الرئيسية - علوم وتكنولوجيا - هل كان الحمدي ناصرياً؟    2
هل كان الحمدي ناصرياً؟    2
الساعة 12:00 صباحاً البديل بقلم الأستاذ عبد الله سلام الحكيمي

في الحلقة السابقة من هذه التناولة, حرصنا على تكريسها بالكامل تقريباً لتكون بمثابة الخلفية العامة التي تلقي الضوء حول الظروف السياسية التي كانت سائدة في البلاد قبل حركة 13يونيو عام 1974م وأعطته المبرر الموضوعي والمشروعية الدستورية والواقعية لقيام الحركة التصحيحية, واستعرضنا معالم بارزة ولو بشكل خاطف, عن شخصية قائد الحركة الرشيد إبراهيم الحمدي, وكذا لمحة سريعة عن التنظيم الناصري آنذاك وكان ذلك كله مدخلاً ضرورياً لابد منه للحديث عن علاقة الناصريين بالرئيس الراحل الحمدي مسارها وطبيعتها وغاياتها.

وفي هذه الحلقة سنتناول المرحلة الأولى على طريق تلك العلاقة وذلك على النحو التالي:-

المرحلة الأولى:- الاقتراب والتعرف والاستكشاف.

كانت هذه المرحلة أول ممارسة أو تجربة في العمل السياسي المحدد والمباشر يخوضه الناصريون تقريباً في ظل ظروف السرية المطلقة للعمل الحزبي آنذاك, ويمكن إجمال أهم الأهداف التي تصورها الناصريون إجمالاً لهذه المرحلة بالآتي:

1)  تحقيق أقصى قدر ممكن من الاقتراب غير المباشر والحذر بالحركة التصحيحية ممثلة بقائدها إبراهيم الحمدي شخصياً للاعتبارات والأسباب السابق الإشارة إليها في الحلقة السابقة..

2)  السعي إلى تجميع أكبر قدر ممكن من المعلومات والحقائق والوقائع المتعلقة بالحركة وتركيبتها القيادية وشخصية قائدها, بهدف إجراء عملية دراسة وتقويم مستمرة لها من مختلف الجوانب بقدر كبير من الدقة ما أمكن.

3)  التعرف على طبيعة الحركة وأساليبها وأهدافها عن قرب من خلال التعرف على شخصية قائدها الحمدي من زاوية تاريخ حياته وتوجهاته وأفكاره, وعلى وجه الخصوص معرفة واستكشاف ما إذا كان الحمدي يستند ويعتمد على تنظيم سري وهل قام بحركته التصحيحية من خلال إطار منظم وسري وما هي رؤاه وتوجهاته وأسسه الفكرية والسياسية والاجتماعية..

4)  القيام بالدعم والمساندة السياسية والإعلامية غير المباشرة للحركة ممثلة بقائدها ورمزها الحمدي انطلاقاً مما لمسه الناصريون من توافق في كثير من الأهداف والغايات والتوجهات الوطنية كما بدت من خلال البيانات والخطاب الإعلامي والسياسي الرسمي بينهم وبين الحركة.

والواقع أننا لا نستطيع القول بأن هذا التحرك السياسي للناصريين تجاه الحركة في مرحلته الأولى, كان بناءً على رؤية مبلورة وتنفيذاً لقرار تنظيمي قيادي رسمي, وإنما يمكن القول أنه كان ناتجاً عن عملية توافق وتجانس عام في الرؤية لدى القيادات الناصرية من خلال سلسة من الحوارات والنقاشات والتحليلات المستمرة بينهم..

وقد بدأت هذه المرحلة من التعاطي أو التعامل السياسي إزاء حركة يونيو مباشرة بعد فترة قصيرة من قيامها يوم 13 يونيو عام 1974م, وتواصلت حتى قرب انتهاء المرحلة الثانية من مراحل العلاقة الثلاث.

ولقد سارت المرحلة الأولى هذه من التحرك السياسي الناصري تجاه الحركة في مسارات ثلاثة متوازية ومتكاملة ومتدرجة ومتناغمة إلى حد كبير, وهي كالتالي:-

المسار الأول:

إعلامي سياسي تمثل بدعم ومساندة الحركة إعلامياً وسياسياً عبر حملة متواصلة من المقالات الصحفية وتنظيم مؤتمرات شعبية قبلية وطلابية تعلن وتعبر عن تأييدها ومباركتها والتفافها حول الحركة التصحيحية وقائدها الشاب إبراهيم الحمدي, إضافة إلى تنظيم بعض المحاضرات السياسية داخل الوحدات العسكرية.

المسار الثاني:

إقامة علاقة شخصية وتعزيزها يوماً بعد يوم بين الأستاذ الشهيد/ عبدالسلام مقبل والأخ الرائد/ عبدالله عبدالعالم الذي كان آنذاك عضواً في مجلس القيادة وقائداً لقوات المظلات, والإنطلاق من تلك العلاقة إلى مناقشات وحوارات مختلفة تخدم الإطار العام للأهداف المرسومة للمرحلة الأولى من التحرك السياسي الناصري والتعاطي مع حركة يونيو, ومن الجدير بالذكر هنا أن قيادات التنظيم في الداخل لم تكن تعلم حينها أن الأخ/ عبدالله عبدالعالم كان عضواً من أعضاء التنظيم في مرحلة تأسيسه الأولى, ولم يكن على علم بهذا سوى الشهيد/ عيسى محمد سيف الذي كان لا يزال آنذاك طالباً في القاهرة, وهو الذي أطلع قيادة التنظيم في الداخل بهذا السر بعد فترة من الزمن وقبل بدء المرحلة الثانية من التحرك بقليل, كان الأخ/ عبدالله عبدالعالم قد جمد نشاطه التنظيمي وقطع صلته بالتنظيم منذ سنوات طويلة والمعتقد أن ذلك الانقطاع جاء بعد تعرف عبدالعالم بالحمدي وتعزز العلاقة بينهما.

المسار الثالث:

حزبي استكشافي تمثل بتوصل النقاشات والحوارات الشخصية بين كل من الشهيد/عبدالسلام مقبل والأخ/ الرائد/ عبدالله عبدالعالم إلى شبه اتفاق على ضرورة البدء في العمل لبناء تنظيم سياسي يمثل حركة 13 يونيو وتوجهاتها وتطلعاتها, من منطلق أن كل حركة تغيير سياسي لابد لها أن تستند وتعتمد إطاراً سياسياً منظماً يكون بمثابة حلقة الوصل بين الجماهير والحكم ويعمل على حماية الحركة والدفاع عنها وتطوير وتفعيل أدائها لمسئولياتها على ضوء برنامج عمل سياسي واضح ومتكامل في منطلقاته وأساليبه وغاياته الإستراتيجية, مع العلم أن هذا المسار كان يجري بين الحركة ممثلة بالأخ/ عبدالله عبدالعالم والأخ الشهيد/ عبدالسلام مقبل وعدد محدود جداً من الأخوة باعتبارهم قوميين في توجهاتهم الفكرية والسياسية وغير منضويين تنظيمياً في أي حزب سري, وقد ساعد على قبول هذه الصفة ما عرف عن الناصريين من أنهم ضد الحزبية والأحزاب! وبالفعل تم البدء في توفير آلة كاتبة وآلة نسخ, "استانسل" لغرض الشروع في صياغة مسودة البرنامج السياسي والنظام الداخلي, وأذكر أن هذه الآلات كانت محفوظة داخل المنزل الذي استأجرته كسكن عائلي لي, وحدث ذات يوم في منتصف الليل ونحن عاكفون على صياغة وإعداد مشروع البرنامج السياسي وطبعه ونسخه, أن دوت في سماء العاصمة صنعاء أصوات إطلاق نيران البنادق والرشاشات خفيفة وثقيلة لمدة ليست طويلة, وذهب بنا الظن أن انقلاباً عسكرياً قد حدث وظللنا في حيرة من أمرنا حول كيفية إخفاء أو التخلص من آلات الطباعة والسحب الموجودة بحوزتنا, خاصة أننا لم نكن نملك خبرة تذكر في هذا المجال, ولم تنته حيرتنا وتزول كربتنا إلا حين جاءنا الأخ العزيز/ حسين محمد عبدالعزيز الخامري لطمأنتنا وإبلاغنا أن الأمر عادي وطبيعي وقد انتهى تماماً, وأن ما حدث كان ردود أفعال متفرقة من قبل بعض القادة العسكريين الذين شملتهم بالتغيير القرارات العسكرية فيما عرف آنذاك بقرارات 27 إبريل لإنهاء سيطرة مراكز القوى على الجيش.

ونخلص مما سبق أن المرحلة الأولى هذه بمساراتها الثلاثة كانت تهدف إلى التقرب الحذر لمزيد من التعرف والاستكشاف, فالناصريون كانت لهم أهداف عامة توخوها من وراء مسارات هذه المرحلة وقد أجملناها على نحو مختصر قبل قليل, أما فيما يتعلق بكيفية رد فعل قيادة حركة يونيو تجاه تحرك الناصريين وكيف تعاطت معهم وأهدافها إلى آخره, فإننا نستطيع القول, استناداً إلى المعلومات التي تمكنا من معرفتها فيما بعد, على محدوديتها, وخاصة خلال المرحلة الثالثة من مراحل العلاقة التي نشأت بين الحمدي والناصريين وسنتناول في الحلقة الرابعة من هذه التناولة, أن قيادة الحركة تعاملت إزاء هذا التحرك الناصري في إطار النقاط الرئيسية التالية:-

1)  أن قيادة الحركة بقدر ما فوجئت بالتحرك المؤيد والمساند والداعم لحركة يونيو بنشاط واقتدار من قبل عناصر وطنية غير معروفة لديها ولا توجد بينها وبين الحركة أي علاقة مباشرة لا قبل الحركة ولا بعدها بفترة غير قصيرة, فإنها كانت تشعر بسعادة وامتنان لذلك التحرك, ولم تكن قيادة الحركة قد تمكنت من تحديد أية هوية حزبية أو توجه سياسي معروف سوى أنهم مجموعة من الشباب الوطنيين المتأثرين بالأفكار القومية العربية وبشخصية الزعيم الراحل جمال عبدالناصر, وكانت القناعة لديها أن هؤلاء الشباب لا يوجد لهم أي تنظيم حزبي.

2)  إن قيادة الحركة كانت بالمقابل تقوم ـ عبر أجهزة الدولة ـ بإخضاع العناصر الناصرية, وخاصة أولئك الذين تصدروا بشكل أو بآخر لمسارات التحرك الثلاثة المشار إليها للرصد والتقصي والتقويم في محاولة لمعرفة حقيقة دوافعهم وأهدافهم من وراء تحركهم النشط الداعم والمساند والمؤيد للحركة.

3)  وبحسب رواية الأخ عبدالله عبدالعالم, في المراحل المتأخرة من العلاقة, فإن الرئيس الشهيد إبراهيم الحمدي كان يطرح هذه الظاهرة لزملائه أعضاء مجلس القيادة وغيرهم من القيادات العسكرية, ويذكرهم بمناقشتهم أثناء الإعداد للحركة وكيف كانوا قلقين من عدم وجود الكوادر المدنية السياسية والإعلامية التي يمكن الاعتماد عليها في التعريف بالحركة وكسب التأييد الشبعي لها وأنه كان يقول لهم إن الله سيقيض لهم من يقومون بهذه المهمة طالما أن نواياهم وأهدافهم خالصة وصادقة من أجل خير الوطن والشعب وتقدمه وازدهاره, وهو ما ترونه اليوم أمام أعينكم من وجود عناصر وطنية مؤهلة وقادرة تقوم بالدور والمهمة التي كانت تقلقنا أحسن قيام والأغرب أننا لم يسبق أن تعرفنا إليهم ولا عرفناهم حتى الآن ولم يطلبوا اللقاء معنا ولا سعوا للمطالبة بمصالح وامتيازات لقاء عملهم ونشاطهم, وأن الدنيا لا تزال بخير.

ولعله من المفيد أن نختتم هذه الحلقة التي كرسناها الحديث عن المرحلة الأولى من مراحل العلاقة بمساراتها الثلاثة المشار إليها بالقول أن هذه المرحلة كانت بمثابة الأرضية والأساس الأول الذي هيأ ومهد عندئذ لتنامي وتطور العلاقة التي ربطت الناصريين بحركة 13 يونيو التصحيحية وقيادتها ممثلة برمزها المتميز الرئيس إبراهيم الحمدي ولابد من الإشارة إلى مجموعة من الأخوة الأعزاء الذين نهضوا بأعباء ومهام وجهود المرحلة الأولى بمساراتها الثلاثة, فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر, وهم:

الأستاذ الكبير الفاضل المرحوم/ مطهر حسان الذي كان رحمه الله واسع الثقافة وعلى درجة رفيعة من النقاء وكريم الأخلاق.

الأستاذ القائد الشهيد/ عبدالسلام مقبل.

الأستاذ الفاضل القدير/ عمر الوصابي.

الأستاذ العزيز/ حسين الخامري.

وأخيراً العبد الفقير إلى عفو ربه كاتب هذه السطور.

وهناك أخوة آخرون وأكبوا مهام ومسئوليات هذه المرحلة قبل انتهائها بقليل.. وبطبيعة الحال فإن جميع هؤلاء الأخوة المذكورين كانوا دائمي الحوار والنقاش والتشاور مع قيادة التنظيم بهدف التقويم وتفعيل الأداء السياسي باستمرار.. وتجدر الإشارة إلى أن هذه المرحلة الأولى تعتبر الأطول من حيث الزمن الذي استغرقته لإنجاز مهامها قياساً بالمرحلتين التاليتين الثانية والثالثة.

والواقع أن المرحلة الأولى استطاعت أن تنجز مهامها وتحقق أهدافها بقدر رائع من النجاح والمقدرة وتمكنت أن تشق طريقاً سليماً ومأموناً وتهيئ أفضل الأجواء والظروف لبدء تحرك المرحلة الثانية مرحلة الحوار والإقناع والاقتناع, التي لم تستغرق سوى فترة زمنية قصيرة نسبياً.

وحول تفاصيل هذه المرحلة سيدور حديثنا في الحلقة القادمة بإذن الله تعالى.

حلقات قديمه من موقع الأستاذ الحكيمي