الرئيسية - كــتب - رواية (الفحل) للكاتب الحسن محمد سعيد والطموح غير المتبصر
رواية (الفحل) للكاتب الحسن محمد سعيد والطموح غير المتبصر
الساعة 03:00 صباحاً الثورة نت../

( … ما عهدته كذلك كما أشعر اللحظة !! . كان صبوراٍ منفتحاٍ متسامحاٍ مرحاٍ .. أين ضاع كل ذلك الجمال النفسي ¿ أتفتيت النفوس أصبح جزءاٍ من تفتيت السودان¿!! من رواية الفحل للروائي السوداني الحسن محمد سعيد) ص “133” الصادرة عن دار عبادي صنعاء 2013م . كنت أعتقد أن الطيب صالح الروائي الوحيد الذي شكل فناٍ روائياٍ وقصصياٍ أهله لأن يوصف بعبقرية الروائية العربية عندما أصدر روايته عرس الزين وقبلئذُ مجموعته القصصية (دومة ود حامد) ثم روايته الأشهر موسم (الهجرة إلى الشمال) ذات التكنيك المغاير بمنطق ستينيات وسبعينيات ” ق 20″ . رواية موسم الهجرة إلى الشمال بشرت برواية عربية مختلفة ليس في تكنيكها وتقنياتها السردية فحسب وإنما أيضاٍ من خلال تناول ثيمتها التي تمت معالجتها بفنية مختلفة إذ إن الصراع بين الشرق والغرب مطروق في عدد من الروايات العربية التي صدرت من قبل. عالجت موسم الهجرة إلى الشمال العلاقة بين الشرق والغرب لتشمل علاقة جنوب العالم المتخلف المستِعمر بشماله المستعمر المتقدم حضارياٍ لتأتي شخصية مصطفى سعيد السودانية غازية لأوربا وفي عقر دار المستعمر لندن لكن غزوه كان جنسياٍ . فهو يتزوج جين مورس اللندنية التي عبرت عن مشاعر الاحتقار نحوه . ومع ذلك استطاع أن يتزوجها ثم يقوم بقتلها بعد مضاجعتها في بيت الزوجية . وهذا يذكرنا بما فعله عطيل المغربي القائد في جيش فينسيا في مسرحية “عطيل ” لوليم شكسبير الذي قتل زوجته ديدمونة . فالاثنان أفريقيان والاثنتان أوروبيتان . مصطفى سعيد قتل جين مورس لأنها كانت متأبية عليه وشامخة تجاهه وعطيل قتل ديدمونة لأنه تملكها جسدياٍ ويشعر في داخله بأنه لم يمتلكها روحياٍ . حين توغلت في رواية (الفحل) للروائي السوداني الحسن محمد سعيد عدت إلى الخلف فتراءت لي أجواء الطيب صالح في أعماله الروائية والقصصية . وإذا كان الطيب صالح قد عالج ثيمات كانت تشغل الإنسان العربي عامة والسوداني خصوصاٍ فإن رواية الفحل للروائي الحسن محمد سعيد اعتنت بالقضايا الاجتماعية والسياسية وأزمة الأنظمة العربية وإن وقفت عميقاٍ أمام علاقة المثقف بالسلطة ومجمل الأمور التي يمور بها السودان والتي أثرت على المواطن والمثقف الذي لم يجد من ملاذ سوى الهجرة أو الارتباط بالنظام من أجل الوصول وتحقيق الطموح الذاتي وإن خالف رؤاه . وكون المثقف لا يملك سوى الكلمة والجهر بالرأي المعارض في ظروف الفحل وصديقه والتي كانت محاصرة ومطاردة فلقد وجد الصديقان نفسيهما منبوذان فالفحل عانى من المطاردة والاختفاء وصديقه وجد نفسه مهاجراٍ في لندن ليعمل مستشاراٍ قانونياٍ في إحدى الشركات هارباٍ من معاناته أما الفحل يلوذ إلى السلطة التي حاربته نفسياٍ وجسدياٍ حتى أذعن وارتبط بالنظام الذي استغل ثقافته وتخصصه . وباختراق الفحل لمؤسسة الدولة وتوليه مناصب كبيرة وجد المجال لكي يحقق تنبؤات الكاهنة النصرانية التي ما إن رأته في يوم مضى حتى انجذبت إليه واقتربت منه لتتنبأ له بمستقبل باهر حيث سيصبح يوماٍ رئيساٍ للدولة في السودان . أبحرت بنا رواية الفحل نحو مرافئ وفضاءات عديدة وطاف بنا الكاتب إلى أجواء اعتجن فيها الحب والجنس بالسياسة وبجماليات الصورة واللحن واللون والنغم والمكان والزمان والمرأة المبهرة وبشخصيات تتعالق وتتشاكل تلتقي وتفترق لتلتقي شخصية الفحل محمد عثمان تشدك بثقافتها وبضعفها أمام الحسيات المادية ولذيذ الحياة وبانفصاميتها وثقافتها وجاذبيتها .. فهي تمتلك سجايا إنسانية لكن طموحها (غير المتبصر) يؤدي بها إلى الوقوع في الانتهازية. قال عنه صديقه الذي يقاسمه أيامه منذ دراستهما سوياٍ من الثانوية وحتى الجامعية والدراسات العليا واشتراكهما في مغامراتهما الجنسية وأحلامهما التي تلتقي وتتعارض : صديقي الفحل كان فحلاٍ وكنت أعجب من قدراته الهائلة في القراءة والكتابة وحضور الاجتماعات والندوات وحب النساء بتلك الطاقة . ولجت مرحلة مر بها السودان .. هذا البلد الذي يختزن الإمكانيات المادية الطبيعية والعلمية والثقافية والبشرية .. والأهم من كل ذلك حب المواطن لوطنه والذي كثيراٍ ما يتجلى ناصعاٍ في إبداعات شعرائه وكتابه وفنانيه وكل المبدعين المبعدين الذين سطروا أروع الكلام للتعبير عن الحب والحنين: في الأرض حيران ضائع دام كثير المواجع أرنو إليك وأغدو كالطفل في كل شارع وأرتمي فوق حزني وفوق شوك المضاجع وبيتنا يا بلادي ستارة من مدامع وصورة بلادي قد لونتها المفاجع تدور أحداث الرواية بين الخرطوم والقاهرة ولندن .. داخل الطائرة في المطارات في القطارات في الفنادق .. واتكأت على شخصيات أخصبت ثيمة الرواية . وجسدت الموقف الموالي والمعارض للسلطة وأبرزت المثقف الانتهازي والمناضل الهارب .. هذان الصديقان الأثيران إلى بعضهما رغم تناقض نظرتهما الوطنية والفكرية هذا التناقض الذي أدى بهما إلى الافتراق حين هاجر الصديق الخبير في القانون إلى لندن متخذاٍ موقف المتفرج على ما يجري داخل السودان وظل الفحل المتخصص في قضايا المجتمع واللغات في السودان مهادناٍ للنظام متمتعاٍ بمباهج الحياة التي حلم بتحقيقها كثيراٍ . يبلغ الضعف البشري عند الفحل مداه بسقوطه في مستنقع السلطة طامعاٍ في حياة أكثر بروزاٍ منساقاٍ نحو نوازعه الحسية مستغلاٍ ثقافته ومواهبه مندفعاٍ نحو طموحه الذي أوصله إلى (طموح غير متبصر) الذي يقوده إلى التهلكة ص (13) شخصية الفحل الجذابة جعلت صديقته المضيفة الإثيوبية التي تحبه إلى حد الجنون أن تنصحه بعدم الإنجرار إلى النظام لكنه يصر على تحقيق ما يريد: فتقول لصديقة ” السا ” صديقة الفحل للصديق: – ما ظننت يوماٍ أن تعلقي به سيصبح إلى هذه الدرجة . – الدنيا لا تصفو على الدوام .( 13) وذات مساءُ لندني صقيع جاء الخبر إلى الصديق لقد اختفت الطائرة التي تقل الفحل مع وفد حكومي المتجه إلى الفاشر ولا يعرف مصيرها . ص (16) وكانت النهاية المحتومة للفحل . هذه الرواية تسجل تاريخ حقبة من تاريخ السودان الحديث التي تمور بالأحداث والصراعات قبل وبعد انفصال الجنوب عن الشمال . والرواية تكتظ بالصور المليئة بالجماليات التي قلما تجدها إلا في الكتابات الناضجة وهي من الأساليب التي تحتفي بها الروايات الحديثة التي تنقلك من تقنية حديثة إلى أخرى منها هذا المنلوج الذي يعبر فيه الصديق عن انبهاره بصديقته: يا إلهي .. ما هذا الجسد الذي يكاد يتخلى عن جزئه الأعلى من كثرة التدافع الحركي الراقص .. يطفح الصدر كفيضان النيل المتدفق من المرتفعات هذا الكفل المتكور كقبة الشيخ في قريتنا . لا يمل التحدي والشموخ والاعتداد .. لعله يستدعي مريديه فيهرعوا إليه .. ومن منا لا يجنح للهرولة . إنني من المهرولين إلى هذا الجسد الأمهري .. أين هو الصبر .. يامغيث ص (73) أو هذا الديالوج الذي يوضح فيه الفحل لصديقه بأنهما متساويان في التخاذل : (شف يا صديقي نحن مثقفي السودان نوعان ما فيش ثالث .. نوع مثلي انتهازي حقير يرى مصلحته فقط ويذهب التاريخ والوطن إلى الجحيم ونوع آخر مثلك يهرب ويترك الجمل بما حمل وينجو بجلده وهذا النوع أيضاٍ يذهب معه التاريخ والوطن إلى الجحيم) . لكن السودان يظل هو الأبقى في قلب وعقل المبدع المناضل أكان في داخل السودان أو خارجه: ( ما أجمل المساء في عينيك يا مدينتي منسكباٍ في حوائط البيوت ” الفيتوري ” ) .