الرئيسية - كــتب - المتخيل والواقعي في مجموعة “حادية الصباح المالح” للقاص حامد الفقيه
المتخيل والواقعي في مجموعة “حادية الصباح المالح” للقاص حامد الفقيه
الساعة 03:00 صباحاً الثورة نت../

أحمد إسماعيل زين* – صوت الملح هو الصوت النازف بشقيه العلوي من العين (الدموع) والعام من الجسد (العرق) . وفي النص مقارنة بين حياتين . حياة واقعية . ومْتخيلة . ومجاوزة بين عالمين مْختلفين (الطفولة والشيخوخة) . والصبا والشباب . ووطنين مْتضادين . الوطن الأصلي . ووطن الاغتراب . وبيئتين بيئة مخلوطة مع الروح وأْخرى تسرقنا في غفلة مْغرية . ومكانين: مكان مْحتفى به . ويسكننا لنعيشه بكل طقوسه وآخر نسكنه لنعيش . وزمنين نتنقل فيهما بسلاسة في النص . وفي النص كمية من الأسئلة تم صياغتها بحرفية متقنة . وأبعدت عنه التقريرية المملة . وكمية من المشاعر المحسوسة المشوقة . الأسئلة : “وطن ما الذي تفعله بك هذه الكلمة¿!! وطن¿” يأخذك مباشرة من خلاله لعالمه القصصي المشوق . وللمكان ـ الغربة ـ الذي يريد سحبك لمعرفته . ولو كان السؤال بغير هذه الصيغة لكان الموضوع تقريراٍ لسؤال وجواب . ثم : “وطن … هل هي الطفولة المكسور جناحاها ¿” . لتعود تتنقل بتلقائية لنقطة البداية . “ما هي بشارتك التي تقدمها بين يدي أمك اليوم وسائر الأيام º لتطعم السبعة الذين يحتمون تحت ساعدك الغض ¿” . ولا شعورياٍ تجد نفسك واقفاٍ بالمكان المروي بالنص . وعلى السبب الذي من أجله ذهب الراوي للمكان . وتتواصل الأسئلة : “ماذا ¿ أتطالعك عيناها ¿!!. وأنت تخون , تهجر , وتقع في يد غيرها ¿. هل تراها ¿” . “وطن … تحس صوت ملحه في مجرى دمك ¿” . “أترعبك عيون (جوليا) الزرقاء¿ أم تحن لعيني (رجاء) , ولون الأرض¿. أم تفقد بفقدهما الوطن ¿” . بكمية من الأسئلة القلقة . لتظهر صراعاٍ محتدماٍ داخلياٍ مشوقاٍ للمتابعة . ودافعاٍ قوياٍ للاستمرار لمعرفة النهاية . صوت الملح . العنوان : الدموع : “وتبكيك للقمر” . “فتلك دموع أمك ” . صوت الملح . بالنص : العرق : “حتى أن عين الشمس باتت تحنو عليك بغزير القطر من جبينك” . شظف العيش لطفولة بائسة . وأهم أسباب الاغتراب “لا رائحة تنفح كرائحة أرض وطنك وهي تْسقى بعرق الظهيرة المهراق” . “وهو يشم رائحة عرقك التي تحتفظ بها أرض الوطن , ولم تغب رائحتك عن أنفه حتى طغت عليها رائحة الموت وطن … تحس صوت ملحه في مجرى دمك ¿” . الانتماء . وحبل السر المغذي بـ(صوت الملح) للحنين . “وطن … تحس صوت ملحه في مجرى دمك ¿” . “وتجفف جسدك البني بشعرها الأشقر ” . “وأنت تلمس جبينك يتعرق من (مزاج الويسكي) º فتظنه عرقك المصبوب وقت الظهيرة هنا ” . المتعة والرغبة . الشقاء والغفلة “فقدت أرض الوطن كل قطرة تنصب من جبينك الأسمر” . الحنين الجلاد للروح . أما الحياتان بالنص : فهي حياة واقعية . يدخلك الراوي معه لعالم القصة من البداية : “يناديك عبر مجراه الضيق يلهبك يستحث صوت حنينه مسمعك يرهبك نداؤه وأنت نائم ويزعجك وقت قيلولة تسترق من أجفانك غفوة تتظاهر أنك لا تبالي ولا تأبه لندائه ” . بضمير الغائب المناسب لجذب القارئ . لهذا القالب الفني للقصة . ويستمر القاص فيه بحرفية مشوقة بجعل القارئ شريكاٍ في هذه الحياة الواقعية . والأحداث المروية بالنص . من خلال التشويق الآسر . إلى أن يصل به القاص إلى محطة النهاية : “تحتضنك (رجاء) بشوق وخوف لكي لا تهرب مرة أخرى … وتذوبان في ألسنة اللهب …” . ويخرج من القصة . وهو ــ القارئ ــ لايزال متأثر بهذه الحياة . وكأنها واقعاٍ كان يعيشه كشريك للكتاب . وللشخصيات المروية فيه . أما الحياة المْتخيلة: فكانت على تقنية (الفلاش باك) . وبطريقة غير منفرة في : “هل هي الطفولة المكسور جناحاها , تحتمي تحت رحمة شجرة السدر الوارفة , بعد أن حطم خفقانها ضربات المعول ¿. حتى أن عين الشمس باتت تحنو عليك بغزير القطر من جبينك وهي توسع حدقتها علها تخيفك º فتهرع إلى حضن الراحة , لكن ما هي بشارتك التي تقدمها بين يدي أمك اليوم وسائر الأيام º لتطعم السبعة الذين يحتمون تحت ساعدك الغض ¿” . و : “ماذا ¿ أتطالعك عيناها ¿!!. وأنت تخون , تهجر , وتقع في يد غيرها¿. هل تراها ¿ هي تراقبك الآن من ثقب الزمن المسطر على نبضات انتظارها ” . لتنساب إليك المجاوزة بين العالمين المْختلفين . (الطفولة والشيخوخة) . تلقائي من خلال السرد . لكون البطل الراوي للأحداث بالنص هو إنسان وصل لمرحلة عمرية تمكنه من الذهاب عبر الذاكرة إلى مراحل عمرية . ومحطات في الحياة فقدها . ويعجز عن استرجاعها على أرض الواقع . وكذلك الحال مع الصبا والشباب . التي بدأها بتحمل المسؤولية المبكرة بطفولة بائسة : “هل هي الطفولة المكسور جناحاها , تحتمي تحت رحمة شجرة السدر الوارفة , بعد أن حطم خفقانها ضربات المعول¿. حتى أن عين الشمس باتت تحنو عليك بغزير القطر من جبينك وهي توسع حدقتها علها تخيفك º فتهرع إلى حضن الراحة , لكن ما هي بشارتك التي تقدمها بين يدي أمك اليوم وسائر الأيام º لتطعم السبعة الذين يحتمون تحت ساعدك الغض ¿” . التي أجبره اليتم على تحملها طفلاٍ . وحلم صبا عجز عن تحقيقه بسببها بالاستقرار مع حبيبته (رجاء) في وطنه . وشباب أضاعه بمحض إرادته بالتسكع في ملذات الغربة . وفي الغفلة عما كان يرجو تحقيقه بالغربة من أحلام . وهناك وطنان مْتضادان لبطل القصة في هذا النص الوطن الأصلي الذي ينتمي إليه . ويرتبط به وجدانياٍ . وروحياٍ . بقاء الحياة في جسده . ولا يستطيع التخلص منه : “يناديك عبر مجراه الضيق يلهبك يستحث صوت حنينه مسمعك يرهبك نداؤه وأنت نائم ويزعجك وقت قيلولة تسترق من أجفانك غفوة تتظاهر أنك لا تبالي ولا تأبه لندائه وطن ما الذي تفعله بك هذه الكلمة ¿!! وطن….” . “لا شيء هنا يشبه وطنك …” . “لا رائحة تنفح كرائحة أرض وطنك” . “كما اختلاس نهار وطنك من جنح الليل وغسقه” . “تطالعك بعينيها (البْنيتين) كلون تراب الوطن” . “أمك وهي ترجوك” . “أخواتك تزوجن وصار أولادهن يستظلون وقت الظهيرة تحت شجرة السدر ” . “وهو يشم رائحة عرقك التي تحتفظ بها أرض الوطن”ْ . “الوطن …. معك حتى في لحظات غيابك” . “وكفن أخيك الذي رحل … ومسبحة والدك – تطوف حول عنقك بالدعوات , والصلوات – وقطرات تتخلل حبات المسبحة حول عنقك º فتحسها ساخنة رغم الصقيع … فتلك دموع أمك ” . “لكنك ما زلت تتحدث العربية وتحتفظ ببعض (سور القرآن) التي قرأتها في المعلامة … لم تزل عيناك سوداوين ما زلت تحلم بمنقوشة الحناء , وزفاف السمر المخلوط بزغاريد الحمام البرية .” . “فارقته لكنه يعيشك كل لحظة وسيظل حتى موتك تتنفسه حتى يفارقك نِفِسْك” . “أمامك دولاب عرس أمك العتيق …. لهث أطفال القرية وهم يتلاحقون على ضوء القمر . وجني تفاح الأرض آخر الموسم … ضفائر (رجاء) … حكايات العجائز يخفنك من (أم الصبيان) ” . وهو ــ الوطن الأصلي ــ (أبو حزام) . و (أم حزام) . وكل الأشياء المشكلة للحياة . “وطن … تحس صوت ملحه في مجرى دمك ¿” . ولكنه . عجز أن يؤمن لك أحلام البقاء فيه: “الوطن لم يعترف بجهدي وتعبي وكان علي الرحيل) ” . وقام يجلدك ببقائه فيك . بالشوق والحنين . وسيل الذكريات الجارف . أما وطن الاغتراب : فهو الوطن الذي وهبك الحياة الكريمة . والتقدير . واللذة . وفي المقابل أخذ منك الجسد . وراحة البال . والأحلام . وفي المقابل يترك سؤالاٍ قاتلاٍ من الحيرة في نفس القارئ لنص (صوت الملح) : ترى أيْهما الوطن الحقيقي بينهما ¿! وفي النص بيئتين بيئة مخلوطة مع الروح . وأْخرى تسرقنا في غفلة مْغرية . ومكانين . مكان مْحتفى به . ويسكننا لنعيشه بكل طقوسه . وآخر نسكنه لنعيش . بيئة . ومكان . مخلوطة مع الروح . في القرية . والوطن الأصلي . تكمن بكل طقوسها في : “تحتمي تحت رحمة شجرة السدر الوارفة” . “(أبي حزام) جاركم .” . “(رجاء) التي ودعتك عند السقاية التي يتجمع عندها المتسوقون إلى المدينة لجلب حاجيات الشهر , والشهرين , والفصل ” . “أخواتك تزوجن وصار أولادهن يستظلون وقت الظهيرة تحت شجرة السدر ” . “لأغصان السدر المتراقصة لعين الشمس تطالعك من الفراغات ” . “في المعلامة … لم تزل عيناك سوداوين ما زلت تحلم بمنقوشة الحناء , وزفاف السمر المخلوط بزغاريد الحمام البرية ” . “لهث أطفال القرية وهم يتلاحقون على ضوء القمر . وجني تفاح الأرض آخر الموسم … ضفائر (رجاء) … حكايات العجائز يخفنك من (أم الصبيان) ” . “ومسبحة والدك – تطوف حول عنقك بالدعوات , والصلوات” . جميعها بيئة . وأماكن تجعل من القارئ للنص وكأنه يتمشى في قرية نائية . ويتعايش مع سكانها حياتهم اليومية . ومواسمهم المعتادة . وحتى ما يحكونه فيها من أساطير . وخرافات لإخافة الأطفال . وبرغم أن قالب نص القصيرة لا يحتمل كل هذه التفاصيل الدقيقة في محتواه . إلاِ أن القاص وظفها بحرفية ووعي في هذا النص . لتكون صورة طبق الأصل عن الوطن المفقود الذي يسكننا . والمخلوط بالروح . وبقاء الحياة . وجعل من القاص موفقاٍ في تصوير البيئة التي تسرقنا في غفلة مْغرية . بالاغتراب والمكان الآخر الذي نسكنه فقط لنعيش . وقد خلقت هذه المزاوجة بين البيئتين والمكانين بالنص . مقارنة آسرة للقارئ بينهما . ويجدها بصورها المختلفة . “(بين الرغبة والرهبة) . (بين العطاء والحرمان) . (بين المحبة والكراهية)” . كامنة في : “لا شيء هنا يشبه وطنك” . “لا رائحة تنفح كرائحة أرض وطنك” . “هنا كلب (جوليا) يمسح بذيله أرصفة الشارع غير مكترث” . ومقارنة حتى (بين الشخصيات) لكلا البيئتين . والمكانين : “(جوليا) لا تشبه (رجاء) . (رجاء) التي مانعت أن تعطيك أصابعها لتلعب بها . (جوليا) سلمتك كل شيء لمجرد انزمام شفتيك لتغرق في لجة بحرها الأزرق وأخيراٍ بخمول تستلقي على شاطئ زرقة عينيها وتجفف جسدك البني بشعرها الأشقر . (رجاء) جعدها الأسود يظهر من خصلاته ابتسامتها الحزينة . لكن (جوليا) تتصنع ابتسامة رشيقة تخيفك وتصطنع أنت الرد بضحكة مْرúعِبِة ” . “هناك جارتكم (أم حزام) لا تشبه (كرستينا) أبداٍ” . “أترعبك عيون (جوليا) الزرقاء ¿ أم تحن لعيني (رجاء) , ولون الأرض ¿. أم تفقد بفقدهما الوطن ¿.” . ليجد القارئ نفسه محاطاٍ بكتلة من المشاعر المتناقضة . وحيرة مؤثرة في نفسه لصعوبة الموقف . وهناك زمنان نتنقل فيهما بسلاسة في النص . زمن الذكريات المْتخيلة للطفولة . والأحبة . والقرية . ووطن الانتماء . على لسان بطل القصة (صوت الملح) . يقدمها على هيئة وقفات سردية منوعة . بالنص . وزمن اللحظة المقتنصة التي بني عليها القالب الفني لهذه القصة القصيرة . وهو خيط رفيع جداٍ بينهما ــ بين الزمنين ــ وعصي يكتشفه القارئ بعد عدة قراءات للنص في : “تتجاهل وتدعي الطفولة وقلبك كاهل يسنده عكاز رحيلك. تمشي في شوارع عاصمة الضباب , وأنت مرعوب تتلفت” . لأختم هذه النزهة في (صوت الملح) . بأن الفكرة القائمة فيه ــ في النص ــ واللحظة المقتنصة لبطله هي: لمغترب جالس أمام مدفئته في وطن الغربة يسترجع مع نفسه في لحظة يأس أزمنة . وأماكن . ومحطات يصعب عليه استرجاعها على أرض الواقع . وختاماٍ لهذه الرحلة الانطباعية الممتعة في القصة القصيرة (صوت الملح) : لا أستطيع الجزم بأنها مجرد نص لقصة قصيرة فقط . نقل من الواقع للخيال ليكون قصة قصيرة !. ولكني في نفس الوقت أملك القدرة على الجزم بأنه نص قصصي من محض الخيال . اقتنص فيه القاص / حامد الفقيه . لحظته . بحرفية وإتقان واع لما يكتبه . ولما يريد تمريره من خلاله . * قاص سعودي