قصة نبيذ الغيوم
الساعة 06:52 مساءً
  • صحفي وكاتب

وُجدت شجرة البن في اليمن ضمن ما تحويه الطبيعية اليمنية من أشجار وبيئة فريدة من نوعها، ومع ذلك لا يوجد تاريخ يحدد متى بدأ اليمنيون بزراعة شجرة البن والاهتمام بثمرتها الساحرة، لكن الأرجح أنهم زرعوها في اليمن القديم في عصر مملكة سبأ في الألفية الأولى قبل الميلاد، والتي امتدت خارطتها بين الجزيرة العربية وشرق أفريقيا.
وجُدت شجرة البن في أراضي سبأ القديمة والتي هي اليوم اليمن وامتداده الطبيعي والتاريخي في مرتفعات شبه الجزيرة العربية، وفي بلاد الحبشة، ومن هنا نشأ الخلاف بين المختصين بتاريخ القهوة هل ظهرت في اليمن أم في الحبشة؟ وهو خلاف شكلي، فشجرة البن (القهوة) ظهرت في حدود مملكة سبأ القديمة لذا لا يهم أين ظهرت أو أين اكتشفت أولاً.
استخدم اليمنيون القهوة في مراحل مختلفة من التاريخ، وما وصل إلينا من تاريخ استخدامهم للقهوة بالطريقة المعروفة بعد تحميصها ربما لا يزيد عن 1000 عام خلت، وربما كان لها استخدامات مختلفة عما هو معروف اليوم- في الصناعات العشبية الطبية القديمة التي اشتهرت بها اليمن، وكذلك في صناعة العطور -وسميت أماكن تقديم القهوة اليمنية بـ "المقهاية" وحديثاً أطلق عليها "مَقْهًى" وجمعها مَقَاهٍ، وتم تعميم التسمية عالمياً.
أطلقت مفردة قَهْوَةُ على الخمْر، كما تشير قواميس اللغة العربية، وهي تشير أيضاً لمشروبات أخرى كاللبن، وهي صفة أطلقت قديماً على من يتناولون المشروبات من ذوي الخصب في مواطنهم، وهم المترفون، وبحسب لسان العرب "وإنه لفي عَيْشٍ قاهٍ أَي رَفيهٍ بيِّنِ القُهُوَّةِ والقَهْوة، وهم قاهِيُّون".
وفي اليمن اليوم، تستخدم مفردة قهوة لشرب الشاي، وكذلك لشرب الُبن، وشرب قشر البُن، وغيرها من المشروبات الساخنة كالزنجبيل. ويخطئ من يذهب إلى إن كلمة قهوة مأخوذة من التركية "kahveh" وترجمت إلى الإيطالية "caffè" وإلى الإنجليزية  "coffee"  إذ لا جذر للكلمة في التركية وغيرها من اللغات، فقط الكلمة مأخوذة من اللغة العربية "اليمنية"
القهوة يمنية
يذهب البعض إلى محاولة نزع القهوة من "يمنيتها" بقولهم قهوة عربية، لكن الصحيح هي قهوة يمنية لأنها منتج يمني خالص، واليمن ليس فقط الجمهورية اليمنية المعروفة اليوم، بل هو ممتد في حدود الممالك اليمنية القديمة: معين وسبأ وأوسان وحمير، وهي دول حكمت الجزيرة العربية برمتها وشرق أفريقيا. لذا فالقهوة "البُن" منتج يمني خالص، حملتها الهجرات اليمنية من اليمن الكبير إلى كل أرجاء الوطن العربي. ولا يصلح اطلاقها على الأقطار المحدثة خاصة تلك التي كانت جزءاً لا يتجزأ من الحضارة والدولة اليمنية في عصورها المختلفة.
نبيذ الغيوم
عندما أطلقنا على القهوة نبيذ الغيوم، فإننا نشير إلى أنها القهوة اليمنية القادمة من قمم اليمن التي ترتفع فوق السحب، إذ تقطف القهوة من جبال اليمن الشاهقة التي تمر السحب من تحتها، وهي التي حين تشربها تأخذك بعيداً فوق الغيوم.
الشاذلية
ارتبطت القهوة بطقوس الفرق الصوفية اليمنية، لتساعد مريديها على السهر وقيام الليل، واشتهرت فرقة الشاذلية المنتسبة لشيخها المتصوف علي بن عمر بن إبراهيم الشاذلي باستخدام القهوة اليمنية، وقام بنقلها خلال رحلاته من موطنه في المخا (Mocha) إلى مناطق متعددة من الجزيرة العربية والشام ومصر، وسميت القهوة نسبة إليه بـ "الشاذلية". 
من المخا إلى كل العالم
بعد انتشار القهوة من المخا في اليمن إلى مكة والمدينة ومصر والشام وإسطنبول منذ القرنين الرابع عشر والخامس عشر الميلادي واجهت معضلة تحريمها من قبل بعض الفقهاء، والبعض الآخر لم يقبلوا تحريمها وأحلوها، وقد ألف عبد القادر الجزيري الحنبلي كتاب "عمدة الصفوة في حِل القهوة" في القرن السادس عشر الميلادي.
لم يكن الأوروبيون يعرفون القهوة حتى القرن السادس عشر، وتعرفوا عليها في البداية على أساس أنها نبتة طبية، ذكرها الدكتور  ليونهارت راوولف الألماني في كتاب حول رحلته إلى أجزاء من الوطن العربي عام (1573)، ووصف القهوة اليمنية بأنها: "مشروب أسود مثل الحبر، مفيد ضد العديد من العلل لا سيما أمراض المعدة، يشربه مستهلكوه صباحاً في كأس من الخزف-الحيسي- يمر مـن واحـد لآخـر حـيـث يرتشف كل شخص رشفة رنانة، وهي مكونة من ماء وفاكهة شجيرة تسمى البن."
في القرن السادس عشر نقل العثمانيون القهوة من المخا إلى أوروبا والعالم، حينها تحولت القهوة إلى سلعة تجارية مطلوبة في كثير من البلدان، وقد أسهمت القوى الاستعمارية بنقل شتلات البن اليمني إلى مناطق متفرقة من العالم، حيث قامت دول الاحتلال البرتغالي والإسباني الهولندي والفرنسي والانجليزي بنقله إلى مستعمراتهم. البرتغاليون نقلوا زارعة البن إلى البرازيل، وتبعهم الإسبان بنقله إلى أميركا الوسطى، والهولنديون نقلوا شجرة البن إلى سومطرة في إندونيسيا وإلى سيرلانكا، والفرنسيون نقلوا شتلات البن إلى الكاريبي.
أرابيكا و روبوستا
هناك نوعان رئيسيان من القهوة على مستوى العالم، النوع الأول هو   Arabica أرابيكا، ويشير إلى القهوة العربية، وهي القهوة اليمنية بالتحديد وبلا منازع، والنوع الثاني هو Robusta روبوستا، وهي القهوة الحبشية، وكلاهما (أربيكا وروبوستا) قهوة من أرض سبأ اليمنية.
النكهة الزكية
تحولت القهوة إلى مشروب عالمي، يستهلكها ملايين البشر الذين يصحون من نومهم على رائحتها الساحرة، وتنافست شركات عالمية في تسويقها وتقديمها، وأضافت لها النكهات المختلفة ولأن القهوة اليمنية احتفظت بأصالتها خلافاً لكل المناطق الأخرى، والتي تتميز كما يصفها الخبراء بنكهة ترابية (Earthy) ورائحة زكية (Aromatic) مع طعم خفيف يشبه الشوكولاتة. ولذا حين أضاف أصحاب المقاهي لقهوتهم القادمة من بلدان أخرى بعضاً من الشوكولاتة، أطلقوا عليها اسم موكا (Mocha) في محاولة للوصول للطعم الأصيل والمذاق المميز للقهوة اليمنية.
المذاق الفريد
تعمد بعض شركات إنتاج القهوة المختصة في أنحاء متفرقة من العالم إلى الحصول على منتج قهوة خال من مرارة القهوة، ولتحقيق ذلك، يقومون بإطعام حبوب القهوة لبعض الحيوانات مثل قطط الزباد، والفيلة، أو الطيور مثل غوان، والمعروفة أيضًا باسم طيور جاكو. والتي تتناول حبات البن بقشورها وتخرجها بعد عصرها في بطونها حبات بدون قشور، وكل ذلك للتخلص من مرارة القهوة. لذا ترتفع أسعار هذه القهوة المختلطة بروث الحيوانات لأنها استغرقت الكثير من الوقت والجهد.
لكن القهوة اليمنية حلوة المذاق لا تحتاج إلى هذه العملية المعقدة، فطبيعة اليمن وتضاريسه المتنوعة وبيئته الخصبة جعلته ينتج القهوة الأصلية لهذا العالم، وما تنتجه بقية البلدان ليس سوى قهوة مستنسخة. مع أن شتلات القهوة اليمنية وصلت العالم - حزام البن- إلا أن مناطق الزراعة الجديدة لا تشبه اليمن ولا بيئة اليمن الغنية ومناخها وتنوع طقسها.
القشر
في اليمن السعيد يتم فصل حبوب القهوة عن قشورها، ومنذ القدم تم تصدير حبوب البن الصافي، لغرضين: الأول هو حتى لا يتم إعادة زراعة البن في مناطق أخرى غير اليمن وهو غرض استراتيجي على المدى البعيد لتظل اليمن تحتكر زراعة شجرة البن وتصدر القهوة للعالم، والثاني يتمثل في بيع حبوب البن الصافي المرتفع الثمن، واستهلاك قشور البن في المجتمع المحلي، وهو غرض اقتصادي بحت. في زيارته لليمن بين عامي 1877-1878 أشار الرحالة الإيطالي رينزو مانزوني في كتابه (اليمن: رحلة إلى صنعاء) إلى استهلاك اليمنيون للقشر وتصديرهم حبوب البن الصافي إلى العالم.
الرسالة
القهوة اليمنية هي رسالة (اليمنيون) للعالم، تحمل مضامين السلام والمحبة، والمذاق الفريد، فاليمن موطن القهوة والتجارة وحلقة الوصل بين الشرق والغرب.