الشهيد الزبيري.. جذوة التثوير وأبعاد الاغتيال (1-2)
الساعة 02:15 صباحاً

منذ أن وعيت على هذه الأرض، وبدأت دراستي للصفوف الأولى في المدرسة، كان الشغف في القراءة التاريخية اليمنية، وحتى الإسلامي، هو المسيطر على اطلاعي وحبي للأحداث، ودافعاً لي للإلمام به حد ما تتيحه لي الظروف الأخرى، على حساب المجالات الأخرى.

قرأت بدقة كثيراً من المراجع التاريخية اليمنية، وخاصة المراجع التي تتحدث عن الإمامة تاريخاً وأحداثاً وفكراً، مما تكون عندي نظرة فاحصة للتوجس من أية جماعة إمامية تنشأ في البلاد، زاد ذلك عند بداية ظهور المليشيا الحوثية (الإمامة الجديدة)، خاصة مع ما كنا نعيه من ثورة الزبيري الشعرية وقصائده الجزيلة التي كنا نحفظها عن ظهر قلب في المدارس.

ومع كل مرحلة من المراحل في القراءة، والأحداث، تتغير القراءة والاستنباط واستكناه الأحداث، وقراءة ما بين السطور، لها بحسب العوامل الزمانية والمكانية ونوعية الأحداث.

اليوم، ومع قراءتنا المتعمقة للثورة اليمنية المختلفة، التي دفعتنا إليها مجدداً الإمامة الجديدة، عدنا من جديد لقراءة تلك الأحداث بعيون مختلفة؛ سياسية وسياقية، فكرية وأدبية، وواقعية كذلك، فشدني قاسم مشترك بين أحداث الماضي والحاضر؛ الماضي في العصور الإسلامية والوسطى، والحديثة والمعاصرة؛ هذا القاسم المشترك هو ما جمعه الزبيري من فكر وشعر وسياسة وخطابة وجماهيرية، وهو يشخص الداء الإمامي والمشكلة اليمنية الأزلية، وكيف يمكن مواجهتها وحلولها؛ فإلى جانب كون الزبيري أديباً ثائراً إلا أنه تبين من خلال كتبه وشعره أنه كان مفكراً في ذات الوقت.

أدركت من خلال المقارنة أن الزبيري– رحمه الله- كان شبيه الفقه والفكر بالملك المظفر الرسولي في معالجته موضوع الإمامة تحديداً، مع فارق أن الأول أديب وجماهيري وسياسي من عامة الناس، والثاني ملك متوج يملك كل الوسائل، وسياسي بارع من الطراز الرفيع، وعسكري من الأبطال المغاوير، غير أن الزبيري لامس بعض أفعال المظفر في قضية الإمامة، كما سيأتي.

بعد طول أمد الفترة الثورية الانتقالية لثورة السادس والعشرين من سبتمبر، وما ترتب على مسار الثورة من انحراف في الوسائل والغايات، وبطء تحقيق أهداف الثورة، توجه الزبيري إلى إنشاء مسار جديد لهذه الثورة؛ في عدم مصادمة القبائل اليمنية وكسبها للثورة والجمهورية، وتجريد الإمامة من هذا العمق والوقود الشعبي لثورتهم المضادة.

فاستطالة الحرب بين الجمهوريين والإماميين، واستنزاف الشعب اليمني في كافة جوانبه البشرية والاقتصادية والاجتماعية، سيفضي في نهاية المطاف إلى عدم نجاح الثورة وتحقيق أهدافها من الانتقال من الظلام إلى النور، فاهتدى إلى جمع كلمة اليمنيين وتوحيد صفوفهم، وإنهاء الحرب على قاعدة الثورة والجمهورية، والخروج بحل جذري، وهو العارف مكامن الخبث الإمامي ودائها العضال. 

كانت للزبيري نظرة خاصة وفاحصة للثورة والشعب عموماً؛ فقد كان يريد أن يعتمد الشعب على نفسه بنفسه ليقوم هو بذات أمره بعيداً من فرض الأمر العسكري المصري بعد السنة الأولى من نجاح الثورة، وحتى لا تنحرف مساراتها، مما اضطر القيادة المصرية استبعاد الزبيري من أول مجلس للقيادة لولا إصرار الإرياني عليه.

دعا الزبيري إلى مؤتمر عمران، وحضره منتخبون من كل منطقة، وقرر المؤتمرون سبعة وعشرين قرارًا، بتاريخ 8 سبتمبر 1963، أهمها: جمهورية عادلة، تكوين جيش شعبي يدافع عن النظام، منع التعسف على المثقفين بدعوى الحزبية، إقامة مجلس شورى غالبيته من زعماء القبائل، نقل الحكم إلى المدنيين ذوي الكفاءة (هذه النقطة ستزعج القيادة العسكرية، وهو الحكم المتفق عليه مع علي عبدالمغني من تنظيم الضباط الأحرار من أول يوم على أن تكون السلطة بيد العسكر)، تشكيل الحكومة من باعتبار الكفاءة لا باعتبار الطائفية، تحديد العلاقات مع الجمهورية العربية المتحدة (وهذه أيضاً ما لا تحبذه لا السلطة ولا الجانب المصري)، والعمل على إيقاف الحرب الأهلية بكل الوسائل.

 فكان أول مؤتمر شعبي عام يدعو إلى تصحيح المسار والتمسك بالجمهورية والدفاع عنها وتجنيد جيش لحمايتها.

وهذا أمر لم يكن مقبولاً لدى جميع الأطراف الانتهازية التي أعجبها الوضع القائم حينذاك؛ وخاصة الإمامية التي أحست أن الزبيري يسحب البساط من تحت أقدامها بنفس أساليبها وآلياتها، وشعرت أنه يجردها من سلاحها الأقوى بين القبائل وهو السلاح الذي ظلت تضرب به الشعب اليمني من أكثر من ألف عام وهو الجهل وتفرقة الصف (فرق تسد) والوعي الجمهوري بمخاطر الإمامة وأيديولوجيتها وأفكارها الضالة، ولذلك ذهبت تهاجمه وتركت مهاجمة السلال والعمري وبقية القيادة وكذا القوات المصرية.

لقد أدرك الزبيري بفطنته المعهودة أن أقوى سلاح الإمامة هو القبائل بجهلها وسهولة تجنيدها، في مقابل الفيد التي عرفت بها عبر التاريخ في اليمن بدعمها للإمامة، وخاصة قبائل حاشد وبكيل في صعدة والجوف وعمران وحجة والمحويت التي كانت عمود نصرة الإمامة، ليس بسبب المعتقد والطائفة؛ فغالبيتهم سنة، بل بسبب حبهم للفيد والغنائم، مضافاً إليه الجهل، وهو ما نجده عبر تاريخ الإمامة منذ مجيء الرسي إلى اليوم. ولنأخذ مثالاً على ذلك من صفحات التاريخ قديماً وحديثاً.

ففي سنة 545هـ طلبت تلك القبائل من الإمام أحمد بن سليمان استباحة صنعاء أو عدن لنصرته على السلطان حاتم بن أحمد اليامي، وقالوا: "يا مولانا، قد أخذنا بسببك لقمة كبيرة، وإنا نحب أن تسوغها لنا وتهب لنا صنعاء أو عدن في هذه المرة، ونخرج حيث شئت، إما بيحان أو حضرموت أو نجران أو صعدة. فقال: أما صعدة والجوف فهي لي، وأما غيرها فأخشى أن تحصل لكم لقمة أخرى فتأخذوننا، وغضب عليهم وعاد إلى عمران الجوف".

أما في عهد الإمامين يحيى وابنه أحمد حميد الدين فقد جيشا تلك القبائل على الزرانيق في تهامة، وجيش أحمد حميد الدين قبائل حجة وعمران وصعدة إلى صنعاء لغزوها للثأر لأبيه من ثوار 1948 واستباحتها، في مقابل الغزو معه، حتى أن تلك القبائل نهبت كل شيء في صنعاء، وأحرقت بعض منازلها وقتلت واغتصبت وخرَّبت.

والشيء نفسه عمله أحمد لتأليب بعض القبائل على محافظة إب، حيث أباح الإمام أحمد حميد الدين المناطق التي أسماها "المفسدات" وهي (العدين وحبيش) لقبائل من "آنس" و"الحدا"، واستحثها ببيت من الشعر:
"ألا يا هل الحدا يا أهل آنس           
       عشاكم في البلاد المفسدات"
حدثَ على إثر ذلك أسوأ عملية نهب وإتلاف وتدمير في محافظة إب منذ 200 عام.

كان الزبيري يدرك كل ذلك، وقام بسحب قبائل الجوف وقبائل صعدة التي كانت توالي الإمامة وتقاتل معها إلى صف الجمهورية، وهو ما لم تفعله ثلاث سنوات من الحرب ولا الجيوش الجمهورية والمصرية كاملة، والتي تم نصحها أن تسلم أمر التعامل مع القبائل إلى الخبراء بها من اليمنيين القياديين في الصف الجمهوري، وهنا كان مكمن الخطر الحقيقي الذي استشعرته الإمامة، واستشعرته القيادتان الجمهورية والمصرية في أن أساليبهما لم تفلح أمام أساليب الزبيري الحكيمة وبعيدة النظر، على الرغم من تعصب الزبيري للقيادة المصرية والجمهورية العربية المتحدة والجيش المصري.

فالتشخيص القيادي بعين البصيرة السليمة للثوار تنتج عنها قرارات سليمة ومثمرة، وكان سحب الزبيري لهذه القبائل لصف الثورة من أهم القرارات والثمار التي حدثت في تاريخ اليمن الإمامي، لا يشبهها إلا قرارات وتصرفات الملك الرسولي المظفر، حينما سحب هذه القبائل لصف الدولة، وعملت معه إلى حين ضعفت الدولة فضعفت الاستجابة ولم تعد مثمرة. فقال مما قال:
إزحفي كالطوفان يا ثورة الشعب     
 إلينا ودمدمي كالرعودِ
طهري جونا من الموت والصمت    
  وهزي لنا بقايا لحودِ

استنهض الزبيري الشعب في كثير من المواطن والقصائد، ولم ييأس أبداً من الشعب رغم ظروفه الصعبة، والتبعية العمياء للإمامة، ولكن يحتاج إلى دغدغة مكامن قوته ومشاعره، فقد ظل الشعر العربي الفصيح في اليمن مع انعدام وسائل الإعلام، إلا من إذاعة صوت العرب المصرية التي كان يصل صوتها إلى اليمن، كانت القصائد لا تزال أهم وسائل التحشيد والحماسة، فقال يخاطب الشعب:
آمنت أن لنا حقاً وأن لنا    
 شعباً سينهض من كابوسه الطامي
وأن في ظلمات الغيل مأسدةً     
 غضبى على كل خوّان وظلامِ
وأن في الشعب أبطالاً وأن      
  قوماً يعد الفتى منهم بأقوامِ

وكذا قصيدته الميمية المشهورة في هذه الثورة، والتي تعد من أقوى القصائد الحماسية في الشعر العربي، ولها تأثيرها ووقعها إلى اليوم في نفوسنا جميعاً:
سجل مكانك في التاريــخ يا قـــلم
 فها هنا تبعث الأجيال والأمم
هـــــنا العــــروبة في أبطالها وثبت 
هنا الإباء، هنا العلياء، هنا الشيم
هــــنا الصوارم من الأغماد ثائرة 
هنا الضياغم في الغابات تصطدم
هـــــنا البراكين هَّبت من مضاجعها
 تطغى، وتكتسح الطاغي، وتلتهــم

لم تكن تشخيصات الزبيري فقط في انحياز القبائل للإمامة ونصرتها، بل حتى تشخيصه ادعائهم الانتساب لعلي، وأنهم الأحق بالولاية من غيرهم، كون الإمامة تستند، فيما تسند، إلى بعض الركائز الأساسية ومنها هاتان الركيزتان؛ الولاية والنسب الهاشمي، والاعتماد على القبائل، وهذا نجده في كثير من كتاباته وشعره؛ فنحن إذاً أمام طبيب ماهر التشخيص لمن يصمم العلاج، يقول في أبيات شعر يرد على ادعاء هذا الانتساب:
حاشا لله أن يكونوا لــــطــــه    
  بل وحاشاه أن ينتموا ليزيد
لو يصح انتسابهم لـعلـــــيٍّ     
 كـرم الله وجهه في الخلود
لاقشعرت دماؤهم من حياءٍ    
وأبت أن تجري لهم في وريد