الأجندات الطارئة وثوابت الأمن القومي العربي
الساعة 07:59 مساءً

بعد أن سيطرت الميليشيا الحوثية على العاصمة صنعاء وانقلبت على مخرجات الحوار الوطني وبدأت تخرج ما في جعبتها من كهانة وعنصرية تدريجيًا، دبّ اليأس في نفوس الكثيرين من أبناء اليمن، وبدا أن ليل الإمامة قد عاد ليخيم على البلاد طويلًا.


ولكن قيام "عاصفة الحزم" أحيا الأمل في نفوس اليمنيين والعرب على حد سواء، مجسداً وحدة المصير العربي في أبهى صورها، خاصة حين انطلقت بقيادة دول عربية فاعلة، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة.


ومع إدراكنا للظروف المحلية والإقليمية والدولية المعقدة التي لم تمكن الحكومة الشرعية والتحالف العربي من دحر الانقلاب حتى الآن، واعترافنا بوجود أخطاء كارثية داخل صفوف الشرعية ذاتها مثلت عائقًا أساسيًا أمام النصر، إلا أننا بقينا على ثقة تامة بأن الحوثي إلى زوال؛ لسبب بسيط وهو أنه لا يحمل مشروعًا يمنيًا وطنيًا، بل ينفذ مشروعًا إيرانيًا طائفيًا يحمل بذرة فنائه في داخله؛ لأنه يتصادم مع كل ما هو يمني وعربي يتصادم مع الهوية ومع التاريخ ومع الجغرافيا.


وخلال الفترة الماضية، ومع تصاعد المطالبات الدولية بتحسين عمل الحكومة والتهديد بمعاقبة من يعرقل الإصلاحات الاقتصادية، إذا بالمجلس الانتقالي يصعد من خلال قرارات متتابعة ومفاجئة، تم احتواؤها من قبل مجلس القيادة الرئاسي، إلى أن وصلنا للقرار الأخير وهو اجتياح قواته لحضرموت والمهرة. هذه القرارات التي جعلت الأمور تأخذ منحى دراماتيكيًا، حيث بدأ المشهد ينحرف عن مساره الأصيل الذي باركه اليمنيون.


إن هذا التحول الدراماتيكي في المشهد اليمني، وما شهدناه من أحداث متسارعة في السودان، يكشف عن صدام محتوم بين منطق الدولة العريقة ومنطق "الدولة الوظيفية" التي تحاول استعارة دور يفوق قدراتها الطبيعية. فالتاريخ- وهو الحكم العدل في صيرورة الأمم- لا يفتأ يذكرنا بأن الأوطان التي تُبنى على تراكم حضاري وجغرافيا راسخة، كالمملكة العربية السعودية، وجمهورية مصر العربية، واليمن نفسه الذي يمر بظروف قاهرة، وسوريا، وكثير من الدول العربية وغير العربية.


ففي السودان، حيث يئن الجسد العربي تحت وطأة طموحات الميليشيا، تقف مصر مدافعة عن أمنها الوجودي الذي يبدأ من وحدة الجيش السوداني وسلامة المؤسسات الوطنية، مدركة أن انهيار الدولة في الخرطوم ليس مجرد أزمة لاجئين، بل هو زلزال يضرب عمق الهوية المصرية.


وفي المقابل، تضطلع المملكة العربية السعودية بدورها التاريخي في اليمن، مواجهة مشروعا يسعى لسلخ اليمن من عروبته ومن جغرافيته لتشكل الرياض مع القاهرة ثنائية الشرعية والاستقرار التي لولاها لتحولت المنطقة إلى مشاع للفوضى. غير أن المشهد الإقليمي الذي كان يُفترض أن يكتمل بضلع ثالث يشد أزر هاتين الدولتين، شهد انحرافًا في الحسابات الإماراتية التي تمارس دورًا يثير الريبة، متحولة من شريك في "عاصفة الحزم" إلى كيان يتحرك بعقلية "الشركة الاستثمارية الأمنية الكبرى"، حيث يُختزل الأمن القومي في تأمين الموانئ، وتُستبدل الدبلوماسية بتمويل الوكلاء.


إن هذا الطموح يعيد إلى الأذهان تلك الأدوار الوظيفية التي لعبتها بعض القوى في التاريخ مثل دولة "بروسيا" التي أُنهكت في أدوار عسكرية لخدمة توازنات غيرها، أو جمهورية البندقية التي توهمت أن سطوتها المالية وموانئها ستحميها من زحف حقائق الجغرافيا حتى تلاشت، أو نموذج سويسرا قبل حيادها حين كانت مستودعا للمرتزقة. 


إن النهج الذي تتبعه الإمارات اليوم بتغذية النزعات الانفصالية في اليمن يعكس انفصالًا عن الواقع الجغرافي، فالقوى الطارئة مهما بلغت وفرتها المالية، لا يمكنها أن تشتري عمقًا تاريخيًا. كما أن الضغوط الاقتصادية لثني الدول العريقة عن مواقفها المبدئية هي رهان خاسر؛ لأن الشعوب لا تنكسر أمام التمويل المشروط.


إن استمرار هذا الدور الوظيفي ينذر بنهاية تراجيدية، فالتاريخ يخبرنا أن دولًا مثل المجر في عهد الإمبراطورية، حين أُقحمت في حروب وظيفية بالوكالة في القرن التاسع عشر انتهى بها المطاف بالتقزيم بمجرد انتهاء وظيفتها.


وفي اللحظة التي ستتوقف فيها هذه الأدوار عن خدمة محركيها الكبار، ستجد هذه القوى نفسها وحيدة أمام جيران أثخنهم الجرح، وتاريخ لا يغفر لمن جعل من تمزيق الأوطان استراتيجية استثمارية. إن العودة لمركزية القيادة في الرياض والقاهرة هي طوق النجاة الوحيد، فالبقاء للأوطان الراسخة أما الأدوار الوظيفية فمآلها الزوال بانتهاء الوظيفة.