البنك المركزي يبحث مع جمعية المحاسبين التعاون لتطوير النظام المالي والمصرفي إعلام الحديدة ينظم ورشة عمل بعنوان "صناعة المحتوى الإعلامي" محافظ لحج يفتتح مركز تجميع الحاصلات الزراعية في الحوطة ويطلع على نشاط البيوت المحمية في تبن لملس يفتتح عدداً من المشاريع التربوية والخدمية بمديرية صيرة ورشة عمل في عدن تشدد على ضرورة دعم جهود الأجهزة الرقابية الوزير السقطري يبحث مع البرنامج الانمائي مشروع إعادة تأهيل ميناء الاصطياد بعدن وزير الدفاع يبحث مع أمين التحالف الإسلامي العسكري لمحاربة الإرهاب تعزيز التعاون المشترك وزير العدل يضع حجر الأساس لمبنى محكمة المنصورة الابتدائية محافظ شبوة يفتتح مبنى الدفاع المدني ويدشن منظومة المطافي التابعة له بدعم اماراتي السفارة اليمنية في الأردن تشارك في بازار دبلوماسي خيري
تخشى الإمامة قديمًا وحاضرًا من التعليم، كون معتقدات السلالة قائمة على قاعدة كبيرة من الأكاذيب التاريخية والمعاصرة، والتعليم بطبيعة الحال يتكفل بتبديد هذه الأكاذيب والخرافات الكهنوتية. هذه حقيقة يعرفها اليمنيون جيِّدًا، وتلك الخشية والكراهية للتعليم، هي ما تدفع الإمامة بشكلها الجديد (الحوثية) إلى خوض مواجهة غير مُعلَنة ضد التعليم والمتعلمين، كما فعل أجدادهم الذين حصروا العلم في العائلات المنتمية لهم فقط وجهلوا بقية اليمنيين.
كان أجداد الحوثيين يحرصون على تضييق الخناق على اليمنيين ووضع العقبات أمام مَن يريد التعلم. وقد وصل الحال إلى أنَّ وزير وزارة المعارف وهو إسماعيل نجل الإمام يحيى، لا يجرؤ على إلحاق شخص في المدارس رغم قِلَّتها إلَّا باذن الإمام شخصيًّا(1).
يقول الدكتور المصري مصطفى الشكعة وهو مفكر وأستاذ جامعي وخبير مُطَّلِع على شئون التعليم وقتها، أنَّهُ في نهاية حكم الإمام يحيى لم يكُنْ يوجد في اليمن كُلّها حافظ واحد للقرآن الكريم، كما لم يكُنْ الطلاب يدرسون اللغة الإنجليزية أبدًا في المدارس الموجودة(2). أمَّا عدد المدارس حينها، فخمس مدارس يقال بأنَّها ابتدائية لكن التعليم فيها لا يصل لمستوى رياض الأطفال، وتتواجد هذه المدارس في صنعاء والحديدة وتعز وزبيد وذمار. وثلاث مدارس في مستوى الإعدادية تجوُّزًا تُدعى بالثانوية، لأنَّ مستوى التعليم الفعلي فيها لا يتعدَّى المدارس الابتدائية في مصر(3).
أمَّا في بقية المحافظات والقرى اليمنية، فلم تكُنْ هناك مدارس، وعادة ما كانت العائلة التي تحرص على تعليم أبنائها تعتمد على نفسها ولا تنتظر دعم حكومة الإمام وتدعم ما يُسَمَّى بـ«المِعلاَمة» أو الكتاتيب التي يتعلم فيها الأطفال القرآن والخط والإملاء وعلوم الدين. وبعد إنشاء دار المعلمين، أصبحت تدعم هذه الكتاتيب لتقديم علوم الدين فقط مجانًا(4). وقد اقتصر التعليم في عهد الإمامة على علوم الدين غالبًا، لأنَّ الأئمة كانوا وما يزالون حتى اليوم يحرصون على ثقافة دينية خاصة بهم، قائمة على تمجيد سلالتهم ليحكموا سيطرتهم على الحكم كما يفعل الحوثيون اليوم.
وقد أشار الدكتور عبد العزيز المقالح إلى أنَّ عدد الملتحقين بالتعليم في اليمن كُلّه أثناء قيام ثورة 26 سبتمبر 1962 ستة آلاف طالب فقط، في الوقت الذي وصل عددهم منتصف الثمانينيات وآخرها إلى ما يقرب من مليون طالب(5). وفي حقيقة الأمر كانت الإمامة في السابق والحاضر (الحوثيين) يجدون في جهل فئة كبيرة من اليمنيين بيئة خصبة لنشر أكاذيبهم ومن ثم استخدامهم والدفع بهم إلى الحروب، أي أنَّ الجهل من أحد أهم العوامل التي يستمدون من خلالها قُوَّتهم ولهذا يقومون بنشر الجهل بين عامة الناس بأساليب مختلفة، لكن أغلبها اليوم غير ظاهرة كما كانت في السابق.
وقبل الولوج إلى الممارسات الحوثية التي استهدفت المؤسسات التعليمية، تجب الإشارة إلى النقلة النوعية للتعليم عقب ثورة السادس والعشرين من سبتمبر/ أيلول 1962م، التي أنهت حكم الأئمة قبل أن يعودوا بحلَّتهم الجديدة في 2014م.
فمن أهم إنجازات ثورة 26 سبتمبر 1962، بناء آلاف المدارس خلال فترة وجيزة، وتجويد العملية التعليمية بهدف تحقيق الهدف الثالث من أهداف الثورة اليمنية وهو «رفع ﻣﺴﺘﻮﻯ ﺍﻟﺸﻌﺐ اﻗﺘﺼﺎﺩﻳًّﺎ ﻭاﺟﺘﻤﺎﻋﻴًّﺎ ﻭﺳﻴﺎﺳﻴًّﺎً ﻭﺛﻘﺎﻓﻴًّﺎً»، بعد أن كان عدد المدارس في اليمن الشمالي لا يتجاوز عدد الأصابع، ومستوى التعليم أشبه بالتعليم في العصور الوسطى. ولم يتوقف الأمر هُنا، بل أسهمت الجمهورية في كسر احتكار التعليم على طبقات عِرْقية واقتصادية، وحرمان عامة الشعب ضِمْن جهود اليمنيين لتحقيق الهدف الأوَّل من أهداف ثورة 26 سبتمبر «ﺍﻟﺘﺤﺮُّﺭ ﻣﻦ ﺍﻻﺳﺘﺒﺪﺍﺩ ﻭﺍﻻﺳﺘﻌﻤﺎﺭ ﻭﻣﺨﻠﻔﺎتهما، ﻭﺇﻗﺎﻣﺔ ﺣُﻜﻢ ﺟﻤﻬﻮﺭﻱ ﻋﺎﺩﻝ، ﻭﺇﺯﺍﻟﺔ ﺍﻟﻔﻮﺍﺭﻕ ﻭﺍﻻﻣﺘﻴﺎﺯﺍﺕ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﻄﺒﻘﺎﺕ»، بعد أن كان تعليم أبناء عامة اليمنيين صعبًا ومُكلفًا، فإرسال الأبناء إلى أماكن التعليم القليلة يعني تحمُّل أولياء الأمور مصاريف معيشة وتعليم، زِدْ على ذلك خسارة الأسرة لأحد أفرادها الذين قد يساهمون في الزراعة والعمل(6).
مع بداية الحكم الجمهوري، بدأ عهد التعليم المجاني لكافة شرائح وفئات المجتمع(7) وهو ما أسهم في الصعود الاجتماعي الأبرز لأبناء القبائل والمزارعين وغيرهم من طبقات كانت محرومة من التعليم بحسب تعبير الكاتبة اليمنية ميساء شجاع الدين. «فمن خلال التعليم لم تَعُد مِهَن أفراد هذه الأسر محصورة بالزراعة، أو غيرها من نشاطات اقتصادية محدودة الدخل والأفق، بل لديها أطباء وموظفون ومهندسون وغيرهم مِمَّن أسهموا بشكل كبير في رفع وعيها وتطلعاتها»(8).
عندما سيطر الحوثيون على صنعاء، قاموا بتعيين شقيق زعيم الجماعة يحيى بدر الدين الحوثي وزيرًا للتربية والتعليم في حكومتهم غير المُعترَف بها، بالرغم من عدم دخوله المدرسة قَط، وعدم حصوله على أيَّة شهادة لأي مستوى تعليمي يُذكر، والمُؤهَّل الوحيد لديه هو حصوله على إجازة في العلوم الشرعية من والده بدر الدين الحوثي، في سابقة لم تحدث من قبل، وتشير إلى حرص هذه الجماعة على إحكام سيطرتها على المؤسسات التعليمية لتحقيق أهداف مختلفة، لكن يبقى أبرزها هو تحويل المدارس إلى مصائد للأطفال وتحويلهم إلى جنود، ونشر فكرها الطائفي الذي يُقدِّس سلالة الحوثيين، ويجتث تاريخ وهوية اليمنيين ضمن ما يسمى بالإبادة الثقافية، وحرمان ما يمكن من الطلاب من التعليم ليسهل في نهاية المطاف استغلالهم وتوجيههم.
تتعدَّد الوسائل التي يستخدمها الحوثيون لتحقيق الأهداف الثلاثة المذكورة آنفًا، لكني في هذا المقام سأتحدث فقط عن وسيلة نهب مُخصَّصات المؤسسات التعليمية والعاملين فيها، فضلًا عن رفع رسوم التعليم في المدارس الخاصة والحكومية.
كان كثير من المعلمين يعتقدون بأنَّ تعيين يحيى بدر الدين الحوثي وزيرًا للتعليم في حكومة الحوثيين سيسهم في توفير احتياجات العاملين في وزارة التربية والتعليم، فالوزير شقيق مُؤسِّس الحوثية وزعيمها في ذات الوقت، وكُلُّ ما سيطلبه من أجل وزارته والعاملين فيها سيكون مُجابًا ومُتوفِّرًا لمكانة الرجل وسُلطته. لكن ما حدث كان مختلفا، فقد تم تجويع المعلمين وحرمان المؤسسات التعليمية من موازناتها واعتماداتها تمامًا كبقية المؤسسات الخاضعة لسيطرة الحوثيين.
حرم الحوثيون حوالي 160000 مُعلّمًا وموظفا في المدارس من مرتباتهم منذ العام 2016م(9)، رغم تحصيلهم لإيرادات الدولة وقدرتهم على صرف المرتبات كما أشرنا في الأبواب السابقة.
هذا الإجراء المُتعمَّد والتجويع المقصود، قوبل بنداءات متكررة للمطالبة بتسليم مرتبات الموظفين، كان أبرزها بيان مشترك صادر عن منظمة الأمم المتحدة للطفولة «يونيسيف» ومنظمة التربية والثقافة والعلوم الأممية «يونيسكو»، قالوا فيه: «إنَّ المعلمين والموظفين في المدرسة يلعبون دورًا بغاية الأهمية في تقديم خدمات التعليم والتعلم بشكل مستمر لكُلِّ طفل في اليمن. ومن المُرجَّح أن يؤدِّي المزيد من التأخير في دفع رواتب المعلمين إلى الانهيار التام لقطاع التعليم والتأثير على ملايين الأطفال اليمنيين، وخاصة الفئات الأكثر تهميشًا، كما الفتيات. إنَّ تَرْك هؤلاء الأطفال خارج المدرسة يُعرِّضهم لخطر كبير بسبب لجوئهم إلى خيارات مواجهة مُسيئة، مثل عمالة الأطفال والتجنيد في الجماعات والقوات المسلحة وزواج القاصرات والاتجار وغير ذلك من أشكال الاستغلال والإساءة»(10). أمَّا المجلس النرويجي للاجئين فقد أكد بأنَّ عدم صرف مرتبات العاملين في التعليم يؤثر على ما يقارب 10,000 مدرسة ونحو 4 ملايين طالبًا(11).
أصيبت العملية التعليمية بما يشبه الشلل، ونفَّذ المعلمون إضرابات ووقفات احتجاجية مُتكرِّرة، إلَّا أنَّها باءت بالفشل ووُجِهَت بقسوة مفرطة، واتُّهِمَ المعلمون بالعمالة والارتزاق للخارج(12)، وانصرف آلاف منهم للبحث عن أعمال أخرى، ليجد الطلاب أنفسهم بلا معلمين ما يجعلهم صيدا سهلا لتحشيدهم إلى جبهات القتال. أمَّا الحوثيون، فإضافة إلى حصولهم على مقاتلين جُدُد، فقد استغلوا عدم وجود المعلمين الذين عجزوا عن الحضور إلى المدارس نظرًا لعدم توفُّر مرتباتهم بل أجرة المواصلات في كثير من الأحيان، واستبدلوهم بعناصر حوثية تعمل على نشر فكرهم العنصري عَبْرَ المدارس. كان هذا في السنوات الأولى للانقلاب، أمَّا بعد أن أحكموا سيطرتهم على المؤسسات الحكومية بعد اغتيال الرئيس السابق علي عبد الله صالح نهاية 2017م، فقد أخضعوا العاملين في قطاع التعليم بشكل كامل.
صمد غالبية المعلمين لفترة طويلة في مدارسهم رغم ظروفهم المعيشية الصعبة، وحول هذا الأمر قال المسؤول الإعلامي لنقابة المعلمين يحيى اليناعي: «دعونا المعلمين في الفترات السابقة إلى الحرص على الذهاب إلى المدارس بالرغم من أنَّهُم لا يتقاضون مرتباتهم بهدف حماية ملايين الأطفال وحقهم في التعليم، وكي لا يأتي بدلًا عن المعلمين عناصر من مليشيا الحوثي، لتقوم بتعبئة هؤلاء الأطفال وفق ما تريده جماعة الحوثي. لكن للأسف الشديد طالت المُدَّة، والمعلمون لم يتقاضوا أيَّة مرتبات. الحكومة والمجتمع الدولي لم يدركوا آثار انقطاع المرتبات بشكل فجائي وكامل على أهم وأكبر شريحة عاملة ومُؤثِّرة في حاضر ومستقبل أجيال اليمن. لم يتم استيعاب مسألة أنَّ ضمان قدرة المعلمين على أداء وظائفهم وتوفير مرتباهم بصورة منتظمة، هو ما يساعد الطلبة على اختيار الالتحاق بالتعليم بدلًا عن الانضمام لمليشيات الحوثي المسلحة.. لم يتم استيعاب أنَّ من شأن تدهور الفرص التعليمية أن يُحفِّز الكثير من الطلبة في مناطق سيطرة الحوثيين للانخراط في صفوف مليشيات الحوثي»(13).
هذا الوضع البائس وبحسب منظمة أنقذوا الطفولة البريطانية دفع «أكثر من نصف المعلمين والعاملين في مجال التعليم في اليمن، أو حوالي 190 ألف شخص» للعمل في مهن أخرى تضمن لهُم توفير بعض احتياجاتهم وأسَرهم بما في ذلك العمل في الشوارع(14)، وقد انتشرت صور كثيرة لمعلمين يعملون في حمل الأحجار أو يبيعون على الأرصفة.
ولطالما تعذَّر الحوثيون بنقل الحكومة الشرعية للبنك المركزي، لكن هذه المُبرِّرات تنهار أمام أي نقاش موضوعي، فما تم نقله هي المعاملات البنكية وليست الأموال، فإيرادات الدولة تتحصَّلها جماعة الحوثي كما أشرنا آنفًا، وقد أكدت التقارير الأممية أنَّ الحكومة اليمنية غير قادرة على تحصيل الإيرادات بفعالية، في حين يجمع الحوثيون الضرائب، ويبتزون التجار، ويصادرون الممتلكات باسم المجهود الحربي، وبالتالي فهُم مُلزَمون بتسليم المرتبات كونهم يُمثِّلون سُلطة الأمر الواقع، ولأنَّهُم قادرون على فِعْل ذلك، لا سِيَّما وقد منعوا تداول العُملة النقدية الجديدة التي كانت تصرفها الحكومة اليمنية في مناطق سيطرتها كمرتبات للموظفين.
في 23 أكتوبر/ تشرين الأوَّل 2018م أعلنت الأمم المتحدة تقديم المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة منحة مالية بمبلغ 70 مليون دولار أمريكي للمعلمين والمعلمات اليمنيين الذين توقفت مرتباتهم في مناطق سيطرة الحوثيين لحل مشكلة إضراب المعلمين المتكرر ولضمان استمرار التعليم(15)، بحيث يقدم هذا الدعم كحوافز شهرية للمعلمين بالتنسيق مع الحكومة اليمنية وتعاون منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف) ليستفيد منها 130 ألف معلم يسهم في تقديم الخدمات التعليمية لـ 3.7 ملايين طفل يمني داخل اليمن(16).
وكغيرها من المنح والمساعدات، أسهمت محاولات الحوثي في الاستيلاء على هذه المنح والمساعدات في تأخير صرفها للمدرسين. فقد اشترط الحوثيون على اليونيسف صرف الحوافز حسب كشوف حديثة أضيفت إليها أسماء عناصر تابعة لهم، فضلًا عن توريد المنحة المالية بالعُملة الصعبة إلى حساب البنك المركزي في صنعاء، ومن ثم إلى حساب الوزارة التي يديرها يحيى الحوثي، ليتم توزيعها على المعلمين بالريـال اليمني، بعد استقطاع فارق سعر الصرف لصالحهم، وهذا ما كانت الحكومة اليمنية ومنظمة الأمم المتحدة ترفضه حرصًا على عدم نهب حقوق المعلمين(17).
ولأنَّ الحوثيين تعاملوا مع المدرسين كرهائن، فإمَّا أن يتم تسليم مرتبات لعناصرها المُعيَّنين في المؤسسات التعليمية بعد سيطرتهم عليها، وإلَّا سيتم حرمان جميع المعلمين من الحوافز، وجدت الحكومة نفسها مضطرة لتمكين اليونيسف من مُهِمَّة صرف الحوافز للمعلمين وفق الكشوف الجديدة التي فرضها الحوثيون. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فقد استقطع الحوثيون جزءًا من حوافز عشرات الآلاف من المعلمين.
في منتصف مايو/ أيار 2019م، اكتظت مواقع التواصل الاجتماعي والمواقع الإخبارية اليمنية بمنشورات وأخبار المعلمين الذين يحتجون ضد الاستقطاعات التي نفَّذتها منظمة اليونيسف بضغط من جماعة الحوثي. ووفق شهادات مُقدَّمة من معلمين نشرتها صحيفة «العربي الجديد» إلى جانب شكوى خَطِّية من مدرسين في إحدى المدارس مُوجَّهة إلى مكتب التربية بأمانة العاصمة، فإنَّ المعلمين تفاجأوا، يوم الأحد 12 مايو/أيار، باستقطاع مبالغ مالية من حوافزهم النقدية.
وجاء في إحدى الشهادات بأنَّهُ كان من المُقرَّر صرف حوافز شهرين متأخرين لكُلِّ معلم والمُقدَّرة بـ61800 ريـال يمني (124 دولارًا في تلك الفترة)، إلَّا أنَّ أغلب المعلمين استلموا مبلغ 10 آلاف ريـال يمني (20 دولارًا)، والبقية من 27 ألفا أو 34 ألف ريـال يمني (54 - 68 دولارًا) (18).
بسبب هذه الاستقطاعات وحرمان المعلمين من حقوقهم، توقفت الدول المانحة عن تقديم الدعم لهذا المجال، وبدأت مكاتب التربية والتعليم الخاضعة لسيطرة الحوثيين بفرض رسوم على أولياء الأمور مقابل تعليم أبنائهم. مع ذلك، استمر التعليم شكليًّا ومَن يذهب إلى المدارس الحكومية لا يتلقَّى التعليم المناسب، ويقضي ساعات النهار بين اللعب داخل الفصل أو باحة المدرسة، أو تلقِّي دروس الحوثيين الطائفية، ما دفع كثيرًا من الأسَر إلى إلحاق أبنائهم بالمدارس الخاصة التي تزايد أعدادها بشكل كبير بعد سيطرة الحوثيين على حساب التعليم الحكومي المجاني وفي سبيل التعليم، اضطرت كثير من الأسَر إلى بيع مقتنياتها الثمينة لتعليم أبنائها(19).
وبالعودة إلى فرض الرسوم على أولياء الأمور مقابل إلحاق أبنائهم في المدارس الحكومية، فقد تفاوتت قيمة هذه الرسوم من مدرسة إلى أخرى، لكن يبقى سكان الأرياف أكثر مَن تضرَّر مِن هذه السياسية، كونهم الأكثر فقرًا، ما دفع كثيرًا من أولياء الأمور إلى إخراج أبنائهم من المدارس نظرًا لعدم قدرتهم على توفير الرسوم المفروضة(20)، فضلًا عن قيام بعض المدارس بطرد الطلاب أو حرمانهم من دخول قاعات الامتحانات لعدم قدرتهم على توفير الرسوم الجديدة(21) ليعود الوضع كما كان قبل ثورة 26 سبتمبر 1962م.
لم يتوقَّف الأمر عند إلزام أولياء الأمور بدفع رسوم دراسية بذريعة دفع مرتبات المعلمين، لكن أغلب المدارس فرضت على الأسر تقديم مستلزمات عينية مثل القرطاسية أو توفير كراسي أو مقابل إصلاحات الأثاث المدرسي أو أدوات النظافة وغيرها من المتطلبات، نظرًا لامتناع وزارة التربية والتعليم الخاضعة للحوثيين عن توفير احتياجات المدارس، ولهذا تم تحميلها على الطلاب وأسَرهم.
وعندما كانت وزارة التربية والتعليم الخاضعة لسيطرة يحيى الحوثي تتلقَّى دعمًا من المنظمات الدولية ليُقدّم كحوافز أو مصروفات تشغيلية للمدارس، كانت الجماعة تنسب هذه المساعدات لنفسها، وتظهر بأنَّها قدَّمت هذه الأموال من موازنة الدولة، لكن في الحقيقة هي دعم خارجي مقدم من المنظمات والدول، أمَّا هُم فمستمرون منذ بداية الحرب في نهب المال العام والمساعدات الدولية، دون تقديم أي خدمة مستحقة للمواطنين.
في أغسطس/ آب 2021م، احتفت وسائل الإعلام الحوثية بتصريح يحيى بدر الدين الحوثي الذي أشار إلى توجُّه وزارته بصرف حافز شهري بمبلغ 30 ألف ريـال يمني للمعلمين والمعلمات والعاملين في المدارس ابتداءً من سبتمبر/ أيلول من نفس العام، دون الإشارة إلى أنَّ هذه الحوافز مُقدَّمة من منظمات دولية(22)، وما هي إلَّا أيام حتى أعلنت وزارة يحيى الحوثي عدم قدرتها على صرف هذه الحوافز بعدما اختلفت مع منظمة اليونيسف(23).
وبالتزامن مع ذلك، رفع الحوثيون الإتاوات والرسوم المفروضة على المدارس الخاصة في المناطق الخاضعة لسيطرتهم. وقد عمدت في كثير من المناطق إلى فرض مبالغ مالية على كُلِّ طالب، فضلًا عن الجبايات الأخرى التي تفرضها الجماعة بين الفينة والأخرى بذرائع مختلفة ولتغطية مناسبات حوثية عديدة، وهذه الجبايات تتحوَّل إلى رسوم إضافية تثقل أولياء الأمور بلا شك، ودفعت الكثير منهم إلى إخراج أبنائهم من المدارس الخاصة وإلحاقهم بالمدارس الحكومية التي باتت شِبْه مُعطَّلة، ولا تُقدِّم الخدمات التعليمية كما يجب(24).
ونعود للكاتبة ميساء شجاع الدين التي لخَّصت هذا الوضع في مقالها المُشار إليه آنفًا بالآتي: «مع صعود الحوثيين إلى السُلطة، بدأ التعليم اليمني يواجه تحدّيات كبيرة، من انقطاع مرتبات المعلمين وأدلجة التعليم، ولكن التحدّي الأبرز كان بداية خصخصة التعليم بشكل رسمي، فيما سمَّاها الحوثيون «المساهمة المجتمعية». وككُلِّ العبارات الحوثية المُضلِّلة، تبدو المساهمة المجتمعية كلمة مخاتلة، يُقصد بها العكس، فهي تعني الخصخصة، بينما يحاول الحوثيون تقديمها بصفتها إسهامًا مجتمعيًّا في تقديم مرتبات للمعلمين، وكأنَّ مسؤولية المجتمع القيام بمهام الدولة التي يسيطرون عليها.
رغبة الحوثيين في تجهيل المجتمع ليست قضية افتراضية، أو استنتاجية لخصومهم، لأنَّهُم يحشدون بشكل مُكثَّف الأطفال والمراهقين إلى الجبهات، وبالتالي تُعتبَر المدارس عائقًا في عملية التحشيد، بل أيضًا هي حقيقة تتجّلى في أدبياتهم التي تتمثّل في خُطب مُؤسِّسهم، حسين الحوثي، الذي يعتبر أي كتاب غير القرآن الكريم بلا قيمة، بما فيها الكتب عن الإسلام والشريعة، مثل أصول الفقه وغيرها. وهُنا، لا يبالغ أحد في وصفه جماعة الحوثي بأنَّها جماعة الجهل المُقدَّس، فهذا توصيفٌ ينطبق عليهم بوضوح، فهُم عندما كانوا يتحدّثون عن نموذجهم في حُكم صعدة لم يتحدّثوا يومًا عن التعليم أو الصحة، بل كان الأمن دائمًا إنجازهم الأبرز، حسب دعايتهم»(25).
مبادرات مجتمعية لإنقاذ ما يمكن:
وأمام هذا الواقع الصعب، تداعى المغتربون خارج اليمن والميسورون في الداخل إلى المساهمة في التقليل من معاناة السكان في مناطق سيطرة الحوثيين بعدما حُرم الناس من احتياجاتهم الأساسية. فظهرت مبادرات مجتمعية مختلفة لتوفير الغذاء للأسَر الفقيرة، ومبادرات عنيت بشق الطرقات لتسهيل التنقلات، وركزت بعض المبادرات على التعليم، فبنت المدارس ورممتتها ووفرت مرتبات المعلمين لا سِيَّما في المناطق الريفية لضمان استمرارية التعليم بعدما رفض الحوثيون صرف مرتباتهم.
وأطلق مواطنون ومغتربون يمنيون بدول الخليج والولايات المتحدة الأمريكية ودول أوربية مبادرات لدعم العملية التعليمية من خلال جمع التبرعات لكن هذه المبادرات لم تسلم من ممارسات وعبث الحوثيين وابتزاز القائمين عليها، أو إعاقة تنفيذها، أو نهب مخصصاتها.
ففي محافظة المحويت - على سبيل المثال لا الحصر- أوضح تقرير فرعي صادر عن اللجنة الوطنية للتحقيق في ادعاءات انتهاكات حقوق الإنسان، أن مكتب التربية والتعليم في المحافظة والخاضع لسيطرة الحوثيين، منع تنفيذ مشروع صب أسقف أربعة فصول دراسية كان أهالي قرى بيت الصليحي والسفاينة وبيت الكردي قد تبرعوا لبنائها في مدرسة 26 سبتمبر الأساسية والثانوية الموجودة في منطقة بيت الصليحي.
وقد لجأ الأهالي إلى تمويل وبناء هذه الفصول بشكل طوعي نظرًا لتكدس الطلاب في الفصول الصغيرة والقليلة في المدرسة. وعندما وصل العمل إلى مرحلة سقف الفصول منتصف العام 2020، عجز الأهالي عن تمول باقي عمليات البناء، فلجأوا إلى المنظمات الدولية طالبين المساعدة، واستجابت لهم اللجنة الدولية للصليب الأحمر الدولي، فقامت بدورها بواسطة جمعية الهلال الأحمر اليمني بعمل مناقصة لإنجاز سقف الفصول الدراسية في مدرسة 26 سبتمبر، وبناء دورة مياه لمدرسة الصالح للبنات الموجودة في منطقة السفاينة. وعقب إنجاز المناقصة وبدء التنفيذ، أوقفت وزارة التربية والتعليم في صنعاء الخاضعة لسيطرة يحيى الحوثي استكمال المشروع بذريعة أن أي مشاريع من هذا النوع يجب أن يتم تحديدها من صنعاء، ما تسبب في حرمان سكان تلك المناطق من هذه المشاريع وبقيت الفصول بلا أسقف أو دروات مياه(26).
مطلع العام الدراسي 2022 – 2023، أوقف الحوثيون ما يقارب 23 مبادرة طوعية تقودها مجموعات شبابية وجمعيات خيرية تهدف إلى تزويد الطلاب المعسرين بالمستلزمات الدراسية في كل من صنعاء القديمة، ومديريات معين، وبني الحارث، وشعوب التابعة لأمانة العاصمة، ومديريات صعفان ومناخة وجحانة وأرحب التابعة لمحافظة صنعاء، وقامت بنهب تلك المستلزمات(27).
وتهدف هذه الممارسات المتعمدة إلى حرمان أكبر عدد ممكن من أبناء الأسر التي لا تنتمي إليها من حقهم في التعليم بما يساعدها على نشر فكرها وتحويل الأطفال إلى مقاتلين، لاسيما والحوثيون يسخرون كافة إمكانياتهم وقدراتهم لتنفيذ مراكز صيفية مغلقة للأطفال لنشر معتقداتهم وتجنيدهم، وتوفير كافة متطلبات هذه المراكز من قرطاسية وتغذية ومطبوعات وملابس.
هوامش ومراجع:
1- عبد الله البردوني، قضايا يمنية، ص 301.
2- أشار الكاتب مصطفى الشكعة في كتابه إلى أن سيف الإِسْلام الحسن وفي تصريح للصحافة المصرية حين سألوه عن نسبة التعليم في اليمن، قال بكل جرأة وبغير خجل: إنَّها مئة في المئة. وإن هذه الكذبة كانت مثار السخرية والضحك في الصحف المصرية في تلك المرحلة.
3- مغامرات مصري في مجاهل اليمن، مصدر سابق، ص105.
4- رحلتي إلى اليمن، أحمد وصفي زكريا، دار الفكر للطباعة والتوزيع والنشر، الطبعة الأولى 1986، ص157.
5- الهادوية بين النظرية السياسية والعقيدة الإلهية، مصدر سابق، ص134.
6- ميساء شجاع الدين، عن مجانية التعليم وتشكيل الطبقة الوسطى في اليمن، مقالة في العربي الجديد، 9 أكتوبر/ تشرين الأوَّل 2020م.
7- نصت المادة رقم (8) من «القانون العام للتربية والتعليم» اليمني: التعليم مجاني في كُلّ مراحله تكفله الدولة وتحقق الدولة هذا المبدأ تدريجيًا وفق خطه يقرها مجلس الوزراء، موقع المركز الوطني للمعلومات.
8- ميساء شجاع الدين، نفسه.
9- بيان مشترك صادر عن منظمة الأمم المتحدة للطفولة «يونيسف» ومنظمة التربية والثقافة والعلوم الأممية «يونيسكو»، بمناسبة اليوم العالمي للمعلمين، موقع منظمة الأمم المتحدة للطفولة «يونيسف - اليمن»، 5 أكتوبر/ تشرين الأوَّل 2020م.
10- نفس المصدر السابق.
11- معلمو اليمن: سنوات البؤس والشقاء لم تنته بعد، يمن مونيتور، 6 أكتوبر/ تشرين الأوَّل 2019م.
12- في الثامن من أكتوبر/ تشرين الأوَّل 2017م، خرجت المئات من المعلمات في تظاهرة أمام مبنى أمانة العاصمة بصنعاء لمطالبة الحوثيين بمرتباتهن، ورفعن شعارات «نشتي راتب، نشتي راتب،»، إلَّا أنَّ وكيل أمانة العاصمة المعين من قبل الحوثيين علي السقاف، رد على المحتجات بمكبر الصوت: «التي تريد راتب تذهب إلى سلمان». في إشارة إلى العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز. (يوجد فيديو منشور في موقع يوتيوب).
13- يحيى اليناعي، المسؤول الإعلامي لنقابة المعلمين، مداخلة في قناة بلقيس برنامج زوايا الحدث بعنوان «تسريح للمعلمين وتحريف للمناهج.. المليشيا تعيد تشكيل هوية المجتمع»، 22 أغسطس/ آب 2021م.
14- 190 ألف معلم يمني دفعهم الحوثيون إلى مهن أخرى لإطعام ذويهم، الشرق الأوسط، 13 نوفمبر/ تشرين الثاني 2021م.
15- بيان صادر عن منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف)، موقع المنظمة، 23 أكتوبر/ تشرين الأوَّل 2018م.
16- مُمثّل منظمة اليونيسف لدول الخليج العربية الطيب آدم، وكالة الأنباء السعودية (واس)، 15 مايو/ أيار 2019م.
17- شروط الحوثي تعرقل صرف رواتب المعلمين في اليمن، العربي الجديد، 2 يناير/ كانون الثاني 2019م.
18- معلمون يمنيون يشكون استقطاع منظمة اليونيسف من حوافزهم النقدية، العربي الجديد، 14 مايو/ أيار 2019م.
19- بسبب عدم الاهتمام بالتعليم في المدارس الحكومية، تصدر طلاب المدارس الخاصة قائمة الأوائل في نتائج امتحانات التعليم الأساسي (تاسع) في صنعاء والمحافظات المجاورة لها في العام الدراسي 2020م – 2021م، وهو ما دفع أستاذ المناهج وطرائق التدريس المشارك في كلية التربية (جامعة صنعاء) سعاد السبع، إلى القول بأن تراجع المدارس الحكومية من قائمة الأوائل في نتائج اختبارات الشهادة الأساسية، يدل على أن «التعليم الذي كان مجانيًا لأبناء المواطنين عامة لم يعد موجودًا».
20- من نهب رواتب المدرسين إلى فرض الإتاوات على الطلاب، الإصلاح نت، 30 أكتوبر/ تشرين الأوَّل 2019م.
21- رسوم إجبارية للحوثيين تُهدِّد بحرمان آلاف الطلاب من الامتحانات، الموقع بوست، 13 ابريل/ نيسان 2018م.
22- وزارة التربية تعتمد حافزًا شهريًا للمعلمين بمبلغ 30 ألف ريال ابتداءً من سبتمبر المقبل، الثورة نت الخاضعة لسيطرة الحوثيين، 14 أغسطس/ آب 2021م.
23- يونيسف ترفض صرف حوافز للمعلمين بصنعاء وعدة محافظات للعام الجاري، المشهد اليمني، 25 أغسطس/ آب 2021م.
24- الحوثيون يفرضون جبايات خيالية على المدارس الخاصة و5 آلاف ريال على كُلِّ طالب فيها، نيوز يمن، 16 سبتمبر/ أيلول 2018م.
25- ميساء شجاع الدين، مصدر سابق.
26- تقرير عن عمل الرصد والتوثيق لانتهاكات حقوق الإنسان ونشاط اللجنة الوطنية للتحقيق في ادعاءات انتهاكات حقوق الإنسان ضمن النطاق الجغرافي لمحافظة المحويت خلال النصف الأول من العام 2022 (وثائق).
27- الانقلابيون يمنعون 23 مبادرة يمنية توفر لوازم مدرسية، الشرق الأوسط، 22 أغسطس 2022، العدد [15973].
• من كتاب الجريمة المُركّبة للكاتب والصحفي همدان العليي