الجمعة 29 مارس 2024 م
الرئيسية - كــتب - خطاطة ترحال عبدالله ساورة
خطاطة ترحال عبدالله ساورة
الساعة 03:00 صباحاً الثورة نت../

سرد مغربي أهداني العزيز عبدالله ساورة أحد إصداراته القصصية الموسومة بـ “خطاطة الترحال” 2009م الصادرة في قلعة السراغنة. وتضم بين طياتها ما يزيد عن سبعة عشر نصا إضافة إلى عناقيد سردية قصيرة جدا. قرأت تلك النصوص على فترات متفاوتة.. وخطيت ملاحظاتي على هوامش المتن.. ليأتي شهر رمضان الكريم وأنا في فسحة من أمري.. حيث تمكنت من قراءة عدد من اصدرات الأصدقاء والكتابة حولها.. ومنها “خطاطة الترحال” والتي أدهشتني بعض نصوصها .. وما الإبداع إلا دهشة. ويسمح لي القارئ الكريم أن أستعرض معه ملاحظات قارئ متذوق للسرد. وسأتجاوز عتبات الإضمامة عدى عتبة أوردها الكاتب كشهادة حول كتاباته وهي بعنوان “في الكتابة والحب” يقدم ساورة رؤاه حول الإبداع وعلاقة الكاتب بالنص.. ابتداء بالزاوية التي ينظر بها الأشياء من حوله مرورا باقتناص الفكرة.. وتحويلها إلى نص مقروء.. وتلك العلاقة الشائكة بين الواقع والخيال فيما يخط من إبداع . ليختتم ذلك النص” حقيقة حينما أكتب عن زهدي وسكوني فإنني اكتب في معاني الحب الرائعة…” وقد تعودنا أن يخط أحدهم مقدمة يعرف القارئ بصاحب النصوص كما يقدم النصوص في ثوب مشوق.. لكن كاتبنا قدم لنا شهادة ..وأجزم بأنه أبدع بهذا التجريب. وقبل الدخول في النص سأعرج بشكل سريع على العنوان.. حيث يأتي العنوان لدى ساورة كما لو أنه أراد تقديم نصا من مفردتين.. فقل ما تجد بين عناوينه من مفردة واحدة حيث تكونت كل عناوين نصوصه من مفردتين .. أي أن القارئ يقرأ تلك العناوين بإحساس الجملة المفيدة.. وهذا ما أعني اقتراب العنوان من النص .. فهو يحمل فكرة أو شبه فكرة.. فمثلا في النصوص التالية : ميناء الشوق.. الشابة عائدة.. صانع الأقفال. تأتي تلك العناوين محملة بمعاني وإيحاءات متعددة. الأمر الآخر أن الكاتب قدم لنا نصوصا توزعت أفكارها بين الهم القومي بنضج عال وهم الهجرة.. والهم الوطني.. كما أفسح حيز للمرأة ..وبدأها بتلك النصوص التي عالجت الهموم القومية..مثل: خطاطات الوطن.. مهازل عربية معاصرة… وغيرها من النصوص التي تبرز تلك العلاقة القوية بين الإنسان المغربي وقضايا الأمة وهمومها. كما أن نصوصا أخرى تبرز نضج الكاتب وطنيا حيث هجم الفساد والتسلط .. في صور نقدية ساخرة ولاذعة.. وأجزم أن ضمن تلك النصوص عدد منها لو لم يكتب عبدالله إلا هي لكفته.. وأستعرض عدد منها مثل “الخنازير” نصا يذكرنا بالكتاب الكبار حيث مزج الكاتب بين الواقع والخيال ليقدم لنا حكام امتهنوا الدناءة ..وقد قدمهم من خلال حيلة سردية حين جاء بالنص “سألني صديقي البوليفي ما الذي يجمع بين الملكية والخنازير¿ فكرت قليلا.. فاجأني كعادته بأسئلته القلقة.. المزعجة والمباغتة في نفس الوقت. استدركت القول بسؤال مماثل: وهل هناك ملوك خنازير¿” ليحكي له صديقه عن ملك كان يحكم الناس في النهار ليتحول إلى خنزير أليف ليلا. ثم يتجه السارد إلى وصف ذلك الملك الذي ينصب أجهزة التعذيب والإعدامات في حق أفراد الشعب بعد أن عجز الأطباء من علاجه. نص قوي بنقده وذا نكهة ساخرة .. أفق واسع وممتع من الخيال.. سلاسة وترابط في الوصف. نص ثان بعنوان” فيما بعد” لم يكن ذلك الطفل قد خط قدره ليكون ابن أسرة فقيرة يعمل ربها لدى أسرة ميسورة.. ليرمز الكاتب بالكلب وأسمه بوش.. وإلى تسمية الجرو الصغير الذي أهدته أمه له باسم طاغية عربي.. بعد أن أخذ والده منه كلبه لأن إبانة العائلة الميسورة أرادت أن يكون الكلب لها مقابل بقايا ألبسة مستهلكة. هي قصة فارقة بمدلولاتها وسخريتها ونقدها وتركيب أحداثها.. لم يكتف الكاتب بنقده للأوضاع داخل وطنه بل تجاوزه إلى نقد الطغاة العرب.. وإلى ما هو عالمي بتسمية كلبه باسم بوش. من خلال عدد من النصوص يدرك القارئ بأنه أمام مبدع كبير.. مثل النصوص التالية: الشابة عائدة.. سقوط أمريكا.. صانع الأقفال..مول الكنبر… وغيرها من نصوص الإضمامة التي أبرز الكاتب قضيا غاية في الأهمية وبأسلوبه الساخر الممتع. “الشابة عائدة ” نص يسلط الضوء على كائن يعيش لحظات حياته بمرح وقناعة.. وقد آمنت بما تقوم به.. ولم تكن ترى ما يراه الآخرون بأن حياتها معيبة وعلاقتها شائنة.. ليصل بنا الكاتب إلى نهاية نصه بموت عائدة ..وعندها ندرك بأنها تركت فراغا كبيرا وأن دورها في الحياة كان دوراٍ فاعلاٍ خاصة مع ذوي التجارب القصيرة.. وأن إيمانها بحياتها وما تقوم به كان شيئاٍ إيجابياٍ.. وهنا يتعاطف القارئ مع مثل تلك الكائنات الهشة. نص “سقوط أميركا” وتلك المفارقات التي كانت تصادف ذكرى ميلاده السنوي فتارة يصادف ذكرى إحراق المسجد الأقصى.. وأخرى صادف ذكرى قمع لحريات عامة .. لا يأتي ذكرى عيد ميلاده إلا وصادف مناسبة بائسة وطنيا أو عربيا أو عالميا.. وهكذا يظهر عيد الميلاد وكأنه احتفال بتلك المناسبات الحزينة.. ومن خلال مثل تلك النص يظهر لنا كم نحن أفراد ومجتمعات عربية نغرق في الأحزان والمناسبات البائسة .. وكأننا كائنات الحزن والهزائم الدائمة التي تتخلل حتى أجمل الذكريات والمناسبات. ومن خلال نصوص الإضمامة يدرك القارئ ثراء لغة الكاتب وأساليبه المتعددة.. لينتقل من نص إلى آخر وقد اختلف هنا الوصف.. وجاءت الصياغة في نص آخر مغايرة لما اتبعه الكاتب في نصوصه الأخرى. أمر آخر تلك الشخصيات من صانع الأقفال إلى مول الكنبر..والشابة عائدة وغيرها.. التي يشعر القارئ بحميمية تلك الكائنات وقربها من نفسه.. وقد أجاد الكاتب اختيار شخصياته من محيطة الاجتماعي ليمنح الهامش أكبر مساحة في نصوصه وتلك الكائنات البسيطة والمستلبة حق الوجود والاحتفاء بها.. كما هي في نصوص خصصها الكاتب للمهاجرين نحو الشمال.. هناك حيث العمل والحياة والحرية.. بعيدا عن أوطانهم بحثا عن الكرامة والحياة الحرة.. ومثال على تلك النصوص:خطاط التعب.,. ترحال المصير..خطاط الترحال. وغيرها من النصوص.. لينسج عبدالله ساورة في نصوص أخرى موازية للهجرة خارج الوطن.. إلى ذلك الاغتراب داخل الوطن..وتلك الشخصيات الهائمة في وجود لا يعنيها. أفق المرأة في نصوصه إضمامتنا عالجت أكثر قضية .. في النصوص التالية: الأشجار الباسقة.. والشابة عائدة .. الهيبي.. ترحال الحب. ركز الكاتب على الدعارة.. العلاقة الناضجة.. حياة المرأة في مجتمعات أوربية.. العلاقات الفاشلة وغير المتكافئة..هي حيوات متنوعة تختلف من امرأة إلى أخرى.. فهذه مغربية وتلك أوروبية .. لينتهي بنا إلى عوالم تتمازج فيها خيوط الواقع بالخيال .. وهنا ينتج ساوره إيقونات سردية غاية في الإدهاش مضمونا وشكلا. لا يمتلك القارئ إلى التعاطف مع كائنات تلك النصوص. وجانب آخر..هي القصة القصيرة جدا.. لحظة قراءة تلك النصوص يشعر القارئ بأن الكاتب يجالسه.. وقد تناغم صوته وهو يحكي بين الرفع والخفض.. هي قدرة أن يزاوج الكاتب بين ما يحكيه وبين ما يكتبه وأن ترتقي نصوصه إلى مستوى الإدهاش في الجوهر والنواحي الفنية. واختتم مقاربتي هذه بالحديث الموجز حول نص قصير بعنوان”الصفعة” سبعة أسطر قدم لنا ساورة بقدرة الفنان المبدع وصفا وتكثيفا..نصا به من الإيحاءات وعمق الفكرة ما يشد القارئ إلى التفكير حول ما أراد قوله الكاتب في هذا النص وأوردة كاملا “في فصل الربيع تنبت الحكمة والجمال.. هكذا يقال. هكذا دخلت أجري صحبة سلمى صديقتي التي تقاربني في العمر والإحساس صوب أبي الجالس في المقهى.. كان عمري آنذاك ثمان سنوات.. فاستأذنته أن العب معها فلم أشعر إلا بصفعة قوية أسالت دموعي.. ولم أعرف لها سبب.. مضت السنوات .كلما ولجت تلك المقهى التي تغير شكلها, تذكرت تلك الصفعة مع أنني نسيت غزارة دموعي ومواساة سلمى التي أصبحت بمرور الأيام نادلة بنفس المقهى.” ولن أعلق.. أترك الأمر لذائقة القارئ الكريم في هذا النص العميق والمدهش. وهي تحية لأديب عربي متجدد..الذي ننتظر جديده بفارغ الصبر.