كيف يلاعبك الموت في جباليا؟
الساعة 10:08 مساءً
  • باحثة فلسطينية من غزة

هل كان عليّ أن أبقى في المخيم؛ لأواجه الموت
 مرة أخرى في مستشفى الشهيد كمال عدوان؟

كنا حشودًا كبيرة من الأحياء الذين خرجوا من تحت الأنقاض، نسير في طريق النزوح الإجباري من مخيم جباليا، نلقي نظرة الوداع الجماعية, وسط سخرية الجنود منا: "جبّارين يا أهل جباليا" نحن كذلك، لكن جبروتنا لم يقدر أن يواجه أعتى قوى الأرض. 
كنا -في معظمنا- جِياعًا وعِطاشآً ومصابين نتعلق ببقايا كبريائنا الذي عبثت به خذلان أشقاء  وجيران وحكومات ودول.
اعتقل الجيش إخوتي مع مئات الشباب الذين مروا عند دوار الشيخ زايد، وتركوا النساء مع الأطفال دون السادسة عشرة. 

طريق الآلام 
كنت أجر جدتي مضطرة بالكرسي المتحرك في الشارع الذي تتكدس فيه الأحجار وركام البيوت، وتضع أمي حملها كله علي، فليس في استطاعتهما أن تمشيا أكثر.
لا تقتنع ستي بأننا في منطقة عسكرية مغلقة، وأن الجنود لا يتورعون عن تحذيري من التوقف رغم أنني كررتُ لهم بالعبرية أن معي مرضى، وأنني مضطرة للتمهل في المشي من أجل صحتهم. 
أعدها بأن أطلب لها الإسعاف عند أقرب نقطة فلسطينية لا يتواجد فيها الجنود، إنّ علينا أن نمشي حتى أعتاب "الشجاعية" وهناك يمكننا أن نتجه غربًا كما نريد، لا جنوبًا كما يطلب الجيش منا.
تبكي أمي وستي من وجع أقدامهما في المسير، أتذمر قليلًا وأواسيهم كثيرًا: نحن أبناء البلاد نعرفها مثلما نعرف أنفسنا، نحفظ طرقاتها، وممراتها، وأزقتها.هذا الشارع طريقي إلى العمل، وطريقي إلى الجامعة في الماجستير والدكتوراه،  لن يأخذ أكثر من ساعة، لكنهم يتفنون في تعذيبنا.
مررنا على الجثث التي ألقى بعض الناس عليها غطاءً، وتركوها تقابل ربّها، كنتُ أحسدهم فقد انتهت تجاربهم الأرضيّة على أرضهم التي يحبون، أما نحن فما زلنا متعثرين مثل المسيح على طريق جلجته، نجرّ صلبان العذاب في انتظار نعيم أبدي تواسينا به العجائز اللواتي لم يفقدن إيمانهن بعد .
تتشبث بي أخواتي كلما رأينَ دبابةً أو جنودًا في استعراضٍ باذخٍ للقوة أمامنا نحن العزل من كل شيء، من يقنع الساسة والجنود أننا أبرياء لم يكن لنا يدٌ في حربٍ؟ من يقنع هؤلاء الجنود أننا لسنا خصومهم في المعركة؟ 
ألتفت ورائي طول الطريق، لألمح الأطلال وأكوام الركام على مدى البصر، القناصون على أهبة الاستعداد لإطلاق النار في أي لحظة، يعتلون سطوح المنازل التي لم تقصف بعد، فالجيش ينتظر انتهاء مهمته فيها ليقصفها مثلما فعل مع كل البيوت التي دخلها، ومثما فعل مع منزلنا في حي الرمال غرب غزة العام الماضي.
كنّا شهوداً على التطور الحضري لمدينة غزة، وكنا في المخيم حتى آخر نفس وحتى آخر حجر. شهدنا العمار والخراب، في الطريق يعاتبني ضميري وتدور الأسئلة التي لا تنتهي. هل كان عليّ أن أبقى في المخيم؛ لأواجه الموت مرة أخرى في مشفى الشهيد كمال عدوان؟ هل بقي مكان لم تدسه أقدام الجيش؟ ماذا يخبئ لنا القدر بعد أن كتب لنا النجاة من تحت ركام المنزل في المخيم؟
لقد أعطانا القدر فرصاً  لاستكمال حياة الشقاء، فقد انتصرنا على الموت بالرصاص الحي الذي ظل يمطرنا أسبوعين كاملين في الفالوجة، ونجونا من قذائف الدبابة التي هربنا من أمامها في تل الزعتر، ثم نخرج أحياء في الأخير من حزام ناري ضرب محيط مشفى الشهيد كمال عدوان؛ لنعبر درباً في اتجاهٍ واحدٍ بلا عودة كما يتوعدنا الجنود.
تتكرر تهديداتهم: ليس لنا سوى التوجه إلى جنوب وادي غزة، وأن كل من يخالف الأوامر يعرض نفسه للخطر.
أحاول أن أتجاهلهم، لا يمكنهم ملاحقتنا بعد الكنيسة البيزنطية (آخر مكان يتواجد فيه الجيش شرق جباليا)، ثم إنه ليس لنا في الجنوب مكانٌ نذهب إليه، وأنا لا أريد أن أعيش أو أموت في خيمة.
تتكرر ضحكات الجنود الساخرة، فأسترجع في رأسي قهقهاتهم ذاتها، بعد زرعهم البرميل المتفجر على عتبة منزلنا في مخيم جباليا، مع علمهم الكامل بوجودنا فيه. أكرر سرًّا وجهرًا حزب البحر للإمام أبي الحسن الشاذلي، في محاولة لاستدعاء كرامات الأولياء، فقد أنقذنا صدق الدعاء والخشوع في الصلوات ليلة السابع عشر من نوفمبر / تشرين الثاني، فخرجنا سبعة أفراد من عمارة بأربعة طوابق انهارت فوق رؤوسنا مثلما انهار برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك أمام أعين العالم، وسط صراخ مصابين وشهداء في حارتنا جراء تدمير المربع السكني الكامل.
من يكترث لعشرات آلاف الضحايا وآلاف الناجين؟
تعفر الدبابات وجوهنا وأجسادنا، ثم يجمعنا الجنود نساءً وأطفالًاـ في حفرةٍ رمليةٍ على شارع صلاح الدين، ينتفض جسدي كلما اقترب جندي مني؛ لينهر طفلًا صغيرًا يبكي عطشاً. التاريخ يكرر نفسه مرة أخرى، حكت لي جدتي مرارًا قصة حشد الجيش لهم في بركة أبو راشد وسط مخيم جباليا إبّان نكسة يونيو/حزيران 1967 ونقل الرجال عبر شاحنات إلى مصر، واعتقال عدد من الرجال وإعدام آخرين أمامهم.
يتجمع الأطفال حولي، أقسم لهم خبزًا صنعته أمي قبلها بيوم وأسقي سيدةً من قنينتي، وأتذكر رواية جدتي حين لم تجد من يسقي ابنتها الرضيعة ماءً في النكسة قبل 57 عاماً.
يطول انتظارنا، ماذا يريد الجيش أن يفعل بنا الآن؟
قلبي دليلي أتحسسه فأراه هادئاً، منتظماً، لا يعكر دقاته صلف الجنود. أتذكر رؤياي التي قطعت غفوتي ساعة الفجر، حلمت أنني في حي الرمال أهرب من الدبابة الواقفة على ناصية الشارع، فأستشعر ستر العرش المسبول علينا، وأيقن أنّ فوهة الدبابة المترصدة لنا لن تضرنا، وأن عين الله تسبق عين الجنود وأن من غالب الله سيُغلب.
يأتي فجأة ضابط إلى الحفرة، ويأمر النساء بالاستعداد للتفتيش. يضحك الجنود مرة أخرى: "راحت أملاككم يا أهل جباليا.. يلا شيلوا شنطكم هي اللي ظللكم من دوركم اللي تهدمت". يضحكون ونبكي. لكن من ينتبه لدموع الهاربين من الموت والمساقين نحو حتف آخر؟ 
يحين دورنا للتفتيش، أستشعر -مرة أخرى- الصعقة الكهربائية التي أصابتنا الساعة الرابعة فجرًا وقت قصف المنزل، كان الحدث يشبه فيلم الكارتون " قبر اليراعات –“ Grave of the fireflies  الذي جسد القصف الذري على مدينتي هيروشيما وناجازاكي في اليابان نهاية الحرب العالمية الثانية.
كهرباء تصعق قلوبنا وتفجر بيوتنا
ليس لي علم بهندسة المتفجرات، لكن روايتنا ورواية بعض الناجين تجمع على أننا شعرنا بماس كهربائي ناجم عن التفجير الآلي بطريقتهم المبتكرة، إذ يضعون براميل متفجرة في الأحياء السكنية، ويربطونها بأسلاك كهربائية تولد صعقات كهربائية ثم تنفجر البراميل، وعلى إثرها تُنسفُ عشرات البيوت في نفس الوقت. صرخنا جميعًا في الحي بأننا نحترق إذ شاهدنا كتلة كبيرة من اللهب فوقنا.
يتعطل جهاز التفتيش فجأة أمامي، فيحاول الجنود إصلاحه دون جدوى. أستجمع قواي، وأتكلم بالعبرية: "معي مرضى لا يمكنهم الوقوف أكثر".
تتنزل رحمات السماء، وتحنُّ القلوب، وأمرّ - بستر الله وبركة رسول الله وآله الكرام - دون تفتيش حتى من المجندات اللواتي فتشن أجساد النساء قبلي وبعدي.
يلوح لنا ضوء في نهاية درب الآلام، ويرجع إرسال شبكات الهواتف المحمولة فتطمئنني صديقتي التي سبقتني في الطريق، بعدم وجود حواجز بعد التفتيش، أتفحص وجوه بعض الشباب الذين أطلق الجيش سراحهم سريعًا؛ علّي أجد وجه إخوتي. يستعير الشباب هواتفنا ليطمئنوا أهلهم بسلامتهم وتبكي ستي بما تبقى من دموع لها "يا ويلي عليكم يا وليداتي أخدوكم اليهود"، أقسم بأغلظ الأيمان أنهم بخير، وأن لا مصلحة للجيش في اعتقالهم، فنحن لسنا مسلحين، ولم نشارك في عمل مسلح.
تجيء رسالة بسلامة إخوتي، فترجع الروح إلى العجوز، وتدب الحياة في أقدامها؛ لتستكمل الطريق إلى المدينة الباردة التي تعصف بها الجيوش، ولا تغفر لها قوى الطبيعة. وبذلك ينفرط عقد الصمود الأسطوري لمخيم جباليا الذي رفض أبناؤه تشريدهم أكثر من أربعمئة يوم، وقاوموا بأظافرهم وأجسادهم، وأمعائهم الخاوية.
نودع المخيم على كرهٍ، لا عذلَ، ولا لومَ، ولا تأنيبَ، إذ ليس للفتى رأيٌ حين ينزل الخطب، وليس بيده أن يدفع القدر حين يعم البلاء.

•    بالتزامن مع مدونة: https://www.themfadhel.com/