الرئيسية - محليات - شواهد تختزل تاريخ سبعة قرون مضت
شواهد تختزل تاريخ سبعة قرون مضت
الساعة 03:00 صباحاً الثورة نت../

جيلاٍ إثر جيل وأمة في إثر أمة وموتى على أنقاض موتى جمعتهم “مقبرة القرضين” بصعدةº هذه المقبرة التي يقال عنها إن عدد موتاها أكثر من ضعف عدد سكان مدينة صعدة الأحياء وتعد أكبر وأقدم المقابر الإسلامية في اليمن إن لم نقل في العالم العربي كله وتكمن أهمية هذه المقبرة في وجود الألواح الحجرية والشواهد التاريخية على قبور الموتى والتي تكشف جوانب خفية في التاريخ الإسلامي وتمثل مضامينها تاريخاٍ خصباٍ ومعلومات نادرة عن حياة كثير من الرجال الأعلام والعلماء البارزين كما تكشف جوانب الأنساب لكثير من الأسر اليمنية على مدى عشرة قرون كاملة.

أقسام متعددة تحتل “مقبرة القرضين” بصعدة مساحة واسعة ورحبة من الأرض وتحيط بمدينة صعدة القديمة من اتجاهين الغربي والشمالي ومساحتها الأصلية تزيد عن مساحة المدينة القديمة وقد كانت مقبرة واحدة حتى مطلع السبعينيات في القرن العشرين الميلادي حيث امتد العمران خارج مدينة صعدة القديمة إلى أجزاء من الفواصل الداخلية للمقبرة فاقتطعها وشيدت فيه المباني التي باتت تزحف عل المقبرة رويداٍ رويداٍ دفع قيادة محافظة صعدة في 1986م إلى تنفيذ مشروع سور المقبرة التي تشكلت في أربع مقابر منفصلة أكبرهما المقبرتان الغربيتان (المقبرة الأم) غرب المدينة القديمة يفصلهما عن سور المدينة عشرات الأمتار ومقبرة جنوبهما لا يفصلها سوى خط الإسفلت (الطريق العام) والمقبرة الشمالية الرحبة في وسطها شارع إسفلتي يمتد من باب نجران شمالاٍ إلى نسرين وقد ظلت المقبرة محط عبث واعتداء دائم وأعمال تدمير متعمدة للألواح الحجرية المنصوبة على قبور الموتى وتدمير المشاهد التي أقيمت على بعض القبور من هذا العبث حيث أعيد بناء بعض الجوانب المهدمة في الأسوار واستكمال المتبقي منها وعمل أبواب لهذه المقابر حرمة للمقابر والموتى وحفاظاٍ على معالمها التاريخية المتفردة والقيمة التاريخية الكبيرة المتمثلة في الأضرحة والألواح المنصوبة عليها والتي تعود أقدمها إلى القرن الخامس الهجري. ومقبرة “القرضين” بصعدة ما تزال حتى اليوم محتفظة بأقسامها المتعددة فهي مقسمة حسب الأسر القديمة بصعدة إلى مقابر فهناك مقبرة آل الدواري مقبرة آل الذويد مقبرة آل الهبي مقبرة آل سهيل مقبرة آل النجم مقبرة الشحم مقبرة آل الأعمش مقبرة آل حابس مقبرة آل الهاشمي .. وغيرها. وفي إطار كل مقبرة محددة يتم دفن الموتى من هذه الأسر كابراٍ عن كابر على مدى قرون خلت بما في ذلك الأسر الجديدة التي تعود بأنسابها إلى الأسر القديمة كما توجد مقبرة للأشراف من آل حمزة وفي شمال المدينة توجد مقبرة قديمة كانت مخصصة لأهل الذمة (اليهود) بها أعداد كبيرة من الموتى المدفونين بها. دهشة تثير الفضول إن الزائر لمدينة صعدة (عاصمة المحافظة) يصاب بالدهشة والذهول من حجم وسعة مقبرة صعدة وعدد القبور التي تضمها والتي تقدر بعشرات الآلاف من القبور ويتعجب كيف تشكلت هذه المقبرة ومن أين جاء هذا الكم الهائل من الموتى مقارنة بعدد سكان هذه المدينة!! فمعلوم أن هناك مدن كبيرة في السكان ورحبة في الاتساع لكن مقابرها محدودة وفي حيز متواضع في المساحة لكن أي زائر لا يخفى دهشته وإعجابه بالمنظر البديع والرائع لهذه المقبرة التاريخية والتي تراصت فيها القبور كأنها صفوف جند وعليها انتصبت الألواح الحجرية الكبيرة (شواهد الموتى) على القبور بشكل ميول لتشكل زوايا حادة وهنا وهناك تتناثر المشاهد وهي عبارة عن بناء مرتفع من الياجور “الطين المحروق” يقوم على أربعة أركان في أعلاه قبة ويتم بناء المشاهد وفق رؤية هندسية إبداعية تعطي نوع من الرهبة والإجلال للموتى ويتم تشييدها على قبور الرجال العظام والعلماء والأعلام من القضاة والحكام ورجال الإصلاح بين الناس والفقهاء المجتهدين والبارزين في كل فنون العلوم والفكر في مختلف القرون. قيمة تاريخية أهمية مقبرة صعدة وتفردها لا يكمن في عمرها الموغل في الزمن أوسعتها وضخامتها والإعداد الهائلة لقبور الموتى فحسب فهناك القيمة التاريخية للألواح الحجرية التي تعرف بـ”الشواهد” حيث لا يوجد ضريح أو قبر إلا وعليه لوح من الألواح الحجرية الضخمة من أحجار البلق سمكه بين 6-8سم وطوله بين 80-120سم وعرض 30-60سم وبأحجام مختلفة كتب على واجهته الملساء بخطوط جميلة اسم المتوفى حتى نهاية نسبه وتاريخ مولده ووفاته وعمله وبعض صفاته الحسنة وألقابه وبعض أعماله الحسنة الفاضلة وبعض آيات القرآن الكريم خصوصاٍ سورة (الإخلاص) أو سورة (الفاتحة) أو آية الكرسي وأبيات شعرية في رثائه إن وجدت تكتب داخل تقاسيم يحوطها من الخارج زخارف نباتية وفنية مختلفة وهذه الألواح والشواهد مثلت قيمة تاريخية هامة من خلالها تعرفت كثير من الأسر اليمنية في صعدة وغيرها على تاريخ أنسابها وأسرها الأصلية القديمة ومن خلالها الكتابات القيمة التي تختزنها هذه المقبرة تعرف المتأخرون على أنسابهم وأجدادهم الأوائل. وتبرز الأهمية والقيمة التاريخية الأهم لمقبرة صعدة أنها تضم في طياتها الآلاف من العلماء الأجلاء والقضاة والحكام والفقهاء والمؤرخين والأدباء والزهاد العباد من مختلف أرجاء اليمن عبر قرون متفاوتة جاء والطلب العلم والتعليم والقضاء أو أمراء وحكام بعضهم من صنعاء وبرط والشرف وذمار وضمد والسودة ووادعة ونجران ناهيك أن جزءاٍ من ثقل الدولتين “آل شرف” و”آل القاسم” ارتكز على صعدة في ذروة النضال ضد الأتراك فانتقل جزء من خلاصة العلماء والقضاة ورجال الحكم والأمراء وأرباب الفكر والفقه والأدب إلى صعدة وكانت صعدة بين القرنين الخامس والحادي عشر الهجري منارة لعلوم الفكر والدين واللغة والأدب نبغ منها كثير من أصحاب القامات في كل فن وعلم ويكفي أن يكون الحسن بن أحمد الهمداني لسان اليمن ومؤرخها والقاضي نشوان بن سعيد الحميري مدون تاريخ التبابعة ودولة حمير في طليعة الذين استقروا فيها ومثال حي على ذلك وهذا ما جعل المحتوى القيم للألواح والشواهد الحجرية في مقبرة صعدة ركيزة في ترجمة كثير من علماء وأعلام اليمن في قرون متعددة حيث تضم المقبرة نخبة من هؤلاء الأعلام البارزين. دراسات وبحوث إن كثير من المعلومات التاريخية المهمة والمفيدة التي لا تقف عند حد المدونة في الألواح الحجرية والشواهد على أضرحة الموتى في مقبرة صعدة تشكل في حد ذاتها تاريخاٍ مستقلاٍ تختزل في طياتها أحاديث الزمن والقرون الخالية ومثلت زاداٍ مهماٍ وعوناٍ كبيراٍ لكثير من الباحثين والمؤرخين خلال فترات زمنية خلت وصححت كثيراٍ من الأخطاء التاريخية كتواريخ بعض الأحداث والوقائع المهمة وتراجم بعض العلماء الأعلام في اليمن والذي بدوره خلق أهمية لها وشجع على البحث والدراسة حول مضامينها التاريخية وخلال عقود زمنية مضت تهافت كثير من الباحثين على دراسة مقبرة صعدة ومضامين الألواح الحجرية فيها وفي 1992م أصدر أحد الباحثين المصريين كتاباٍ مستقلاٍ عن مقبرة صعدة باسم “الشواهد الحجرية في جبانة صعدة” ويدعى الباحث شحاتة وتفاصيلها ومضامينها وتصوير هذه الأضرحة المكتوبة على أضرحة الموتى وتفاصيلها ومضامينها وتصوير هذه الأضرحةº وبرغم أهمية الكتاب إلا أنه اقتصر على نقل المضامين وفكرة هذه الشواهد وتحديد البيانات والمعلومات بوضوح وتقديمها للقارئ بواقعها دون تناول هذه النصوص بالتحليل والتقييم والدراسة وحظيت المقبرة باهتمام عدد من العلماء الأجلاء الذين عمدوا إلى البحث فيها والدراسة عنها.