شريط العناوين
إصابة 3 مدنيين في قصف للمليشيا الحوثية استهدف حياً سكنياً في تعز الأمم المتحدة: مقتل 341 عامل إغاثة منذ بدء عدوان الاحتلال الاسرائيلي على قطاع غزة 44502 شهيد و105454 مصابا حصيلة العدوان الإسرائيلي على غزة الكويت تستضيف إطلاق اللمحة العامة للعمل الإنساني العالمي للعام 2025 ولي العهد السعودي والرئيس الفرنسي يبحثان تعزيز التعاون بين البلدين بحيبح يدعو اليونيسيف إلى المساعدة في تعزيز نظام الجودة في القطاع الصحي باناجه يناقش مع وفد أوروبي مستجدات الأوضاع الأوضاع المالية والاقتصادية لجنة من وزارة الدفاع تزور قيادة اللواء 35 مدرع بتعز وكيل وزارة الثروة السمكية يثمن الدعم الألماني للقطاع الزراعي والسمكي اجتماع برئاسة شمسان وباوزير يناقش تعزيز أداء القضاء في تعز
الثلاثاء 03 ديسمبر 2024 م
يوليو تموز ,, الحديث الآخر الطليعة العربية
2009/07/22
الساعة 12:00 صباحاً
البديل خاصبقلم الاستاذ حبيب عيسى
.... كانت مملكة مصر ، كما قلنا في الحديث السابق ، تشهد الإرهاصات الأولى للانتقال إلى الجمهورية المصرية، ثم إلى الإقليم الجنوبي من الجمهورية العربية المتحدة ... ونؤكد ، كما يقول كتاب التاريخ لمن يريد أن يقرأ ، أن حصار جيش مصر في فلوجة فلسطين عام 1948 كان حجر الأساس في بناء تنظيم الضباط الأحرار ... لكن هذا كان جزءاً من الصورة ، وحسب ، التي لن تكتمل إلا بقراءة الفصل الآخر في كتاب التاريخ والذي تزامن مع تلك الأيام على الصعيد الشعبي ، والمدني ، والحزبي، والثقافي ... في داخل مصر ، حيث أفرز المجتمع العربي في مصر كتائب من الفدائيين تنتمي إلى مختلف الاتجاهات السياسية، والفكرية .. لمواجهة الصهاينة في فلسطين .. لكن النظام الإقليمي في مصر ، وفي غير مصر، أغلق الطريق أمام الجماهير العربية ، وأحاط مستوطنات الصهاينة بخطوط الهدنة من الاتجاهات الأربع ... ما يعنينا، هنا، أن تلك الكتائب الفدائية التي كانت تشكلت في ربوع مصر لم تلق السلاح ، وإنما اتجهت إلى منطقة قناة السويس حيث القوات البريطانية المحتلة، هنا، في القناة ، والمتواطئة، هناك، في فلسطين .. وبدأت حرب مقاومة فدائية بطولية ، توجت بتحرير القناة، ومصر .. تلحظ أوراق كتاب التاريخ، عن تلك المرحلة الحاسمة ، أن كتيبة واحدة من تلك الكتائب الفدائية تميزت بما يلفت نظر المراقبين، في تلك الأيام، بأنها الكتيبة الوحيدة التي كانت تحمل كتباً، بحجم المؤن ، والذخائر، والعتاد ، وتتحمل عبء التنقل بها رغم صعوبة ذلك ، وان تلك الكتيبة كانت تحت قيادة عصمت سيف الدولة ، وأنها من كتائب الحزب الوطني ، حزب احمد عرابي ، الحزب الذي لم يعرف أبداً كيف يفاوض المحتل ، لكنه عرف دائماً كيف يقاومه ... تضيف أوراق كتاب التاريخ، أن هناك علاقة خاصة تشبه علاقة الحبل السري ، بالجنين، بين الضباط الأحرار ، وكتائب المقاومة، والفداء تلك ... لكن العطاء، والتفاعل، هنا، كان بالاتجاهين معاً ... فقد كانت تلك الكتيبة، التي قادها عصمت سيف الدولة، واحدة من كتيبتين تكونتا من شباب الحزب الوطني ، حيث تم التدريب النظري في منزل رقم / 2 / شارع خيرت، بالسيدة زينب، بالقاهرة خفية ، وتم التدريب على الرماية بالأسلحة الخفيفة في معسكرات سلاح المدفعية ، وتم التدريب على استعمال المتفجرات في معسكرات سلاح المهندسين ، وتم ذلك كله على يد الضباط الأحرار الذين ادخلوا أولئك الفدائيين، خفية، على تلك المعسكرات لتدريبهم ، ولما تم إعدادهم، سلحهم الضباط الأحرار من مخازن الجيش، خفية ، ثم توجهوا إلى الجبهة في منطقة القناة ، وفي منطقة أبو حماد تحديداً، في محافظة الشرقية ، وللذين يهتمون بالأسماء نقول أن الضباط الأحرار الذين أشرفوا على تدريب الفدائيين ، وكانوا صلة الوصل بين الفدائيين، هم : وجيه أباظة الذي كان يتواجد مع الفدائيين ابتداء من مغرب كل يوم لقيادة المجموعات في العمليات الهجومية على المعسكرات البريطانية ، أما ضابطا الاتصال اللذين لعبا منذ البداية دوراً أساسياً في هذا النشاط المشترك فكانا، عبد المجيد فريد، سكرتير رئاسة جمال عبد الناصر فيما بعد ، ومحمد عبد الرحمن حسين وكان الهدف المتفق عليه تكوين جيش ثوري من خلال القتال ضد المحتلين البريطانيين، يكون قادراً في مرحلة لاحقة على إشعال الثورة في مصر... لكن حريق القاهرة عجل بالثورة عام 1952، وبتطور الأحداث كما تطورت فيما بعد ..وللشغوفين بمعرفة التاريخ الحقيقي للمناضلين، اللذين لا تنتبه لهم كتب التاريخ غالبا، لأنهم يحرصون على النضال سراً،وبعيدا عن الأضواء ،يناضلون، ويمضون بصمت...،نقول: أن القاضي، في مجلس الدولة، سليمان حافظ رفيق عصمت سيف الدولة،هو الذي أعد كتاب تنازل الملك فاروق عن عرش مصر،وهو الذي حمل الكتاب إلى قصر التين، ليوقعه الملك، الذي وقعه بيد ترتجف،لم يوافق القاضي على ذلك،فطلب للملك فنجانا من القهوة،وانتظر إلى أن هدأت أعصابه،عندها تقدم، سليمان حافظ، بالكتاب،مرة أخرى،من الملك ليوقعه، بأعصاب ثابتة، وبيد لا ترتجف،حتى لا ينكر توقيعه،بعد ذلك.......أردنا من سرد تلك الوقائع التأكيد على أن حركة الضباط الأحرار لم تولد من فراغ،وأنهم كانوا الجيل الرابع الممتد إلى أحمد عرابي.....وأنهم كانوا جزءاً من حراك وطني ،وشعبي شامل... على أية حال....بعد سنوات، من ذلك،وبعد نكسة عام 1967،كتب عصمت سيف الدولة، مع رفيقه الآخر،من الإقليم الشمالي، محمد الخيّر، ما عرف، في ذلك الوقت، ب(بيان طارق)،يتضمن انتقادات لاذعة لتدخل أجهزة الدولة في الجمهورية العربية المتحدة في بناء التنظيم السياسي،ويدعو لبناء "الطليعة العربية" بعيدا عن تدخل تلك الأجهزة...عندها استدعى وزير الداخلية الذي كان على رأس تلك الأجهزة، عصمت سيف الدولة،فكانت مناسبة، ليستمع الوزير إلى محاضرة في القومية،والنضال ، والطليعة العربية ، خاصة وأن السيد الوزير كان يدرك أن عصمت سيف الدولة، خط أحمر، لا يسمح جمال عبد الناصر، لأحد، بتجاوزه،وبالتالي من غير المسموح به المساس بعصمت سيف الدولة .....والسيد الوزير كان يعرف حدوده ، فانتهى اللقاء عند هذا الحد.....،ولهذا كان أول عمل قام به "الرئيس المؤمن" أنور السادات على الصعيد المدني،(بعد أن تخلصّ من المسؤولين في الدولة الذين لم ينصاعوا لسياساته بمن فيهم وزير الداخلية ذاك )،هو اعتقال عصمت سيف الدولة، وعدد من تلامذته،بتهمة أنشاء تنظيم قومي لإسقاط جميع الأنظمة العربية،من المحيط إلى الخليج،ثم أعاد السادات الكرة ،واعتقل عصمت سيف الدولة، مرة أخرى،قبل أشهر من مصرعه على يد أبن الاسلامبولي...هذا حديث آخر، يطول شرحه، على أية حال..... لكن،وبالعودة إلى تلك الأيام التي سبقت ثورة 1952،ولفهم الصورة ببعدها القومي، نقول، أن ما كان يجري في منطقة قناة السويس ،وفي مصر عموماً بين الضباط الأحرار، وبين المقاومين المدنيين، في مطلع الخمسينات من القرن المنصرم، كان المعادل الموضوعي من حيث المكان، والزمان، لما كان يجري في المشرق العربي، من تفاعل بين عناصر المجتمع المدني، وفصائله المقاومة الفدائية ،وجيش الإنقاذ،من جهة، وبين الضباط الأحرار في المشرق الذين كانوا يتمردون على قياداتهم ...من جهة أخرى....وقائمة المناضلين في المشرق كانت طويلة،لا يتسع المجال هنا لسردها..... من عز الدين القسام، إلى فوزي القاوقجي،إلى عشرات المناضلين، والفدائيين،والضباط الأحرار الذين كانوا يتمردون على الأوامر..... ( 2 ) وإذا كان المجال هنا لا يتسع لتفاصيل أحداث التاريخ على أهميتها ، فإن الدخول إلى عالم عصمت سيف الدولة، ينفتح على فضاء واسع من النضال،و الإبداع، والعطاء، والإصرار، لتصميم البناء القومي العربي ، ودراسة أدق التفاصيل من التأسيس ، وإلى الإنجاز النهائي، بحيث يتم تجاوز عقابيل الانفصالات والانتكاسات، والهزائم، والردات ... عصمت سيف الدولة،كمفكر،وفيلسوف،ومناضل، من أولئك الرجال، الرجال، الذين واجهوا أسباب الأزمات ، وعواملها بالكشف عن جذرها ، كان قد أدرك منذ البدايات أن أزمة التيار القومي العربي أعمق من أن تحل بالاستسهال ، أو بالحلول التكتيكية الآنية ، أو بتوليفة من الأفكار المتناقضة ، أو برفع الشعارات المفرغة من مضامينها، وذلك لأن عصمت سيف الدولة كان قد أدرك قبل ذلك ، معه، وبعده، مدلولات المشروع القومي العربي بمعنى حجم القوى الهائلة ، والظروف بالغة التعقيد في الواقع العربي ، وعلى امتداد العالم، التي ترى في أن وضع اليد على الوطن العربي يرتبط ارتباطاً مصيرياً بالأمن القومي لقوى الهيمنة الدولية من جهة ، كما أن قوى التخريب والتفتيت التي أنتجتها عقود ، بل قرون من التخلف، والاستنقاع، والاستبداد، ترتبط ارتباطاً مصيرياً بمشروع الهيمنة الخارجية ، وبالتالي فإن المشروع القومي العربي، كمشروع نهضة، وتنوير، وتقدم، وعدالة، ومساواة، وتنمية، وحرية، وأنسنة، هو مشروع إنساني شامل، لا يمكن أن يبنى على أفكار، ومناهج، ما سمي عصر الأنوار في أوروبا ، رغم ما فيها من نبل، وحرية، وذلك بعد أن احتوتها الرأسمالية المتوحشة، وأفرغتها من مضمونها الإنساني ، وتجسدت استعماراً ، ونهباً ، وتوحشاً على أرضنا العربية ... كما لا يمكن للمشروع القومي العربي أن يبنى على أفكار ما سمي الاشتراكية العلمية رغم ما فيها من أحلام إنسانية، بإلغاء استغلال الإنسان للإنسان ، خاصة بعد أن تجسدت بنظم استبدادية فردية التهمت ما في ذلك المشروع الفكري من أنسنة وعدالة ومساواة ، ثم تجسدت على الأرض العربية بنظم فردية استبدادية دمرت النسيج الاجتماعي حيثما حلت ... كما لا يمكن للمشروع القومي العربي أن يبنى على الأفكار الدينية خاصة بعد أن تجسدت بمذاهب، وملل تكفرّ بعضها ، البعض، وتتلاعن، صبح، مساء .. رغم ما تبديه، من نفاق ظاهري، بين بعضها البعض ... وتلتهم، كل ما في تلك المبادئ الدينية السامية، من نبل، ومساواة، ورفض للظلم ،وتتجسد، من حيث النتيجة، إما بصليبية قاتلة، أو بسلطنة غاشمة ... أو بعنصرية صهيونية،وغير صهيونية، مدمرة ... كما لا يمكن للمشروع القومي العربي النهضوي التنويري أن يبنى على حضارات قديمة بعد أن تجسدت باتجاهات تلغي ما قبلها ، وترفض ما تلاها ، كأن التاريخ البشري بدأ معها ، وانتهى في أوابدها ، فيشوهون نتاجها الحضاري الإنساني ، وينحَطون بها، إلى عنصرية قبلية، تهدد، تهديداً شديداً النسيج الاجتماعي للأمة .... ( 3 ) هنا ، افترق عصمت سيف الدولة، عن كثيرين ، لم يجتزىء أفكارا،ً ويخرجها من سياقها ، لم يلفقّ بين أفكار وأخرى ، لم يستسهل الحلول ، لم يتهرب من مواجهة المشكلة، بنفي وجودها أصلاً ، كما حاول البعض الذين أعلنوا صراحة أنه لا ضرورة للنظرية ، لا ضرورة للمنهج ... بل أنهم ذهبوا إلى أبعد من ذلك، بتوجيه الاتهامات من كل نوع، إلى من يتحدث عن ضرورة البحث المنهجي ،والنظري ... فلا قيمة عندهم إلا للممارسة ، وأن ماعدا ذلك مضيعة للوقت ... إلى أن نضحت التجربة بما فيها ، فالعمل، والممارسة، دون منهج، ونظرية، كالإبحار في محيطات تتلاطم فيها الأمواج بلا بوصلة ... فالوحدة انتهت إلى الانفصال ، أما الصمود، والانتصار، فاندثرا، تحت ركام الهزائم ، ومسيرة الاشتراكية والعدالة الاجتماعية انتهت إلى الانفتاح، وطفيليات النهب، والتخريب ... والطريق إلى الوحدة العربية، بين الأجزاء، تفرعت عنه المسارب إلى تجزئة المجزأ بين الطوائف والمذاهب ، والأثنيات من كل نوع ....لم يكن عصمت سيف الدولة يبتدع الحاجة إلى المنهج،وإنما كان المنهج حاجة ملحة،وهي مشكلة ،وحاجة إنسانية، وليست حاجة عربية،وحسب،ومن الطبيعي أن تجد حلها،في الوطن العربي،لأن تحرره،ونهضته،بل ،وحتى وجوده،يتوقف على حلها حلا علميا صحيحا.. استناداً إلى تلك الرؤى المبكرة اتجه عصمت سيف الدولة إلى جذر المشكلة مباشرة، لإطلاق طاقات الإنسان العربي، باتجاه الحرية، والتقدم، والوحدة ، وتحريره من كافة القيود التي تقيّد حركته عبر رؤية شاملة، ومنهج علمي، واضح ،ومحدد ... فإذا كانت الثورة العربية قد انتهجت منهج ( التجربة والخطأ )، وحققت، في ظله، كثيراً من الانتصارات ... فإنه كان منهج الضرورة المؤقت ، لأن الثورة العربية، عندما لم تتجاوزه،في الوقت المناسب، إلى منهج علمي، دفعت ثمناً باهظاً، تقدم غير مطرد ، وجهود ضائعة ، وتمزق في الصفوف، يبدد طاقات كان من الممكن أن تكون ذات إنتاجية عالية للثورة العربية ... يتحدث عصمت سيف الدولة، في تقديم كتابه، الأساس، الذي تضمن، منهج جدل الإنسان، في مطلع عام 1965 ،عن صعوبة البحث المنهجي في ظل ظروف بالغة الاضطراب فيقول : " لقد قدم المثقفون اجتهادات جادة حيناً، وغير جادة حيناً آخر ، وكان وراء الاجتهادات الجادة جهد مخلص، لا شك فيه ، وكل جهد مخلص في هذا الميدان لبنة بناء ، ولكل الذين اجتهدوا ثواب الاجتهاد، وإن جانبه التوفيق ، ولكل من جانبه التوفيق عذر في صعوبة المهمة التي ألقتها الظروف على كاهل هذا الجيل العربي ، وترجع صعوبة المهمة إلى تشابك الأحداث في المرحلة التاريخية المعاصرة ، والمستويات العليا التي وصل إليها البحث العلمي ، فالمنهج العلمي يجب أولاً، وقبل كل شيء، أن يكون علمياً ، أي مجردا من التحيز، والتعصب، والخوف ... وان يجيب على الأسئلة التي تطرح ، عن الإنسان كفرد ، والإنسان في جماعة ، والجماعة في الطبيعة ، وحركة كل هذا في الزمان ." (4 ) لقد انطلق، عصمت سيف الدولة، من منهجه جدل الإنسان، بعد أن وضعه في سياقه التاريخي، عبر نقاش موضوعي، مع سائر المناهج الوضعية، والسماوية ، وبنى عليه موقفاً نظرياً من الوجود القومي ، وصولاً إلى الوجود الإنساني ، ثم أتبعه، بأبحاث، عن الطريق إلى الوحدة العربية ، ثم الطريق إلى الاشتراكية العربية ، ثم وحدة القوى التقدمية العربية ، ثم الطريق إلى الديمقراطية وسيادة القانون في الوطن العربي ، ثم بيان طارق ، والسؤال التاريخي ما العمل ...؟ ... ثم نظرية الثورة العربية ، وكتاب السجن، عبر،إعدام السجان ، وحكم بالخيانة، والأحزاب ومشكلة الديمقراطية في مصر ، وهل كان عبد الناصر ديكتاتوراً ، وتحذير إلى المقاومة العربية في فلسطين، من التقدم على الطريق المسدود، وحوار مع الشباب العربي ، ثم دفاعاً عن الشعب، ودفاعاً عن الديمقراطية ، ودفاعاً عن ثورة مصر ،وعن الناصريين وإليهم ، والشباب العربي – مشكلة الانتماء – ثم مذكرات قرية التي لم تبوح بكل أسرارها ، إضافة إلى عشرات الدراسات ، والمحاضرات، والمداخلات ... والحوارات التي لم تنته ، ولن تنته ، ذلك أن ما بدأه عصمت سيف الدولة ، مازال له تتمة ، وطوبى لكل من يضيف كلمة ، سطراً ، حركة ... نضالاً ... لتغيير الواقع العربي، باتجاه التقدم ، والتنمية، والحرية ، والانعتاق من براثن التخلف ، ومن شرور الهيمنة، والعدوان ... فعلى ذلك الأفق العربي الناهض باتجاه التغيير والحرية ، ومع كل خطوة إلى الأمام سنصادف عصمت سيف الدولة ، حادياً، وحاسماً ، ومعلماً ، ينير منهجه الطريق،إلى الحرية، أمام الجيل العربي الجديد ..!! عصمت سيف الدولة، صاحب منهج "جدل الإنسان" ، الذي يقول: أن الإنسان لا يكف عن الجدل حتى آخر لحظة في حياته ، شاء هذا أم أبى ... عصمت سيف الدولة هذا ، وفي صيف عام 1993 ، وبينما كنا نداعب رمال الساحل الشمالي ( للإقليم الجنوبي )، قال لي بلهجته الصعيدية الآمرة الحاسمة : لقد آن الأوان ، أريد فعلاً أن أمشي ..! قلت ممازحاً: تمشي تروح فين ..؟ قال : اسمع ، ما أريد أن أقوله، قد قلته ، وأنا أشعر الآن، أنني بت عبئاًً حتى على أفكاري ... هناك مشكلة عربية، تحدثت عنها كثيرا، كما لابد تذكر ، وهي الشخصنة ، هناك من يخلط بين الموقف الشخصي من عصمت سيف الدولة ، وبين الموقف الموضوعي من أفكار عصمت سيف الدولة ...لو ذهبت إلى أي مكان في مصر، لن يناقشك أحد، بجدل الإنسان ، ولا بنظرية الثورة العربية ، ولا بالطريق إلى الوحدة العربية ... سيحدثونك عن موقفهم الشخصي من عصمت سيف الدولة ، وعن موقف عصمت سيف الدولة منهم ، وهذا ينسحب سلباً على مشروعكم القومي ، عندما أغيب ، سيختفي العامل الشخصي وسيكون الجميع أمام المشروع الفكري، المنهجي، والنظري، موضوعياً ، وهذا لصالح المشروع القومي العربي ... قلت له : أمد الله بعمرك ... مازال هناك ما يجب أن تقوله ... أليس هذا هو جدل الإنسان ... قال : هل تعرف، لقد اكتشفت أن محمد عبده تحدث عن " جدل الإنسان "، قلت: وستكتشف الكثير أيضاً ... ،وافترقنا ... على أمل أن نلتقي قريباً ... لقد أخذني ذلك الحديث الحزين إلى هاجس مازال يشغلني ... منحته ، وسأمنحه، ما تبقى من عمري ...عصمت سيف الدولة،وعلى العكس تماماً من المخاوف التي ركبت رؤوس الكثيرين، من انه يسعى لينتزع منهم الزعامة ، أو ليشاركهم فيها على الأقل .. عصمت سيف الدولة، لم يسعى، في يوم من الأيام، ليكون زعيماً ، كان أميناً، لدرجة التصوف، لأفكاره ... كان فقط يريد أن يرى فعل منهجه " جدل الإنسان " في الواقع ، كيف يتفاعل منهج جدل الإنسان، عبر الجدل الاجتماعي، ليؤدي إلى التطور ، وكان يعتقد، أن ذلك يجب أن يتم بعيداً عن شخصه ، لأنه كان يعتقد، أن تدخله الشخصي المباشر، في قيادة الطليعة العربية، سيؤدي إلى شخصنتها ، وبالتالي إلى نتائج سلبية عميقة ... لهذا كان يردد على مسامعنا ، وعلى مسامع تلامذته جميعاً ... عندما نقول له : نحن ... يسأل : من أنتم ..؟ ..لم يكن السؤال استنكاريا، بل كان حرصا من قبلهً .. أن نعرف من نحن ... وأن نمارس تلك، النحن، كما يجب ... ثم يضيف ... عندما تعقدون مؤتمركم التأسيسي، للطليعة العربية ، وأرى أنه يستوفي الشروط ... سألتحق بكم ... أقول ذلك ...لأنني أريد، أن أكون وفياً لمبدأ ، لمدرسة، أسسها عصمت سيف الدولة .. على النقيض من كل ما عرفه التاريخ العربي المعاصر ... لقد رفض دائماً أن تبنى الطليعة العربية كتنظيم يلتف حول رمز، أو قائد ، كان يريدها، أن تنطلق ... ثم يلتحق بها ... بهدف تحريرها، منذ لحظة البداية، من لوثة الشخصنة ، فتكون مشروع أمة ... الفرد مهما كان ، وأياً كان ... يلتحق، بالمشروع النهضوي الحضاري، ويأخذ مكانه، الذي يحدد له موضوعياً، لا أكثر من ذلك، ولا أقل، والعكس غير صحيح،فالمشروع النهضوي الجماعي، لا يمكن أن يلتحق بفرد كائناً ، من كان ...، هكذا كان عصمت سيف الدولة ... وهكذا هو الآن ... وهكذا ... سيكون في المستقبل ، إنه حامل لمشروع نهضة أمة ، لمشروع أنسنة، تشمل البشرية بمواجهة كافة أشكال التوحش حيث، لا عدوان ، ولا استغلال ، ولا استبداد ، ولا عبودية ... على أية حال، أعترف، أنني مازلت أسير ذلك الوعد ، العهد ، بأن نتحول إلى شخصية اعتبارية ،جماعية،مؤسساتية، لها هويتها ، ورايتها ، ولونها ، وفاعليتها... تجيب، بدون تردد ، بدون خوف ، بدون مواربة، على السؤال : من نحن ..؟ .. عندها، وعندها فقط ، نجيب على سؤال عصمت سيف الدولة : من أنتم ..؟ دون ارتباك،وبجواب واضح، غير ملتبس ...!والآن، عود على بدء ... افترقنا بعد ذلك اللقاء الحزين،الذي لم يخطر لي، أنه سيكون وداعيا،فقد افترقنا، على أمل اللقاء القريب .. لكن الوعد، بقي، وعداً ، ولم نلتق ثانية ،فقد كان، ذلك اللقاء، هو اللقاء الأخير .. ..المهم أنني تلقيت منه، في السنة التالية 1994، الجزء الأول، من كتابه " مذكرات قرية " .. وفي السنة التالية تلقيت الجزء الثاني .. استذكرت ما جرى بيننا ... وقلت بيني، وبين نفسي مازال لديك ما تقوله يا أستاذي ، هل رأيت ...؟ تقول الساعات الأخيرة، من يوم / 30 / آذار – مارس /1996 أن الدكتور عصمت سيف الدولة، أدخل غرفة العناية الفائقة ، وعندما أحس أن الأجهزة تحيط به من كل جانب ، أمسك بيد الطبيب المعالج، وقال له مستفهماً : دكتور..، وأشار بيده الأخرى، إلى قلبه .. متسائلاً : هل هذا سيكفيني لمدة سنتين فقط...؟، أريد، أن أنهي مشروع كتابي مذكرات قرية ... لكنه ما كاد ينهي كلماته الأخيرة تلك ، حتى عادت يده تنام إلى جانبه ... وأعطى الجهاز، ذلك الخط المستقيم، الذي كف عن التعرج .. عندما سمعت الرواية تلك ، وقفت أمام ضريحه ، وخاطبته عبر دمعة لم أستطع ردعها .. لقد علمتنا، أن الإنسان لا يكف عن الجدل، حتى لحظة الوداع الأخيرة ..منذ ثلاث سنوات أردت أن تغادر ... لكن، كل يوم جديد، كان يحمل مشروعاً يستحق أن تعيش من أجله .. نعم يا عصمت سيف الدولة ... لا يملك الإنسان، أن يكف عن الجدل .. حتى، لو كان ذلك الإنسان، هو صاحب منهج " جدل الإنسان " ذاته ...! منذ سنوات كنت تريد أن تمشي .. الآن، أردت تمديدا،ً لإنجاز مشروع لم يكتمل .. فهل نكون أوفياء لإنجاز مشروع إنهاض أمتك ؟ (5 ) وإذا كان المجال، هنا، لا يتسع، للبحث في " جدل الإنسان " كمنهج، وبتطبيقاته على الواقع كما جاء في نتاج عصمت سيف الدولة الموسوعي ، فإننا نكتفي هنا، ونحن في الذكرى ال57 للثورة والذكرى الـ / 50 / للجمهورية العربية المتحدة،بالحديث عما يتعلق بتلك المناسبة التي أطلق عليها العالم (ربيع العرب)،سنكتفي بالحديث عن دولة الوحدة العربية ، الطريق إليها ، من التجزئة إلى الوحدة ، من التخلف إلى التقدم ، من التبعية إلى السيادة ، من الاستبداد إلى الحرية ... دعونا نقرأ هذه الوصية التي كتبها عصمت سيف الدولة، إلى الشباب العربي، في 5 / حزيران – يونيو / 1975 يقول : " لا تلتفتوا إلى الوراء لتروا جيلنا ، لقد ضيعنا، ثمن قرن، نتحدث، عن ضرورة التنظيم القومي، ولم نتقدم خطوة واحدة ، وانتم أقرب إليه منا ، انظروا أمامكم، وحققوا أمل أمتكم، وأداة ثورتها ، احصروا انتباهكم في سؤال واحد ، واقصروا جهودكم على الإجابة عليه ، ما هي الخطوات العملية التي يجب إنجازها لإنشاء التنظيم القومي ؟ .. بدون أن تكون جبهة ، بدون أن تنتقل إليه رواسب الشللية ، بدون أن يحدث فراغ بين ما هو كائن، وما يجب أن يكون ، بدون أن يكون تنظيم أي أحد بعينه ، أو أية مجموعة بعينها ، أو أية دولة .. ليكون تنظيم الأمة العربية .. أوصي بهذا لأنني أتمنى أن أرى البداية ، مجرد البداية ، قبل أن أموت .. ولم تعد في العمر بقية تكفي، لحسم معارك الفلسفات الكلامية ... بينما، الانحسار، الذي بدأ في 28 / أيلول – سبتمبر / 1961،كاد يصل بنا إلى قاع الهاوية ، فلينقذ الجيل العربي الجديد أمته ...بأن ينشئ أداة إنقاذها .." . ( 6 ) عود على بدء، مرة أخرى ، عود، على تلك الأيام، التي لا يتردد أحد، عن أن يسميها ( الزمن الجميل ) .. نعم الزمن الجميل، رغم كل ما شابها .. حتى هذه اللحظة، إذا أردنا، أن نختطف لحظة هدوء نفسي، نعود إلى أغنية من ذلك الزمن ، إلى قطعة موسيقية، تعبر عنه .. إذا أردنا، أن نهرب، من الهزائم ، والحرائق ، ومن مناظر، أولئك الساقطين من الحكام ، ومن مناظر أولئك المنافقين الذين يرقصون على جراحنا، خضوعاً لهم، في بهلوانيات مسّيرة .. نعود إلى ذلك الزمن الجميل ، زمن الجماهير الهادرة للثورة ، للحلم ، للحياة ، للمساواة ، للحرية ، للعدالة ، للكفاية ، للتنمية .. للإنعتاق من التبعية، والاستبداد ... دعونا نلاحظ، ونعيش تلك النشوة كما كان يراها جيلنا ، وقبله ، جيل عصمت سيف الدولة، الذي يقدم وصفاً بانورامياً، لتك الأيام، التي كانت، عيوننا فيها، تعشق، ذلك الدمع النقي فرحاً ، وحزناً ، وغضباً ، وحلماً ، وإحباطاً ... يقول عصمت سيف الدولة، وأنا، هنا، لا أعتذر، عن طول الفقرة، التي سأنقلها عنه، يقول : " لم تشهد الأمة العربية في تاريخها أروع من السنوات الخالدات 1958 – 1961، سنوات الجمهورية العربية المتحدة، التي جمعت سورية ومصر، في دولة واحدة، تحت قيادة جمال عبد الناصر ، إنها الفترة، التي كتب عنها، الوزير الفرنسي/ بنواميشان/ ( ربيع العرب ) ،معبراً عن دخول الأمة العربية مرحلة ازدهارها ، كان كل شيء يبدو رائعاً ، قيادة عملاقة تحتل المكان الأول بين الزعامات العالمية ، تلتف حولها .. وتتبع خطاها عشرات الملايين في كل مكان من الوطن العربي ، انحسار لقوى الاستعمار ... انكماش ورعب قاتل لدولة الصهاينة ، حركة بناء بالغة الجدية في دولة الوحدة ، احترام وتقدير كاملان لكل ما هو عربي، ومن هو عربي، في أي مكان من الدنيا .. الثورة في العراق تنتصر ، الثورة في الجزائر منتصرة ، بذور الثورة في اليمن تنمو ، الأسطول السادس ينزل قواته على شواطئ لبنان ، فينبري اللبنانيون للدفاع ، فلا يتقدم البحارة الأمريكيون، إلى أن يعودوا إلى سفنهم .. كان كل شيء يبدو رائعاً .. كان كل شيء يبشر بدولة العرب الواحدة ، وبعصر جديد، للإنسان العربي ، وتم كل شيء رائع، باسم القومية العربية، وبواسطة جماهيرنا العربية ، وبقيادة القوميين العرب، وتحت شعارات القومية العربية ، إلى درجة، أن جمال عبد الناصر نفسه قال عن تلك الفترة: " إن القومية العربية، هي التي خلقتني ، لست أنا، الذي أثيرها، بل هي التي تحملني ، إنها قوة هائلة، ولست إلا أداتها المنفذة ، ولو، لم أكن موجودا،ً لأوجدت غيري ، واحد ، عشرة ، ألف، يحلون محلي، إن القومية العربية، لا يمثلها رجل واحد، أو جماعة من الرجال، أنها لا تتوقف، على جمال عبد الناصر، أو على أولئك الذين يعملون معه ، إنها كامنة في ملايين العرب الذي يحمل كل منهم مشعل القومية ، إنها تيار، لا يمكن مقاومته ، ولا تستطيع أية قوة في العالم، تدميره، طالما احتفظ بثقته في نفسه .." لكن الحلم انكسر .. يقول عصمت سيف الدولة : " ... فجأة ، استطاعت قلة .. متآمرة أن تضرب دولة الوحدة ، وتفصل إقليمها الشمالي ، وشلت، المفاجأة المذهلة، الجماهير العريضة، وكل القوى القومية، والوحدوية .. وبدا الانحسار ، انحسار المد القومي ... ومع الانحسار كانت الهزائم ، ومنها هزيمة 1967، التي ثبت فيما بعد، مما نشر، من وثائق، أن الانفصال، كان جزءاً من خطتها التي أعدت، في الأصل، بعد الوحدة مباشرة .. أعدتها الولايات المتحدة الأمريكية، لينفذها عملائها من العرب، وأدواتها من الصهاينة .. لقد ظل جمال عبد الناصر، إلى آخر يوم في حياته، يعاني فكرياً، وجسمانياً، من جرح الانفصال ، ولكنه، لم يكن وحده، الذي عانى، وتعذب ، جيل كامل من الشباب العربي (حينئذ) .. تعذب، وما يزال، منذ الانفصال .. لأنه – ذلك الجيل – يرى في كل يوم – وحتى اليوم – من آثار الانفصال، ما ينكأ جروحه، ويجدد صديدها ..، وكان لابد – بالرغم من الآلام والعذاب – أن يطرح، على الشعب العربي كله، سؤال : لماذا حدث هذا .. ؟ أعني لماذا حدث، الانفصال، سهلاً ..؟!! " إنه السؤال، الذي يجيب عليه عصمت سيف الدولة، فيقول : " .. الخطأ الأساسي، كان، أن الجماهير الوحدوية، مهما بلغ عددها ، ولو بلغ الملايين، لا تستطيع، أن تنتصر ، ولو ضد قلة منظمة ، إلا إذا كانت هي – أي الجماهير- منظمة ، وأن الانفصال، قد تم سهلاً ، وانتصرت فيه القلة المتآمرة، لأن الجماهير الوحدوية، لم تكن ملتحمة، في تنظيم ، كانت القاعدة الجماهيرية تضم الملايين ، وكانت تحت قيادة عبد الناصر .. وحققت بتلك الصيغة ( الناقصة ) انتصاراتها ، ولكنها، في لحظة خاطفة، لم تستطع، أن تقاوم قلة منظمة .. فتحولت حركة مقاومة الانفصال في سورية إلى ردود أفعال جماهيرية، عفوية، غاضبة، معزولة، بعضها عن بعض .. " أما بعد ..ومرة أخرى، نقول: أن الحديث مع عصمت سيف الدولة ، وعنه، لا ينتهي، لهذا لابد من اتخاذ قرار تعسفي بإيقاف هذا الحديث عند هذه النقطة .. لكن الحديث عن المستقبل العربي ، عن استئناف مسيرة النهوض والتنوير في الوطن العربي ، لابد أن تكون له بداية ، وقد آن أوانها ،ولعلها تأخرت أكثر مما ينبغي ، فلنبدأ الحديث عن مستقبل عربي ... هو مستقبلنا، نحن ، مصيرنا، نحن ، وجودنا، نحن .. فللحديث إذن بداية .. وهي آتية،طالما أن هذا القلب قادر على النبض،أما إذا توقف عن النبض،فإن ملايين القلوب العربية ستبقى تنبض،وملايين أخرى قادمة .. فإلى اللقاء ، وكل عام، والعرب بخير، في الذكرى ال 57 لثورة ناصر والذكرى الـ50 للعربية المتحدة ، التي سنبنيها بين المحيط والخليج،بمن رحل،وبمن مازال حياً،وبمن من سيأتي في مستقبل الأيام، فمازال الحلم مشرعا،ً ومشروعاً،سيحتفل بتحقيقه من يستحق أن يرى زمنا عربيا جميلا،وكل عام وأنتم بخير.......... حـبيب عيـسىEmail:[email protected]
متعلقات
اهتمامات القراء