سوار النبي.. صراع محتدم بين دفتي رواية
الساعة 05:49 مساءً

كل ميلاد كتاب يعد مناسبة حريّة بالاحتفاء.. فالكتاب عالم تعيش بين دفتيه مئات الأفكار، والمشاعر، والأحاسيس، والأشواق والأمنيات، رفقة عشرات الوقائع، والمشاهد، والشواهد، المسيلة للدموع، والباعثة على التدافع، والقلق، والتساؤل، والأرق، ومن امتزاج العالمين تتولد حياة من حبر ونبض، تشبه الواقع ولا تتطابق معه، وتسمو للخيال ولا تتماهى فيه.
وفي رواية "سوار النبي" للشاب عبدالله شروح، من هذا شيء كثير، بداية بالعنوان الذي يختزل فيه الكاتب، جدلية الصراع الدائر في اليمن، وملابسات الحرب الانقلابية وحيثياتها، وأبعادها، وتداعياتها.
يتمحور "السوار" حول الجائحة الحوثية، وما أفضت إليه من احتراب، أحرق متاحات الحياة ، ودمر إمكانات الوطن ومقدراته، وحقن النسيج الوطني بالأحقاد، والثارات، حتى ضاقت اليمن بما رحبت، وصار الالتحاق بجبهات القتال هو المنفذ السالك إلى لقمة العيش.
يعيش الكاتب في "السوار" لبعض العمر، مع الجيش الوطني، بعد النزوح الاضطراري من صنعاء، متلفعا ثياب الخوف، والجوع، والعرق.
وبقدر اعتزازه بالجيش الوطني وتضحياته، لا يتوانى الكاتب في نقد مفردات التقصير والقصور فيه، ويرى أن الحركة العقيمة، نوع من الحمل الكاذب، متخذا من دوران المروحة المتهالكة في إحدى مكاتب العمل العسكري مثالا على الحراك الواهم، الذي يأكل الطاقة، ويدوش الرأس، دون أن يطرد حرا، أو يلطف جوا. 
والكاتب مع قدرته السردية العالية، وتفننه في رسم الصورة عبر الكلمات، فهو رجل التفاصيل، حيث يركز على بعض المفردات ويجعل منها خميرة تدمغ اللحظة، قبحا أو جمالا، وفقا للحظة الالتقاط، والدفق الشعوري المصاحب لها، والفكرة المراد توصيلها على متن الحروف، فرائحة "الجوارب" اعتورت الصورة الذهنية للقصر الجمهوري، والإضاءة الصفراء الباهتة أضفت على المكان بؤسا مضاعفا.
ويسرد الكاتب طرفا من الملابسات التي قادته إلى مأرب ومن ثم العمل في إحدى المكاتب التابعة للجيش الوطني، وحظه العاثر الذي جعله مسئولا عن توثيق سجلات الشهداء والجرحى، والمفقودين، وكيف عاش أياما نازفة: شعورا، وحياة. وهو يتتبع في مخيلته مسار كل شهيد يتعاطى مع اسمه، من أول عطسة، وحتى أخر نفس، وكيف غدت الحياة في اليمن الكبير حيزا ضيقا محشورا بين نزوحين: نزوح داخلي، ونزوح نحو الدار الآخرة. ويتفاعل مع شخوصهم لحظة سقوطهم وطبيعة المشاعر التي خالجتهم، وحال ومآلات أسرهم، أطفالا، ونساء.
كما يشارك الجرحى آلامهم، ونزفهم، وأشواقهم، وتسوطه تساؤلات، عن طبيعة الجرح، وكيف تم التعاطي مع الجريح، وهل شفي، أم تراه أصيب بإعاقة دائمة، وهل سيظل هذا الجريح طول حياته محافظا على إيمانه بقضيته، أم سترافقه الندامة، في لحظة ما، ومن سيكون المسئول عن مثل هذه المحصلة الذابحة.
ومع كثرة الحالات، وزحمة المشاغل والاعتياد، خبت مشاعر "البطل السردي" المتوقدة، وتحسسه المفرط تجاه هذه المعاناة، وكما أن طبيعة الحرب القتل، فإن واحدة من مهامها الأساسية تكمن في حرمان الناس من ترف الخيارات المتعددة.
وفي سياق المسار العام "للسوار" ثمة قصص فرعية كثيرة، تدعم المسار وتعزز حضوره، فـ :لزين العابدين، حكاية تحيل إلى خطورة السلالة وحرفية أفرادها، في الاختراق وتسميم الأجواء بالشك، ولشادي أخرى، تضع القارئ وجها لوجه أمام النزعة الشيطانية للأسر الهاشمية، التي تمنح نفسها مرتبة فوقيه، تحرم الفتيات فيها من الزواج بالشخص الذي أحبته، وما يقود إليه هذا الجرم من كوارث.
ومع أن سردية السوار ابتدأت بالنزوح إلى مأرب بحثا عن الأمن والحياة بعد أن نفدت كل خيارات العيش بكرامة وأمان في العاصمة صنعاء، ومعها نفدت خيارات العودة إلى مسقط الرأس، إلا أن البطل وجد نفسه في النهاية يجالس قبر جدته في القرية، ويودع من بعدها جده، ليعيش اليتم من بعدهما في أشرس صوره، ولسان حاله: من لم يمت بالرصاص الحي مات كمدا. 
ومثل سمك السلمون العائد إلى مصب النهر، تتجدد مشاعر الحياة لدى البطل، وتتغلب على منجل الموت الذي يقتات من أقرب الناس إليه.
وبين دفتي السوار الكثير من اعتمالات النفس، ووقائع التدافع، وأشواق الوطن المنشود، في طريق محفوف بالجماجم، والأشلاء، والسجون، والكوليرا، والطفولة المختطفة.
 

كاتب وصحفي