الرئيسية - كــتب - قراءة في ” حادية الصباح المالح ” للقاص حامد الفقيه
قراءة في ” حادية الصباح المالح ” للقاص حامد الفقيه
الساعة 03:00 صباحاً الثورة نت../

د/ صالح اليعري – ليست حياة الإنسان وتجربته في الحياة إلا مجموعة قصص متناثرة هنا أو هناك . فهناك قصة وجوده وقصة علاقاته بالآخرين … إلخ . والقاص الماهر هو ذلكم الفنان الذي يعيد إنتاجه ليرسمه بريشته الفنية بما يجب أن يكون عليه لا بما هو كائنº لأن النقل الحرفي المباشر للواقع يفقد العمل القصصي فنيته وهويته معاٍ . وقد أطلعت على مجموعة ” حادية الصباح المالح ” للقاص المبدع / حامد الفقيه ووجدت أنها نصوص قصصية تستحق أن نتوقف عندها طويلا لما امتازت به فنيا وهي تعالج القضايا المختلفة في المجتمع والقارئ لقصص المجموعة يلمح قاصاٍ متمكنا وقادراٍ على صياغة نصه القصصي بأسلوب فني رامز يتناسب مع المواضيع والقضايا التي يطرحها . فهو ينفتح على الواقع لكن يلمحه بعين الفن ويرسمه بأدوات الفنان الماهر . فالقاص حامد الفقيه في هذه المجموعة قد اهتم اهتماماٍ كبيرا بلغة النص وتراكيبه ليقدم الحدث وفق ترابط لغوي رامز يعبر عن الموضوع الذي يود طرحه بطريقة تثير التشويق والاهتمام من القارئ لمتابعة أحداث القصة . لذا أستطيع القول أن حامد الفقيه قد اختط لنفسه منهجا وسطا حيث جعل للفن قيمته وللأدب وظيفته . فلم يتعصب للفن على حساب الوظيفة النفعية للأدب كما يرى أصحاب نظرية ( الفن للفن ) ولم ينحز للنظريات القائلة بالوظيفة النفعية للفن لكنه أستطاع أن يمزج بينهما دون أن يطغى أحدهما على الآخر. فعنايته بلغة النص وتراكيبه لم تمنعه من أن يجعل قصصه تحمل رسالة إنسانية واجتماعية معاٍ . وهذا ما يمكن ملاحظته من خلال ملامسة نصوص المجموعة التي تكشف لنا بجلاء أن القاص حامد الفقيه يكتب بوعي كامل فهو يعود إلى نصوصه القصصية بين فترة وأخرى لتنقيحها وتهذيبها لأن نصوص المجموعة توحي بذلك , فهو يعرف متى ينصرف إلى الوصف ومتى يوظف الحوار وكيف يرسم الشخصيات ومتى ينهي القصة لذا فهو يستثمر خياله القصصي ليسبح في فضاء الواقع لكنه خيال لا يبعده عن الحقيقة الفنية . وثمة ملاحظة مهمة من خلال قراءتي الأولية لنصوص المجموعة تؤكد أن القاص حامد الفقيه يعطي الهموم الاجتماعية اهتماماٍ أكبر من خلال تناول القضايا الاجتماعية في تسع قصص تحل العناوين التالية : “كيس اللبان – بنت السماء – خيط البكارة الرابع – رهبة الألم – شلال القش – الوقت ليل – حجر الحجيلة – يفرحون للموتى – رصيف الانتظار ” . في حين اقتصر الجانب القومي على جزء يسير من نصوص المجموعة كما في قصة ( صوت النيل ) والجانب الإنساني يتمثل في قصة ( المسافر رقم 21 ) والهم الوطني في قصة ( صوت الملح) . وقد استطاع القاص أن يناقش في القضايا الاجتماعية ثلاث قضايا هامة : القضية الأولى ( معاناة الأيتام ) : من خلال قصتي ” كيس اللبان , ورهبة الأمل ” حين استحضر شخصية ذلكم الطفل الذي فقد أمه وهو لا يزال على مقعد الدراسة الابتدائية من خلال تقنية الاسترجاع _ فلاش باك _ الذي سمح للطفل أن يبوح بكل ذكرياته الحلوة مع أمه – الأماكن الأدوات الطعام الأحلام والطموحات – إذ يرد في قصة كيس اللبان :” يوم مجاهرتك لي بحلمك – رائحة اللبان – كنت عائدا من آخر صف ابتدائي, كنت أمط جسدي لأكبر وآتي بالحلم فسمعت غراباٍ أسود يسلمني أمر تكليفه من القدر لقبض روحك ” ــــــــ1 . ويرد في القصة أيضاٍ على لسان الأم : ” يا بني صحيح أخذني غراب البين ومازالت أسناني سليمة تقوى على لوك اللبان ولكن رأيت عودي المخضر قد عبثت به الطينة الرمادية فاذهب بالكيس واجعله بين يدي ( عيشه ونعايم ومستوره ) وكل نساء عين الماء, وزعه للمحرومات من حلم أمك ” صــــــ3 . فبفعل فقد الأم ترك حمل حقيبة المدرسة من على ظهره وحمل كيس اللبان ليعيش منه وأسرته . وكذلك الحال في قصة ( رهبة الألم ) إذ يرد في النص : ” حفظت أول دروس الألم في ليلة فزعة, سهرت ليلاي وأنا أتقلب في بدايات العقد الثاني لألم الفراق حين فقدتك من على هامة قلبي, حيث كنت ضياءه وكنت بقعة النور فيه وحينما أمحت بقعة الضوء في قلبي صارت الحياة ظلاماٍ والظلام وليد الليل المشؤوم ” . يضعه القدر في معاناة اليتم . ” … ويصبح الألم قاسياٍ بما فيه سلب طفل لعبة يومه ويجعل في يده فأساٍ يقطع أوصال اليوم في انتظار العمل … ” صـــــــ24 . في حين يستعرض القاص معاناة الأم وهي تكابد الحياة في قصة ( خيط البكارة الرابع ) من خلال مشهد إصابة وليدها بمرض الحمى فتبيع كل ما تملك لعلاجه حتى وصل بها الأمر بيع خرس أذنيها , لكن ذلك لم يشفع لها بعلاجه في مشفى خاص إذ يرد في النص : ” سند المعاينة بــألف ريال ” فترد : – لا أملك سوى 700 ريال . – اذهبي لمستشفى حكومي السند بــ 400 ريال “. لكنها تفاجأ بالإهمال واللامبالاة في المستشفيات الحكومية وفي ذلك إدانة ضمنية لثقافة بعض الأطباء الذين لا هم لهم سوى كيف يحصلون على المال لاسيما من خلال مشهد تقديم الطبيب للفتاة التي فقدت بكارتها ليضع لها الطبيب خيط بكارة جديد مقابل دفعها 1200 دولار في حين يتجاهل حالة ذلكم الطفل المريض وينهر أمه الطفل المريض قائلا : ” هذه ستدفع مقابل جراحة لا تتجاوز ربع ساعة ( 1200 دولار )صـــــــــــ23 . القضية الثانية (زواج الصغيرات واللهث وراء المال ) : ويتضح ذلك من خلال استعراض قصة ” حجر الحجيلة ” حيث استطاع القاص أن يناقش هذه القضية من خلال استحضار شخصية الطفلتين ( مها وزميلتها غناء ) اللتين لم يتجاوز عمراهما الثانية عشرة . حين يستعرض القاص مشهدا هو أقرب للفكاهة منه للحقيقة حيث توكل مها والدها ليلعب نيابة عنها لعبة الحجيلة ليهزم زميلتها فيستغلها الأب ليعقد لها برجل بلغ من الكبر عتياٍ كما يشير المشهد وللأسف يقع ذلك تحت سلطة الأب والأم معاٍ لهثاٍ وراء المال دون اعتبارات أخرى إذ يرد في القصة على لسان مها : ” – لم أرض بك ولا أريدك . هي فقط مائتا ألف ريال سأرجع إلى أبي ليعطيك إياها . – فيرد عليها ” هاه ..هي مليون يا حجة واثنين رؤ,س بقر . فتذهب إلى بيت والدها فتزجرها أمها بخوف : ” لا يعلم أبوك بالخبر ما للمرأة إلا بيت زوجها يا مها . صــــــــ23 . القضية الثالثة ( العنوسة ) : التي تأتي نتيجة حتمية لجشع بعض الآباء وطمعهم في المال , وقد استطاع القاص أن يناقش هذه القضية من خلال قصة ” شلال القش ” حين يستعرض شخصية ( ياسمين ) موظفة قطع تذاكر دخول حمامات البرك الساخنة للنساء لتبوح بتفاصيل ذلك ., إذ يرد على لسان السارد : ” تتوالى النساء القادمات إلى برك الحمام الساخنة … أجسادهن تتزاحم وسوقهن عارية إلا من طرح العباءة الخمولة على أجسادهن .. تحترق وهي ترى نفسها محرومة من ليلة يهدر فيها شلال … ” . وبينما ياسمين بطلة القصة على طاولة المكتب لفت نظرها كتيب ” مرآة الحمامة ” فأخذت تقرأ بشغف والفرحة على شفتيها وهي توحي باكتشاف أمرَ , انتظرت حتى صباح الليلة المشهورة بتدفق الشلال وتضع على باب البركتين المكون منهما الحمام لوحتين مكتوباٍ على باب الغرفة الأولى ” غرفة مرآة الحمامة ” والثانية ” غرفة الليلة السابعة “,لتكتشف الحقيقة ” لم تدخل غرفة الليلة السابعة سوى امرأتين بينما غرفة ” مرآة الحمامة ” امتلأت بالأجساد المكتنزة ” . “…….حينها عادت ملامح الابتسامة إلى وجه ياسمين لتزاحم النساء في صباح الليلة السابعة لكن على غرفة مرآة الحمامة ” صــــــ17 . ويأتي الهم القومي في قصة ” صوت النيل ” التي يحمل من خلالها القاص إدانة ضمنية لما حيك ضد السودان من تقسيم لأرضه من خلال استعراض شخصية كبير الوادي الذي كان فوق قاربه على شاطئ الوصول يرى قوس قزح تتكاثف أنفاسه مختنقة وقد مات نسيم التهيج …. ابن كبير الوادي الصغير ذو الأنف المفتوح .. أخوه الأكبر يحمل سوطاٍ وعصاٍ غليظة يريد أن يهشم الأنف المفتوح وهو يعلم أنه الذي فتحه بهذا الشكل لأخيه الأصغر وتجاهل أن الصغير يكبر. وقد حاول القاص أن يذكر الأصغر والأكبر بذلك الصوت الذي كان يتردد على مسامعهما : ” لا شمال بلا جنوب لا جنوب بلا شمال حب سودان في القلوب نحن سودان بلا انفصال ” . صـــــــــ 91ـ . ليؤكد وحدة الأرض والإنسان معاٍ … يأتي الهم الوطني في قصة ” صوت الملح ” حين يستعرض القاص ملامح الوطن من خلال ملامح أسرة ( أبو حزام) وما دار بينهما من حوارات حيث يورد السارد : ” الوطن معك … معك في لحظات غيابك … وطن تحس صوت ملحه في مجرى دمك ” صــــــــــ15 . خلاصة القول أن القاص حامد الفقيه قد أبدع في هذه المجموعة لغةٍ وأسلوباٍ وموضوعاٍ , لاسيما وأنه تخلص من عقدة البداية وادعوه للاستمرار في الإبداع والتميز كما أدعو النقاد والباحثين إلى تقديم قراءة معمقة حول إبداعه وبالأخص في الجوانب الفنية التي لا تزال غضة طرية دون تناول وقد أجاد في تلك الجوانب, فهناك مواضيع تحتاج للدراسة بشكل مفصل كالشخصية في ” حادية الصباح المالح ” وكذلك الوصف – تقنيات السرد- العتبات النصية – الصورة الفنية . وأخيراٍ هذه قراءة أولية هي بمثابة مفاتيح لقراءات معمقة مستقبلا .