الإرياني يرحب بالعقوبات الأمريكية ضد سفن نفطية وشركات مالكة لها لدعمها مليشيا الحوثي الإرهابية
الخزانة الامريكية تفرض عقوبات على 3 سفن ومالكيها لدعمها مليشيات الحوثي الإرهابية
العرادة يبحث مع القائم بأعمال السفارة الصينة العلاقات الثنائية وسبل تعزيزها
مكافحة المخدرات تضبط أربعة متعاطين بحوزتهم مادة الحشيش بالمهرة
الغنيمي يؤكد أهمية الاستعداد القتالي لخوض معركة الخلاص من مليشيات الحوثي
باذيب يشارك في مفاوضات المسودة النهائية لمؤتمر تمويل التنمية بالأمم المتحدة
انطلاق دورة تدريبية في سيئون لتعزيز السلامة المهنية للصحفيين
الأوقاف تناقش مع الخطوط الجوية اليمنية ترتيبات نقل حجاج موسم 1446هـ
السقطري يؤكد أهمية الشراكة الفاعلة مع (WFP) لمواجهة تحديات الأمن الغذائي
وزير الصحة يدشن الجولة الأولى للنشاط الايصالي التكاملي في ١٢ محافظة
- رئيس مجلس الإدارة- رئيس التحرير
عَرفتُ سوريا يوم امتد ظل "عمّي عبدالرقيب" يرحمه الله- على عتبة البيت ومضى، كانت السماء عالقة فوق الرؤوس بلون الرماد، والهواء ثقيل، يتعثر في المسافة بين الباب والشجرة اليابسة على الساحة الترابية. وقد تدلت حقيبة صغيرة من يد عمّي مثل قلب يبحث عن موطئ رحيل، و تذكرة الطائرة تهتز في يده اليمني، كانت بضع وريقات، متتاليات، رقيقات، مستطيلات، مطبوع على غلافهن شعار طيران اليمنية، لا يكدن يثبُتن في قبضة ريح المدينة الساخرة.
يومذاك، كان المطر غارق في الجدران، والبرد يستقر في المفاصل، فيما المدينة تدفن أيامها وسط الضباب.
- وصل عمّي الذي إختار الطب نهجًا وحياة، والأدب هواية ونجاة، إلى حلب الشهباء، غاب دون صوت. فتراكمت الكتب على طاولتي، كانت الأرقام في منهج الجبر الدراسي تهرب من عينيّ، وأصابعي ثقيلة فوق السطور، الجمع يخونني، والطرح ينسحب من تحت قدميّ، والظل سقط في منتصف السنة، فسقطت معه.
بكت أمي - رحمها الله - بجوار النافذة، حزينة على ابنها الذي يسقط في الإمتحان النصفي، فقد غادر راعيه التعليمي. لكنها قررت أن تجلس بجواري عصر كل يوم، تشرح درسًا، تضحك لبساطة قدراتها التعليمية مقارنة بكتبي المعقدة، وفي المساء الحقيقي كانت تمسك يدي، تزرع في أصابعي دفء الأمهات.
بعد عام دراسي بجامعة حلب، عاد عمّي، جرّ وراءه حقيبة يقطر منها نور الأزقة. فتحها، فانسكبت منها كل سوريا، حرير الأسواق، وعبيره العتيق، ثوب من بلاد الشام انتشلني من فقر أقمصتنا. ارتديته، وشعرت أن جسدي يكتب سيرة جديدة فوق جلد الحيّ، سيرة فتى يبدو أنيقًا للمرة الأولى في حياته.
تجمّع الصبية حول الرداء الجديد، كانت ملامسهم كلمات صامتة، وفي نظراتهم أسئلة متراكمة. وقتذاك كانت سوريا تتسلل إلى صدري، تمتد بين حروف اسمي، ونبتت بين صفحات طفولتي. كلما ذكر أحد اسمها، شعرت أن البيت يتسع حتى يلامس حيطان الشام.
مرت الأعوام ..
أبي حزم حقائبه، ظهر في مدرج بارز بمطار #صنعاء الذي بات اليوم مُحتلًا، وصل نبأ ذلك إلى جدّي فوق طاولة العشاء. صمت الجميع، سوى صوت الهاتف الأحمر فوق الخزانة. كل رنين كان يسقط حجرًا آخر من سقف الصمت المشحون بالأسئلة والمخاوف.
وأخيرًا، جاء صوت عمّي من حلب مُخترقًا المسافة، حمل خبرًا جافًا دون قشور: لقد مضى أبي إلى الشرق، بحثًا عن أسواق جديدة، محاولًا رسم دروب أخرى لا يعرفها أحد.
صور الشحنات بدأت تصل، وحكايات التجارة ضجّت بين الرسائل، زبائن بلا وجوه وأرقام تتسلق الحيطان. لكن صوت أبي كان يتغير في المكالمات، شيء ثقيل في نبرته، مخاوفه التي كان يرويها لنا، وثقل المدن السورية وهي تخشى صوت الريح، وعيون المُخبرين.
كان رجل الشرطة في طرقات دمشق وغيرها يمسك بكرامة العابرين، وعيونهم تهرب إلى الأرض، وألسنتهم تبتلع صدى الكلمات.
حتى البيوت كانت تغلق نوافذها قبل المساء، والشوارع الأنيقة تبتلع خطى العائدين، فيما ظلت الأسواق في بيعها كل شيء، حتى الهواء.
▫ عندما دخلت سوريا إلى بيتنا كانت مثل ماء يغزو شقوق الحائط، رائحتها تفوح من خبز الصباح الأسمر، ومن لون الشاي، ومآذن الفجر. أسماء المدن التصقت بأغطيتنا، وحاراتها التفت حول أعناقنا ونحن نيام. وذلك أبي في حكاياته، ومغامراته، ونوادره، يحدثنا عنها كثيرًا، وفي حقيبته عشرات الصور التي تروي لحظاته ومواقفه، وأصدقائه، كل شيء كان حولنا شاميًا، الرائحة كانت تهمس، والتفاصيل تحكي أدق التفاصيل.
اليوم، عندما أغمض عينيّ، تتفتح الأزقة فوق جفوني. أنصت لخرير الماء في بردى، وألمح وجوه الأطفال في الزواريب الضيقة، أشمّ دخان المقاهي المختبئ بين أصابع الحطّابين.
سوريا التي فينا
وحلب التي في داخلي ..
مدينة احترفت الاختباء خلف الكلمات، وعندما تعود كلما دعوناها كانت تطل علينا بنداء خفي، لا يسمعه غيرنا.
سوريا التي فينا، مدينة لم تزل، ووطنٌ يسير في دواخلنا كلها بأقدام الذكريات.
.. وإلى لقاء يتجدد.