على ضفاف السد مرة أخرى
الساعة 03:30 مساءً

عند الكتابة عن سد مأرب، يختلط الماضي بالحاضر ويسرح بك الخيال بعيدًا إلى البدايات التي يختلط فيها الواقع بالأسطورة في واحدة من أقدم الحضارات على وجه البسيطة.

إلا أن هناك حقائق لا يمكن تجاوزها، وهو أن سد مأرب ولد كفكرة قبل آلاف السنين. فكرة أوجدتها الحاجة ودعم وجودها فائض مالي ورفاه اقتصادي تطور من عرم بسيط يحفظ قدرًا معقولًا من المياه لحاجة القوافل التجارية القادمة من الشرق، وتحديدًا من ساحل شبوة متجهة صوب الشمال.

 وظلت فكرة العرم البسيط تتطور حتى وصلت نهاية المطاف إلى واحد من أحدث أنظمة الري في حضارات شرق المتوسط. ومع كل ما يقوله المختصون في الآثار والتاريخ القديم عمومًا، إلا أن هناك شبه إجماع أن تلك الحضارة لا تزال مدفونة تحت الرمال ولم يُماط اللثام عن الكثير من أسرارها.

إلا أن أهم ما يربط الماضي بالحاضر هو الفكرة والندرة.

فكرة بناء السد في تلك العصور البعيدة في سجل التاريخ كانت فكرة عملاقة وغير مسبوقة، وكان للطبيعة الصحراوية الجافة دور رئيسي في إلهام الناس في تلك الأزمنة السحيقة لفكرة بناء سد مأرب.

 ومثلما كانت الفكرة صالحة عبر العصور، كانت ندرة وجود مصدر مستدام للماء ما زالت قائمة في الماضي والحاضر والمستقبل. في أحيان كثيرة تفرض الجغرافيا منطقها وهي تتأبط التاريخ بكل تفاصيله، وأعتقد أن هذا المنطق التاريخي الجغرافي ينطبق على سد مأرب.

ومثلما قلنا، تستمد الفكرة من الندرة، الندرة التي كانت مصدر إلهام. تجسدت الفكرة من جديد في خيال الناس وانبعثت الفكرة من جديد بتشييد سد مأرب بعد 1500 سنة من الاندثار، وتحديدًا في منتصف الثمانينات من القرن الماضي. 

حينها كانت تمر البلاد بفترة جفاف شديدة استمرت لعقود. ونتيجة الجفاف، لم يُكتب للسد أن يصل إلى كامل طاقته الاستيعابية إلا مرتين: أول مرة في العام 1996، ومرة أخرى في العام 2020 حيث فاض السد لأول مرة من المنسح التاريخي في منطقة حديرجان. وهنا نلاحظ تشابك الماضي بالحاضر حيث ظلت فكرة المنسح قائمة عند الشركات التي نفذت بناء السد كما كانت عند القدماء، وهذا يوضح نقطة هامة أن القدماء استخدموا تقنيات وحسابات دقيقة.

نعود إلى "الندرة". إن قدرة السد الاستيعابية هي 400 مليون متر مكعب، ويشكل هذا الحجم من المياه بحيرة مياه عذبة محدودة الحجم في وسط صحراء قاحلة. 

وتظهر الأرقام محدودية هذه الكمية، إذ تساوي استهلاك مصر من مياه النيل حوالي يومين أو ثلاثة على الأكثر، وفي أفضل الأحوال تمثل 1% من استهلاك مصر المائي من النيل والذي يبلغ 55 مليار متر مكعب في العام.


إذاً، قيمة سد مأرب ليست في الكم بالتأكيد وإنما في الندرة. إن الندرة في الغالب تقتضي أقصى درجات الاستخدام الأفضل.

من المؤكد أن هناك دراسات لدى جهات عديدة وخاصة جهة الاختصاص مثل الهيئة العامة لتطوير المناطق الشرقية سابقًا أو مكتب الزراعة الحالي أو جهات مركزية، ولا أعرف ما إذا كانت سلطة مأرب تحتفظ بها أو اطلعت عليها، أو عدم وجود مثل هذه الدراسات التي تتعلق بالاستخدام المثالي. في سنوات الصراع الأخيرة 2015-2022، كانت منطقة سد مأرب وآثارها التاريخية ضمن منطقة التماس وخطوط النار. ومع ذلك، لم يحدث مكروه للسد الحالي كما ظلت الآثار القديمة سليمة.

وفي ظل تغييرات مناخية مبشرة بالخير بدأت ملامحها تتضح على الخارطة اليمنية، يقتضي الحال إعادة النظر في بحيرة سد مأرب شريطة أن تعتمد إعادة النظر هذه على دراسات أحوال المناخ المستقبلية والاستعانة بخبرات علمية دقيقة. مضاف إلى ذلك دراسات خاصة بكيفية الوصول إلى الاستخدام الأمثل للمياه المحدودة والنادرة.

وإذا كانت التنبؤات تشير إلى تغيرات مناخية من المحتمل أن تكون لها تأثير مباشر على كميات السقوط المطري، حيث تذهب بعض التقديرات إلى أن اليمن سوف يكون في وضع شبيه أو مقارب للبلدان الواقعة ضمن خط الاستواء.

يقابل هذه التنبؤات تغير ديموغرافي بالنسبة لحجم سكان مأرب على الأرض، حيث تشير تقديرات رسمية إلى أن عدد السكان تضاعف في المحافظة نتيجة للصراع ما بين أربع إلى خمس مرات، والذي يقدر حسب التقديرات الرسمية بثلاثة ملايين نسمة. وهذا يعني أن التغيرات المناخية المحتملة لا تعني أن الندرة المائية سوف تزول، وأن الوصول إلى حالة الأمن المائي محليًا ستظل قائمة لكتلة سكانية قد تبلغ على الأقل أربعة ملايين نسمة بحلول 2030. وبحيرة سد مأرب هي المصدر الوحيد لتأمين الحاجة المائية لهذه الكتلة البشرية، مضافًا إلى ذلك التوسع في المجال الزراعي الذي شهد نموًا واضحًا خلال العقد الماضي.

وهذا يعني أن الحاجة ستظل قائمة لضرورة دراسات رصينة للوضع المائي، وعلى رأس هذه الدراسة بحيرة سد مأرب. وبما أن حدة الصراع ومستقبله يكتنفه الغموض، قد لا يسمح أن تكون مثل هذه الدراسات في أولويات السلطة. لكن بالمقابل، هناك العديد من المنظمات والبرامج التي تعمل في المحافظة وبعضها يدعي أن لديه أنشطة تتعلق بالمناخ والبيئة.

إن ما يمكن للسلطة المحلية فعله هو تقديم هذا الملف كأولوية لدى المانحين بشكل عام.