وزارة الشباب تكرّم اللاعب حمدي اليرسي لإحرازه 3 ميداليات ذهبية في بطولة العربية للكونغ فو رئيس الوزراء يحيل قضايا فساد جديدة إلى النائب العام محافظ لحج يوجه المكاتب الحكومية بسرعة إنجاز وثائق مصفوفة المشاريع التنموية اليمن توقع على اتفاقية تنظيم نقل البضائع على الطرق البرية مع جامعة الدول العربية وزير الدفاع ومحافظ حضرموت يترأسان اجتماعًا للجنة الأمنية بالمحافظة وزير الدفاع يعقد اجتماعاً موسعاً بقيادة المنطقة الثانية ويفتتح مبنى المحكمة والنيابة العسكرية رئيس الوزراء يستقبل في عدن القائم بأعمال السفارة الصينية لدى اليمن وزير المالية يجدد التأكيد على مواصلة تأهيل الكوادر بمجالات الإصلاحات المالية وزير الخارجية يستعرض مع السفيرة الفرنسية مستجدات الأوضاع في اليمن والمنطقة رئيس الوزراء يستعرض مع مكتب الأمم المتحدة الـ(UNOPS) المشاريع الجاري تنفيذها
- صحفي وكاتب
فجر الثاني من نوفمبر 2015، كان إعصار "تشابالا"، الاعصار الأكبر قد وصل توا إلى مدينة عدن، قادما من المحيط الهادي فبحر العرب، بينما كنت وعائلتي، زوجتي ونصر وتسنيم، نضع أمتعتنا القليلة في صندوق سيارة هيلوكس وأخذنا مقاعدنا في غمارتها الخلفية مغادرين المدينة خائفين تعصف بقلوبنا هواجس عنيفة وموجات متلاطمة من القلق كتلك الأمواج الموحشة التي شاهدناها ترتطم بأرصفة ساحل أبين.
كنا نرتجف على امتداد الطريق الطويل ونحن نسترق النظر إلى المد البحري شاهق الارتفاع الذي لم نألف رؤيته خلال عقود عشناها في سفوح المرتفعات الغربية للبلاد الخضراء الوافرة نصف العام وقاحلة جدباء نصفه الآخر.
وصلنا الكود، أطراف محافظة أبين مبتعدين رويدا عن غضب البحر، لتبدأ جولة من القلق ونحن ندلف إلى جعار فزنجبار ومفرق شُقرة، مرورا بقرية المُعجلة التي وقعت الحادثة الشهيرة حين قصفت طائرات أمريكية، 17ديسمبر2009م، القرية بصواريخ كروز أودت بحياة 41 من سكان القرية، تحت عنوان مكافحة الإرهاب وتنظيم القاعدة. شاهدنا بعض آثار شاهدة على الجريمة.
في بلاد لم نزرها قبلا وطرقا طويلة نسلكها لأول مرة، كان السائق يشاطرنا بعض القلق بعد رفضنا اصطحاب ركاب غيرنا في هذا المشوار الخاص مدفوع كامل الثمن.
كل مرة نتجاوز نقاط الجماعات المسلحة المنفلتة نشعر بالنجاة، وفي انتظارنا حواجز جماعات الراية السوداء التي كانت تسيطر على مساحات شاسعة من الجغرافيا المنبطحة.
قال تجاوزنا مديريتي خنفر ولودر، نسير الآن في مديرية الوضيع، بلاد الرئيس هادي الذي كان قد غادر البلاد إلى العاصمة السعودية الرياض.
في سوق صغير على الطريق قدمت لقائد سفينتنا عرضا لايمكنه رفضه، أدخلت يدي في جيبي وناولته مالا يشتري به اسطوانتين من القات وبعض مشروبات الطاقة وعصائر الأولاد وعلب الماء الباردة.
استغليتُ غيابه القصير لتذخير مسدس اشتريته قبل هجرتي من العاصمة صنعاء قبل أربعة أشهر بعد وقوع المدينة تحت سطوة نازيين خرجوا من كهوف ضحيان يصرخون بالموت والفناء لكل يمني والانتقام من السكان الأصليين للبلاد ليجدوا أبواب صنعاء ومدن أخرى مشرعة أمام الوحشية المتدحرجة على جماجم الأبرياء وسيول الدماء والدموع والدمار. ضاقت شوارع صنعاء وحاراتها، وتبعتها عدن، لتبدأ رحلة قسرية وتغريبة عربية جديدة خارج العواصم.
المكروف، المُخبأ تحت معطفي، رافقنا منذ تركنا صنعاء في رحلة خطرة مرورا بذمار وإب وتعز وهيجة العبد وصولا إلى صبيحة لحج، ثم إلى حي كريتر بعدن، ادخرته لمثل هذه المغامرات مجهولة العواقب والمصائر، اعتبرته فرصتنا الوحيدة لحماية نسلنا من الاندثار، فالعائلة بكاملها مركونة في الغمارة.
تجاوزنا مودية، هذه المحفد، ورقات القات وعلب الطاقة جعلتني قادرا على عدم مقاومة الغفوة والغثيان في سفرية بعيدة.
بينما كانت السيارة رباعية الدفع تتسلل بين القمم البركانية القاسية وطرقها الضيقة التي أكلتها الطبيعة ومزقها الاهمال، وضعت هاتفي أمام السائق متصفحا مكتبة أغاني ماجنة نالت كليباتها إعجاب السائق -لا أتذكر اسمه- الذي استسلم تدريجياً لمنسوب التوتر وقد بتنا رفقة يحمي أحدنا الآخر.
بين ساعة وأخرى، نستقبل مكالمات للاطمئنان من صديقنا المشترك (أبوبكر) منسق الرحلة.
تجاوزنا حدود أبين، ودخلنا شبوة، مرورا بالصعيد وحبّان، وقبل وقت العصر كنا نقترب من عتق، عاصمة محافظة شبوة، سنصل إلى مدينة لانعرفها من قبل ولا نعرف أهلها.
هاتفتُ أحد الإعلاميين، كنا على تواصل افتراضياً وتجمعنا إحدى جروبات المهنة، ومع دخولنا المدينة التي بدأت بالتعافي تدريجياً من أوجاع الانتقام القادم من ضحيان صعدة وضاحية لبنان، كان صديقي (سالم) ينتظرنا في صالون الفندق، الذي حجز لنا فيه مجهزاً الغداء، استقبلنا بكرم وحفاوة، التقينا ببعض واقعاً للمرة الأولى.
عاد إلينا بعد منحنا بعض الوقت للغداء والراحة، أخذنا بسيارته إلى مجلس للصحفيين والمراسلين، أمضينا بضع ساعات للتعارف ومناقشة ترتيبات السفر إلى مأرب، ودعناهم لنعود لنوم طويل إلى الفندق متأهبين لجولة أخرى من عناء السفر ووعثائه كما لو أننا نمضي إلى المجهول.
كان الإعصار قد وصل المحافظة وأمواجه تضرب شواطئها وسواحلها. استيقظنا قبل الظهر والأمطار والعواصف تُغرق المدينة الصحراوية التي نادراً ما يعرف أهلها المطر.. السلطات المحلية والناس في حالة استنفار لمواجهة آثار الإعصار وسيارات الاسعاف انصرفت لجلب الضحايا، تناولنا غداءنا واستقلينا راحلة غمارتين أخذناها مشوار خاص، مودعين المدينة خلسة وبهدوء.
أحكم السائق تغطية الأمتعة في صندوق الهيلوكس لتجنيبها الغرق، واستأذننا في جلب رفيق له في الرحلة بعد علمه أننا من منطقة اعتاد البدو على تسميتها ب (زيدي).
الاعصار بدأ وقتئذ التمدد في الصحراء واليابسة غرباً.. يا لحسن الحظ، سترافقنا الأمطار الغزيرة طوال رحلتنا الطويلة حتى مأرب. الصحراء تمطر على غير العادة.
قال السائق إنه أول مرة يسافر تحت زخات المطر والعواصف والرعد، ويقول أنتم محظوظون، فتكييف السيارة سيكون خفيفاً، أجبرته العواصف والمياه المتدفقة على الطريق لتخفيف السرعة اتقاء الانزلاق وصعوبة حركة العجلات، مبديا قلقه من خطر التعرض لسيول جارفة. لم نعتد على السفر في الصحراء، الطعوز والمنخفضات تقبض قلوبنا وتصيبنا بالرجفة.
اقتربنا من الخطر المُحدق، طلبنا من السائق أن يسلك طريق العقلة الرويك المعبدة، صرحنا له بوضوح رفضنا المرور عبر المناطق الواقعة تحت سطوة مليشيا التمرد الحوثية.. نحن هربنا من إرهاب الحوثي، العدو الغاشم يعتبرنا مرتزقة ودواعش وخونة وفارون من وجه جرائمه، وها نحن نرمي بأنفسنا إلى التهلكة ونسير نحو الموت الذي يصرخ به عيال الخميني. مناطق بيحان، العين، عسيلان شبوة، ومديرية حريب مأرب، التي تمر منها طريقنا لاتزال بيد أعداء مسيرة الحوثي وشعارات الصرخة.
اقتنعنا مُجبرين بتطميناته: هو "كدّاد" معروف في حواجز الحوثي، وتجربته بأنهم هذه الأوقات مخزنين لايقومون بالتفتيش، ولا يتوقعون أن سيارة الأجرة تقل مطلوبين من شبوة إلى مأرب.. وإجراءاتهم في تفتيش العوائل خفيفة.
إعصار من الهواجس تفتك بي، خوف تعرضي وعائلتي للخطر، نحن أمام قتلة دمويون بلا قيم ولا أخلاق.. مرت على هواجسي بكل ما يمكن تخيله من مصائر سيئة، ساعات كما لو أنها سنوات، حبست فيها أنفاسي ويدي على قلبي كذبيحة تُقاد إلى المسلخ.
ارتعدت فرائصي حين رأيت شعارات الموت في أول حاجز للمسلحين الحوثيين، تجاوزناه بسلام.
بدت نبوءات السائق أكثر إقناعاً، كانت عين الله ورعايته تحرسنا، ورحمته (المطر) ترافقنا طوال الطريق. نعم إلهية مختلفة، خفف المطر علينا حرارة الصحراء وعناء السفر وجعلنا نعيش أجواء رائعة، اجتمعت لنا مع القلق نعمة السفر والسياحة والراحة، منظر المطر ومتعة هطوله وتدفق السيول وأصوات الرعد والبرق وسير السحاب؛ جعلنا نعيش لحظات تعودنا عليها في صنعاء وفي مسقط الرأس ريمة.
كان فضل الله أن الأمطار دفعت المسلحين في الحواجز الحوثية لترك مواقعهم والهروب للاختباء بعيداً، تجاوزنا معظم حواجز الموت بدون تفتيش، ملأ الله قلوبنا أمناً وطمأنينة، مثلما منّ على المؤمنين في معركة بدر، التي قال جل في علاه (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ).
تجاوزنا حدود شبوة، دخلنا مدينة حريب مأرب، وفي جسر المدينة وبينما كانت المئاذن تصدح بأذان صلاة المغرب، استوقفنا مسلح حوثي كان يقف في حاجز وسط الجسر الذي خرجت أجزاء منه عن الجاهزية في ضربة للطيران العربي.
وسط المطر الغزير وظلام العواصف وبداية حلول الليل أومأ المسلح لسائقنا بالتوقف، أنزل زجاجات السيارة وتحدث معه بلهجة البدوي: معي العوائل، رايحين زيارة الأهل.. ما فيش معنا حاجة، هي شنط ملابس مغطاة بالطربال من المطر. كنتُ أرتجف خوفاً؛ محاولاً التماسك والسيطرة على الادرينالين، لكم كانت لحظة عصيبة وأصعب موقف أواجهه في حياتي الغارقة في المتاعب. حين تكون في فم الموت، مع عدوك وجهاً لوجه. لقد كان خطر عبور حواجز الموت في صنعاء أسهل وأقل رعباً.
كنتُ أحمل في جيبي هوية أخرى تحسباً لليوم الأسود الأسوأ. تجاوزنا الحاجز بلا مكروه، ولا يزال أمامنا حاجة لمعجزة أخرى.
اقتربنا من أول نقطة للشرعية، تنفسنا الصعداء، دبت الفرحة في القلوب كخفقان علم الجمهورية اليمنية المرفوع في نقاط الأمن والدولة والقانون. تبادلنا التحية مع الجنود وعرّفناهم بهوياتنا الحقيقية ووجهتنا الصحيحة، ودّعناهم وطلبنا من السائق التوقف أعلى قمة ملعاء نستنشق الحرية. ها نحن ذا نولد من جديد وحياة جديدة تكتب الآن.
اقتربنا من مأرب، المدينة التي لم نعرفها وتعرفنا، استرجعت سجل هاتفي باحثاً عن مأربي يستقبلنا، اتصلتُ بالصديق (حسن) بعد انقطاع لسنوات، طار فرحاً بقدومنا وقام بالواجب بكرم ورحابة.
لم نكن نتخيل أن تطول التغريبة ومتاعب التهجير القسري. أقصى ما نبحث عنه في هذه الجغرافيا الوطنية الأمن والمأوى والكرامة، وفرصة لأداء الواجب النضالي وميداناً نتحيز إليه للقتال من أجل استعادة الوطن..
أما بعد:
أقول، وقد يُقال لي ما هي المناسبة لرواية قصة يومين من حياتك.
أكتب هذه السطور، لأن أهالينا في سقطرى والمهرة وحضرموت يواجهون كارثة تشبه اعصار "تشابالا"، ووصول اعصار "تيج" إلى المهرة وحضرموت بعد أن ضرب أرخبيل سقطرى.. متمنياً السلامة لأهلنا في تلك المحافظات.
كما أكتب هذه السطور الفائحة ألماً ووجعاً بالتزامن مع الذكرى الثامنة للنكبة اليمنية، والتغريبة القسرية التي جلبتها الاحتلال الفارسي ومليشياته الحوثية، بقايا المحتل الساساني، على اليمنيين.
هذه النكبة، لاتختلف كثيرا عن النكبة الفلسطينية على يد الاحتلال الصهيوني، وجرائمه بحق العرب في غزة والضفة الغربية والمدن المحتلة، وجريمة التهجير القسري التي يسعى الاحتلال وداعموه لرمي سكان غزة فيها تحت تهديد القتل والتنكيل والإبادة الجماعية.
ليتشبث الناس في غزة بأرضهم ويقاتلوا ويُقتلوا لمقاومة المحتل الغاشم، فمهما كانت الخسارة والأوجاع؛ فلن تكون أقسى من ألم التهجير وذل التشرد وخسارة الوطن، فالموت بكرامة على أرضك وفي بلدك؛ خيرٌ من البقاء بلا وطن ولا كرامة في بلدان ومخيمات اللجوء.