نحتاج لنهر الجنون
الساعة 04:39 مساءً

نحن نعيش في عالم مختل، وعلينا أن نشرب من نهر الجنون حتى نتكيف مع هذا الواقع. فما قيمة نور العقل وسط مملكة من المجانين؟.. هذا السؤال يلخص القضية الفلسفية التي عالجتها مسرحية نهر الجنون للكاتب الكبير توفيق الحكيم ويلخص في الوقت نفسه واقعا مريرا، تصنعه نخب وقيادات مختلة في عالم مضطرب. في القصة الخيالية، شرب الناس من نهر الجنون ففقدوا عقولهم وصار الذى لم يشرب من النهر ومحتفظ بعقله هو غريب الأطوار والمجنون في نظر المجتمع المختل.

وفي واقعنا على ما يبدو سيتم إعادة برمجة البشرية بحيث تستقبل المصحات العقلية سليمى التفكير لا المختلين عقليا، ثم يطلقون إلى المجتمع بعد ضرب سلامة تفكيرهم، وعندما يدركهم الخلل كليا يحصلون على شهادة تقول إنهم اسوياء. فقط ليغدو الكل واحدا، ويتأقلم الكل مع هذا الخلل، ويقبل بمنهج تعزيز التفاهة، ونغدو في واقع هو أسوأ من خيال مأساة نهر الجنون. نرقب هذا التصفيق للقتل، وشرعنة الفوضى وتمجيد الحروب في محافل صُمّمت لصنع السلام. ومنذ صفق العالم لقنبلة هيروشيما وحتى خنوعه حول دمار غزة نجد مسار الانهيار القيمي مستمرا. أنظر إلى أهم محفل دولي أي الأمم المتحدة، يجتمع الناس ويقررون في اجتماع الجمعية العمومية قرارا يصوت له كل العالم مقابل اعتراض صوتين فقط!! ولا يسرى إجماع العالم.

ولا يحترم رأى 187 دولة مقابل صوتين (أمريكا وإسرائيل)، أو بالأصح هنا صوت واحد بنغمتين. وما زلنا نسمى نظام الأمم المتحدة بأنه أرقى خطوات التطور الحضاري والديمقراطي للإنسان الحر؟! . بل وأنه منبر الديمقراطية والمساواة واحترام الآخر !. أي آخر مقصود؟.

هنا نحتاج إلى ألف علامة تعجب. إذاً كيف يكون الجنون إذا لم يكن هذا؟. فيما مضى كان الإنسان يصنع الأسلحة من أجل الحروب ونسمى ذلك همجية، الآن صار يصنع الحروب من أجل بيع الأسلحة ونسمى ذلك حضارة وتمكنا!. نحن في حقيقة الأمر نجتمع في لقاءات صاخبة لنقول لأنفسنا لو كان هناك ما هو أهدأ من الصمت لفعلنا. وندرك أننا في غابة تعمل بمنطق أدركه الطير قبل الإنسان، وهو أن الذئاب لا تقتل الغزلان غير المحظوظة، بل تقتل الغزلان الضعيفة التي لم تقاتل من أجل نفسها.

وبالعودة إلى واقعنا العربي الآن، والسؤال حول مدى الكارثة التي نعيشها منذ إعصار غزة، فإننا أمام تساؤل مؤلم ومستفز في آن، كون الكارثة تتضخم كل لحظة، وهى مثل كرة الثلج المتدحرجة تكبر مع تزايد سقوطها. أما السؤال عن المستقبل في المنطقة فلم يعد بحاجة إلى وعظ ولا تحليل إستراتيجي. هناك نكبة جديدة نعيشها، لابد من مواجهتها لتتحول إلى فرصة للخلاص. فالكلفة عالية ولا تحتمل، وهى تتجاوز درب الآلام للثورة الفلسطينية لتصل إلى عمق واقع عربي صعب. فالجرح عميق لأنه يصيب جوهر الكرامة الإنسانية وليس فقط كرامتنا كعرب، ولا وجود لمجتمع دولي يتفهم معنى حياة المدنيين. والنظام الإقليمي عربيا يتعرض للتمزيق حرفيا، ولا يجرؤ المرء أن يقول مقترحا يتناسب والتصدي للواقع ويعيد الاعتبار للأمة. فبدون العودة إلى مشروع حضاري يتجاوز هذا التشظي، سنبقى ساحة للتصفيات الإقليمية والدولية لا أكثر، وإمكانية استنساخ دمار غزة في كل الوطن العربى وارد ولو بعد حين.

إنها واحدة من لحظات التاريخ ذات الفجائع الكبرى التي نقرأ عنها، وما حدث فيها من تبدلات للخرائط، ومن حلول للخراب الكبير. وأمام هذا المزاج العالمي العجيب لفت نظري تعليق وزير الخارجية الروسية على تصريحات نظيره الأمريكي واستخدامه عبارة، طوبى لمن آمن فهو يشعر بالدفء في هذا العالم. 

ومرد الدهشة هو أن تجد في عالم السياسة من يستعير عبارات من الأدب العالمي. ويعود تعبير طوبى لمن آمن، فهو يشعر بالدفء في هذا العالم! إلى مسرحية (ذو العقل يشقى) للكاتب ألكسندر غريبويدوف، وهو تعبير يستخدم كناية عمن يثق بشكل مفرط وغير معقول في خططه وآماله الوردية. والتعليق الأهم الذى علق في ذهني، أن ذلك ينطبق على معظم العالم. فنحن نرى جرائم هذا العالم تجاه غزة والكل ينظر للجريمة، دون عقل يشقى به أو ضمير يجعله لا ينام. فالكل مؤمن بالقتل ويشعر بالدفء، وما تبقى من الشعوب صارت لا تثق البتة بكل قيم عصر الزيف وتعزيز التفاهة. وبعد كل اجتماع دولي أخرج وأقول في نفسى: أظن بأننا صرنا بحاجة إلى نهر الجنون لنتأقلم مع هذا الخراب العظيم، الخراب الذى أصاب أرواحنا قبل أن يصيب الحجر والشجر.