الرئيسية - كــتب - الناصر في محكيات المعبد..رواية مختلفة
الناصر في محكيات المعبد..رواية مختلفة
الساعة 03:00 صباحاً الثورة نت../

مسحوق “الجعارين”..تلك الوصفة التي توجز لنا ما يريد قوله الروائي محمد الناصر في روايته.. ذلك المسحوق الذي يحتاجه المواطن العربي .. ومحكيات المعبد.. رواية تسطر لنا الواقع باستدعاء الماضي بتعدد أطيافه ومزجه بواقع لا يطاق من تسلط وحكم عسكر وتسلط نظم شمولية وديكتاتورية. مسحوق “الجعارين” يعوضنا عن كل هزائمنا.. ابتداء بأصغرها تلك التي يجد فيها الرجال على السرير مجرد نعجة.. وحتى هزائمنا الكبيرة وأكبرها هزيمة67.بما فيها من مؤامرات وتداخلات عربية وإقليمية ودولية. تحتدم الأحداث وتتداخل بين شخوص الرواية.. شخصيات تتناسخ بشكل مدهش.. يذكرنا بوديان الجن في الصحاري القاحلة.. أقف عاجزا عن متابعتها.. ثم أعود لأقرأ ما سبق قراءته حتى أربط تلك الشخصيات بسيل الأحداث. لأكتشف ما لم كنت قد أدركته في قراءتي السابقة عوالم جديدة..مزج سحري بين ما هو ماضي وما هو حاضر.. و تلك الأسماء لم تكن إلا مجرد صفات! ما يطرح علينا سؤال: هل جاءت صدفة أم أن الناصر يختط لنفسه طريق ¿ لقد أشعرتني تلك الصفات بحميمية أكثر مما لوكانت أسماء.. حميمية تجاه شخصيات الرواية بكل تنوعها.. لم أكن قد شعرتها سابقا وقد تعددت تلك الصفات وتنوعت منها:الموعودة..السفاك..النازح..الجلنف..العابد.. المنذورة.. المشطوفة..الحنبوط…الخ تلك المعاني والدلالات. ناهيك عن عشرات الأسماء الفرعونية. ليرحل الناصر بالقارئ عبر كتابه إلى عوالم سحرية من حياة الآلهة ووظائفهم وخداعهم.. وطبائعهم ونوازعهم وتلك المحكيات المتناسخة والعلاقات التي تصور للقراء وادي النيل ككيان كوني أبدي.. وتلك الروح المقدسة التي تنسال من الجنوب إلى الشمال لتنتعش الحياة ويتناسل الجمال على ضفافه.. وتتفاعل حكايات تعيش وتترعرع على جوانبه.. بروح أسطورية يستوعبها العقل ويمنطقها بغرائزية كامنة .. وكأنه جزء منها ممتدا عبر القرون بين الأمس الموغل بسحرة وبين اللحظة بوضوحها. لتجعلنا محكيات سر المعبد نرى البعيد بكل جلاء.. وقد أحيط مشهد اللحظة بغموض لا يشبهه أي غموض. رواية محكيات المعبد.. تظهر لنا مقدرة الناصر خلق خيال من السحر.. شخصيات نشعر بأرواحها تتفاعل عبر نسيج من الحكايات.. يدهش الناصر قارئه بتداخلات المحكيات وبشكل مستمر حتى آخر جملة.. تلك المنمنمات المتداخلة .. خيوط الحكي المتجانس بشكل يبعث على الدهشة. وكأن الخيال طبقات وألوان.. وليس نسقا واحدا كما كنا نعتقد. وها هو الكاتب يحلل لنا الخيال ويشرحه ..كما يحلل خبير الألوان كاشفا ألوان قوس قزح التي تتعدد بمئات الألوان وليس كما نرى. وهكذا الناصر يكشف لنا أن الخيال عشرات الطبقات. مصر محمد علي حين كادت أن تتحول إلى إمبراطورية وقد أمتد سيطرة مصر إلى قلب الجزيرة العربية .. جنوبا ليشمل وادي النيل حتى قارب منابعه.. بل أنها أضحت سيدة البحار فالبحر الأحمر بحرها وشرق الأبيض المتوسط حرمها.. وهاهو محمد علي يتطلع إلى ما هو أوسع حين أخذ ينظر إلى أوربا.. حينها أدركت القارة العجوز ذلك التطلع.. لتتحرك لوأد ذلك المشروع العظيم. من يقرأ التاريخ يرى مصر عبد الناصر وقد تطلعت نحو محيطها الحيوي كدولة لها موقعها العبقري كما قال جمال حمدان..جنوبا حتى منابع النيل.. وحتى بحر العرب مرورا بمضيق باب المندب.. وغربا حتى الجزائر وشرقا حتى بلاد الرافدين وشرق المتوسط. محكيات المعبد رأي في رواية لكاتب يدرك ما يخط..أستطاع أن يذهلنا بروايته بأسلوبه وقد امتلك ناصية السرد ليقدم لنا رواية ملهمة من خلال أسلوبه الذي سلط أضواء عدة على جزئيات صغيرة.. حتى الأصغر.. وبصفتي كاتب أراه وهو ينحت تلك الصفات على شخصيات الرواية تحسب للكاتب.. وتلك (المحكيات) التي خلته ينسجه بدقة الفنان.. مزاوجا بين كتابين- الريس,تحوت- وما تحمله تلك المزاوجة من دلالات.. وهذا يدل على براعة الكاتب وبأسلوبه الفني المتقدم. أيضا رمزية المعبد واستدعاء عصره لتقديم الواقع للقارئ في مشاهد ليست بعيدة عما يعشه القارئ..وهنا يشعر بأنه كائن أزلي. وإذا كان الثالوث دوما ما يشغل الكاتب كالرقيب الديني والمجتمعي والسياسي.. فإن ما يخص الديني وما له علاقة بالجانب الجنسي تجاوزه الكاتب من خلال تلك المشاهد الجنسية التي جاءت كجزء أساسي مكمل للبناء الموضوعي وليس مشاهد فائضة.. وتلك القدرة تحسب للكاتب وتلك الجرأة في توظيف تلك العلاقات والحاجات الإنسانية وتلك المشاهد التي لم تأتي اعتباطا.. بل جاءت ضمن بناء فنيات الرواية.. وضمن أنساق متعددة برع بها الناصر. من تلك الأنساق تلك العلائق بين الأشخاص والحيوانات ..وتلك الاحتياجات الغرائزية وما يترتب عليها من نسج علاقات بين بسطاء المجتمع وأولئك الذين يمتلكون التأثير على الجموع وتحريكها لأغراض غير بريئة. رمزية مفتاح سيدنا عمر.. أو مفتاح القدس.. تقودنا إلى عدة تأويلات لما ترمز إليه مدينة كالقدس.. وما يرمز إليه الخليفة الفاروق. رمزية المعبد والمأخوذة تسمية الرواية منه مع أقدميه مفردة( محكيات) حيث جاء العنوان ليبوح بتلك الحكايات المنثورة بل والمتواصلة بشكل يمثل جسد متماسك .. لتتضح رمزية المعبد بمحكياته . حيث أتبع الكاتب أسلوب العناقيد الحكائية.. فما أن يكمل القارئ حكاية حتى يجد نفسه بداخل حكاية جديدة وهكذا.. وما زاد الأمر متعة أن لكل شخصية من شخصيات الرواية حكاياتها حتى تجاوز الروائي تلك الحكايات الإنسانية إلى حكي حكايات الأشياء والأدوات .. فلم يكتفي بحكيات الشخصيات الموغلة في التاريخ..والحكايات المعاصرة.. بل أن القارئ يجد نفسه أمام عاصفة من الحكايات تتضافر لتشكل جديلة ضخمة هي حكاية وادي النيل بماضيه وحاضره.. من برلنتي عبد الحميد والمشير عامر.. إلى حكايات سكان العرابة.. ورمزية الريس. إلى تلك الشخصيات الأسطورية البعيدة. هي الرواية الثانية للناصر والإصدار السابع الذي ينوع من المسرح إلى القصة والرواية والإعلام. رواية محكيات المعبد تستحق القراءة.. وتستحق من النقاد أن يقفوا لها.. وقد أظهر الناصر مقدرته بتملك ناصية السرد بكل جدارة. محاولا وضع بصمة خاصة به.