصراع الدائر وهي من تذكيه.
المفارقة هنا هي أن الصين وهي دولة عظمى خارج هذا التصنيف وهذه الاتهامات، بل على العكس ينتظر اليمنيون انتهاء الحرب ويرون في الصين أملا جديدا في دعم البلاد وتمكينها من النهوض الإقتصادي كما فعلت ذلك في القارة الإفريقية وفي عدد كبير من دول العالم، وفي السعودية وهي البلد المستقر والغني يرى معظم مواطنيها في الصين مستقبلا مشرقا لأنها بالإضافة لشراكتها الإقتصادية الكبيرة مع المملكة توجِد عامل توازن سياسي مقابل تغير السياسات الغربية تجاه المملكة ودول الخليج.
 كذلك تنظر الحكومة السعودية للصين باحترام كبير وهذا يُلمس من خلال تبنيها قرارا حكوميا بتدريس اللغة الصينية في مدارسها الحكومية وهذا له دلالته التي لا تخفى.
 وفي مصر لاتتغير الصورة كثيرا فالصين هي المُعَوّل عليها وليس غيرها، فشركاتها تساهم في بناء العاصمة الإدارية الجديدة وتبني مدنا صناعية وموانئ عملاقة، وفي الجانب السياسي يرى العرب في الصين دولة صادقة تمتلك وجها واحدا ولا تمارس الإبتزاز ولا تتدخل في الشؤون الداخلية للدول إلا وفق ما يراعي مصالح هذه الدول ويسهم في استقرارها، ومما ألاحظه وهو من الغرابة بمكان هو إجماع الشعوب العربية والحكومات أيضا على رؤية واحدة تجاه الصين وهذا لايحدث مع أي بلد على الإطلاق.
 هذه النظرة الإيجابية للصين ليست منةً منا نحن العرب أو شعوب العالم الثالث، فهي نظرة تستحقها الصين، فلولا الشركات الصينية ما وصلت الأجهزة الحديثة لكل منزل ولا السيارات التي كانت حكرا على الأغنياء.
الصين مكنت أبسط الناس من خلال تكنولوجيتها التي يسّرتها للعالم ولم تحتكرها، والصين هي من أنقذت شعوبا عديدة من النهب المُمنهج والتقاسم الغربي للنفوذ على حساب دول العالم الثالث ومن بينها دولنا العربية.
ومع المحاولات الحثيثة والمتواصلة من خلال الآلة الإعلامية الغربية التي تتزعمها أميركا لتشويه صورة الصين إلا أن ما يحدث هو العكس، فبعد محاولة ترامب إلصاق التهم بتسمية الفيروس بالصيني، خرجت الصين منتصرة وأذهلت العالم من خلال إدارتها للأزمة وتجاوزها لها قبل أي دولة أخرى، بل قدمت المساعدة لدول غربية كان ينظر إليها على أنها قمة العالم في التقدم مثل إيطاليا، وأنتجت لقاحا ضد الفيروس وزودت به كل الدول الفقيرة والغير قادرة على إنتاجه وأثبتت أنها تمتلك قاعدة علمية  تتفوق على نظيراتها الغربية.
وفي أزمة الصاروخ الفضائي حاولوا تشويه صورة الصين أيضا و قدمت درسا للعالم من خلال ثقتها بمكان سقوط الصاروخ ورأى العالم إلى أي مدى وصلت الصين على صعيد الفضاء، كل هذا أسهم في ثقة العديد من الشعوب ومنها الشعوب العربية بأنها قادرة على الخروج عن الهيمنة وانتزاع استقلالها الاقتصادي من خلال الاقتداء بنموذج الصين المذهل والاستفادة منه.
والنظرة للصين ليست اقتصادية بحتة، فالشباب العربي الطموح الذي كان يتمنى الحصول على منحة في الغرب للدراسة أصبح يوجه ناظريه صوب الصين ويرى في جامعاتها ومعاهدها ولغتها  بديلا مناسبا يحقق له مايصبو إليه من تحصيل علمي، والناشطون السياسيون الذين كانت تحركهم المنظمات الغربية لم يعودوا في الساحة بمفردهم وسُحب البساط من تحت أرجلهم، سحبه جيل جديد يرى في الصين نموذجا سحريا حقق المعادلة الصعبة التي لم يحققها أي بلد في العالم، وهو نموذج الحزب الشيوعي الصيني الذي يحكم الصين أمة المليار ونصف باحترافية شديدة وكأنه يدير شركة للتقنيات المتقدمة.
 هذا الحزب الذي يقف على مسافة واحدة من كل الأحزاب العربية، ويقارن كل هذا مع  الدول التي حكمت العالم وسيطرت عليه في الماضي وكيف أنها تحيك المؤامرات وتكيل التهم للصين وحزبها الشيوعي ومع هذا كله نجدها تمضي بثبات وثقة وحكمة تثير الإعجاب وتمنح الأمل، هذه صورة مبسطة استخلصتها من مشاهداتي وقراءاتي ونقاشاتي مع العديد من الزملاء والمواطنين والمسؤولين الذين التقي بهم وتكون الصين هي محور الحديث، وهي صورة مبسطة كثيرا وأوردتها بشكل مختصر لكنها في الحقيقة تحتاج لمؤلفات عديدة ودراسات وافية لإبرازها وإلقاء الضوء عليها لأنها مهمة في طبيعة العلاقات بين الصين ودولنا العربية التي ترى في الصين ملاذا حقيقيا ينقذها مما هي فيه من تخلف اقتصادي وتحديات سياسية تهدد وجودها كدول.