الرئيسية - كــتب - الوزن والإيقاع في “تباريح وأمكنة “لحاتم علي
الوزن والإيقاع في “تباريح وأمكنة “لحاتم علي
الساعة 03:00 صباحاً الثورة نت../

هذا هو إذن “حاتم علي” الفنان والإنسان الذي نقف الآن في محراب فنه بكثير من الإجلال والزهو نحتفي بإصداره الرابع المتميز لغة وفنا ” تباريح وأمكنة ” هذا الإصدار الذي بحق يأسر القلوب والألباب.. ومن أول مصافحة له يبرق شعاعا بالمآقي يثير الدهشة والإعجاب وفي هذه القراءة التي هي صدى لمشاعر الإعجاب بهذا العمل الراقي والذي وصفه الدكتور القدير “عبد العزيز المقالح” بقوله: “..فهو يكتب شعرا خالصا لا يلتزم فيه وزنا ولا إيقاعا وما هاتان الصفتان ــــ الوزن والإيقاع ــــ إلا الإضافة أو الحلية الخارجية إلى الشعر الذي هو عاطفة ومعنى شجي مرهف” وهنا أضع بعض ما استقر في وجداني من اسقاطات حول بعض النصوص المنتقاة.. فقد تختلف القراءات للنصوص من شخص لآخر بحسب فهم وإحساس كل متلق لها ومتذوق لجمالياتها.. وقد طرح “حسن حنفي” صاحب كتاب الاستغراب الذي عرض له المفكر والناقد الكبير الدكتور “جابر عصفور” في كتابه المنشور مؤخرا في كتاب مجلة دبي الثقافية بعنوان ” النقد الأدبي والهوية الثقافية” تأصيلا لنوع القراءات التي يصفها بالذاتية.. حيث يرى أن الوجود الموضوعي للنص المقروء يختفي مع الذاتية.. ويغدو مرآة للذات القارئة.. فالنص هو موضوع المعرفة وفعل القراءة هو فعل التعرف الذي يتم في الزمان الوجودي والتاريخي من خلال الشعور وليس النص المقروء وثيقة مدونة ولا هو حقيقة موضوعية مستقلة أو حضور تاريخي معين إنه صورة بلا مضمون روح حائم بلا جسد.. والقراءة هي التي تعطي لهذا النص مضمونه وجسده.. وليس الحقيقة في قراءة النص من منظور هذا الفهم هي تطابق المعنى مع الواقع بل تطابق المعنى مع التجربة البشرية وتجسيد هذا التطابق للشعور الفردي للقارئ فكل قراءة إعادة بناء للمقروء وخلق جديد له في شعور القارئ ويعني ذلك أن النص ليس له ثوابت فهو مجموعة من المتغيرات يتحول حسب النفسية للقارئ الواحد .. ومن منطلق هذه الذاتية نقتطف من حديقة “حاتم” بعض أزهاره الفواحة بعطر المعاني العذاب لنقف على مدى قدرة الكاتب في اختيار مفرداته بكثير من التكثيف والتميز الذي يضفى على المعنى عمقا وجمالا آسرا. إن حاتماٍ وهو يكتب نصوصه يغمس يراعه من طهر الفجر وشدو المحبة وهو يقتنص لحظة النقاء والصفاء.. ليغزل من درر اللغة ومفرداتها البديعة سيمفونية حالمة كل مفردة فيها تجول معابر الفضاء تغتسل من نور الشمس قبل أن يلتقطها ويعرضها نسيجا حريرا يلامس شغف الروح التواقة لمتعة الحروف الموغلة في الجدة المنزهة عن بلادة القول ورتابة المعنى.. أقرأه هنا يقول تحت مفردة ” وفا ء” ” العنصر المفقود في قاموس واقع اليوم.. فهناك إنذار بانقراض مثل هذه القيمة ربما هناك من يؤمن بعمق المسار.. فالوفاء لغة نادرة في زمن اختلف فيه من يجوبون الحياة بتفسير مقوماتها ليضل الشاهد أن مثل هذه القيم هي التي لا تذهب جفاء “. وانظر كذلك عمق المعنى في هذه المفردة المسماة “وجـــع” وكيف غارت في أعماق الروح ثم طفت كأصداف البحر العائمة تكشف حقيقة قيمة الحياة.. لذةٍ وألماٍ نشوة وذبولا.. يقول مبدع المعنى: ” استمر في تأوهاته طويلا لم يستطع طمر وجعه الذي دخل حياته فهناك أسبابا شتى لذلك.. وأخيرا أحس بان وجعه جزءا من ملذات القادم وشكلا من أشكال الحياة “ ثم دعونا نقترب أكثر من سبر أغوار المعاني في مفردة هي الأجل والأسمى في نشوة الحب الأنقى.. حين يخاطب طيف الأنثى.. فما أجمله وهو يغزل من عطر المحبة بساطا أخضرا مطرزا من وهج الروح يناجي في عمق غزلياته العاشقة وجه حواء (الأم) أجمل كيان في الحياة.. كيف لا وهي مبتدأ الوجود ومرساه.. يقول: ” عندما تشع خيوط الفجر تكونين أنت أول من يشكل تلك الخيوط تهجرين النوم وترفلين محلقة نحو الثقة تمازحينها في رواق الكون تنهلين من الوفاء عطر الأحلام وهجوع التأمل فيسطع الضياء مرتلا فرادة الألحان عذوبةٍ وحناناٍ “. ثم يقول: ” أمي العزيزة أنت قاعدة الاستثناء في هذا الوجود لا نرتاب بوجودك ولا يدخل الخوف في تكوينات معيشتنا لا نقنط أبدا فنثب بثقة في حيزنا المكاني نستهل أطوار آمالنا.. بنجوة العطاء والحب أنت من صنعها وبذر بذرتها قيما من الجمال.. وسياجا من الطهر.. تسلكين نمط الارتواء وطعم اللوعة وأشياء الشوق.. “ظمآن أنا بمعزل من محياك وندى قلبك وفجرك الندي فانزعي الأشجان من فمي ولا تبارحي المكان فمهلا كي أقطف من حضورك روائح عمري”. وعند حاتم كرجل كما عند غيره توجد ومضة إشراق أخرى للأنثى تتمثل في طيف الحبيبة شريكة الحياة أولا والصديقة المنحدرة من روح الإخاء المتشحة بوشاح الطهر والنقاء ثانيا.. فعند الأولى يشدو حبا ويقول: “هناك بعيدا كانت ترتل أجمل العبرات بدأتها برسالة حميمية توغلت في خبايا عمره المحفوف بذكرى طلتها وظهورها” وكانت رسالته تحمل واقعا جديدا استهلها بقوله: “عندما يأتي المساء أخالك نسمة تعرشين في خبايا النفس وتنهلين من حنايا الروح قدرا كافيا من الحب.. لك أسمى مودتي من مساء العاشقين ولك كل الإخلاص والمودة والنقاء.. بل لك كل ذلك و أكثر ..” وفي الصورة الأخرى يهرول بحثا عن مساحة صفاء منشودة في بهو العلاقات الإنسانية الراكدة ليحيلها واحة عطر وهالات ضياء.. يؤطر لعلاقة سامية يفر الكثيرون من ملامستها إما خوفا أو كبرياء.. وفي كلتا الحالتين يسكن الأخر قصور الفكر وضمور الرؤية الذي يحاول كاتبنا تجاوزهما بكثير من الصدق والنقاء.. وهناك إهداءات كثيرة لشخصيات أنثوية راقية وأخرى ذكورية لها بصمة في مسيرتنا الثقافية أو الفنية أو السياسية أو حتى الإنسانية وهنا يكتب “حاتم عن شخصية إذاعية مرموقة هي الإذاعية القديرة ” سامية العنسي ” قائلا: “من نافذة العطاء تهادت في شهقة البوح وفي محيا ذلك التحدي قهرته ليسبل عيونه أمامها لتعلن بعد ذلك انتصارها على ترويض المستحيل.. البهاء ينصت إليها.. يحط نجمته في غائرة العيون وفي وهج الصبح.. لقد كنت تلك الأغنية الرائعة في تقاسيم حياتنا يْمحي بعبورك الأثيري أدران علقت في حياتنا لتزيلها إطلالتك وتطفئ لظى الروح وبؤس حاضر أيامنا.” أما صورة الأنثى الحبيبة.. وعشق تفاصيلها المنهمرة في الروح أنغاما سحرية فقد عبر عنها الكاتب في صور قصص قصيرة مثيرة يتلون بها واقع حياتنا المتعطش لقطرات الندى.. وهمسات الروح الحالمة.. والتي تطمرها عواصف الحياة الصاخبة من حولنا.. نجد ذلك في قصته الرائعة الشجية: “وفاء.. وأساور من لون الشمس”.. وكذلك في نصوص مثل: ” فِول حْبِكِ أِنى شئúتِ ثنائي الحسرة والألم الآمال المكسورة في حنايا العمر ولم تبارح المكان… ألخ ” تلك النصوص البديعة. وفي مسار آخر للحب والطهر يتقد حنانا وبراءة.. يخاطب “حاتم” أجمل حب تتوشح به أرق الكائنات وأنقاها..إنهما ابنتاه (أسمهان وإسلام) يكتب عن أسمهان فيقول: ” العشب الآخر نما في تماوج حسك.. وفي ذرى اشتعالات وجد وفائك تمتدين إلي بطهرك وبهذا تستقيم مناجاتي ونستهل معا أولى صفحات العطاء ليكتمل ضياء العمر.. ونقهر وجع الأيــــــام”. وعن إسلام يشدو فيقول: “عندما يسأل الآتون عن عمق خلاصة الوفاء وعن دلالة تساؤلهم تظل “إسلام” النهر المتدفق للطفولة ترفل محلقة تعتلي الزهور لترسم بطيفها الحاني بسمة الغد فالجميع يدرك مرادفة اسمها فهي أكثر من النقاء وأجمل من الحب وأسمى من الجمال وأعشق من العشق وأبهى من الروعة وألتع من الشوق لا بل هي كل ذلك وأعمق وأكثر” وللوطن لدى “حاتم” مساحة من العشق والبوح السحري في أكثر من نص.. وهو لم ينس في تجليات روحه المفعمة بالأمل في إشراقه المستقبل أن يشير إلى حدث الساعة الذي يعم الكون.. يغازل الحرية ويطوي كهوف الطغيان.. إنها ثورة الساحات المسكونة بمفردات التحرر والانعتاق من ربقة الخوف القابع في الإحساس المتموج ألوانا من الفوضى والبؤس.. يقول في نص بعنوان (خيام): ” قريبا سيسأل عن عمره وعن اسمه¿ وأين يسكن¿ نعم فقد تشكل لون الغد وولدت الحرية من مخاضها العسير..” ويقول أيضا: ” وأبى الجميع أن يكون مشروعهم متكئا تتقد عليها الإحباطات والتخرصات ليدرك بعد ذلك أنه لا تحول البتة عن مسار البناء والعمل “هكذا تتعدد أغراض “حاتم” وموضوعاته الأدبية.. ولو أردنا أن نعرج على كل مفردة في الكتاب لتطلب الأمر كتبا أخرى.. ولكن بقي أن أشير إلى موضوع أسرني وبعث الغبطة في نفسي ربما لكونه قريب من مجالي دراساتي وتخصصي في مجال التاريخ إنه الإسقاط الفني على بعض الشخصيات التاريخية المشهورة.. وانتقي لكم أجمل مفردة التقطها “حاتم” من بين صفحات التاريخ الأكثر عطرا ونورا وتتهادى شموخا وسموا.. إنه الشخصية العبقرية التي احتوتها موسوعة العقاد بكثير من الزهو والبهاء.. الخليفة الراشد “عمر بن الخطاب” تلك الشجرة الباسقة من الأخلاق العامرة بالنبل المشرقة في ضبابية الكون كما يصفه الكاتب ويقول عنه أيضا: ” كقطعة من تسامح عشت بعيدا عن الغل والحقد.. وكثورة للفقراء شققت بأنفاسك رهبة الطغاة.. فأبو ” لؤلؤة ” تفرخ في زمننا وأضحى يرتب لسرد تفاصيل قتلك.. فيمعن في الجرم وسط تلك الحفاوة..” ويقول أيضا: ” بعدك لا جذوة للحب تعلو المكان.. ولا قدر من الحرية تحف الأبدان.. فبعدك استمالت الأعواد المائلة لتصنع من اللا إحسان إحسانا فأزف الرحيل وطمرت أوطاننا الأحزان..” وقد تغنى بمناقب الفاروق شعراء وكتاب كثيرون.. ومما أعشقه في هذا المقام قصيدة الشاعر الكبير (حافظ إبراهيم) المسماة “العمرية” والذي يستهلها بقوله: حسب القوافي وحسبي حين ألقيها أني إلى ساحة الفاروق أهديها .. إلى أن يقول: وراع صاحب (كسرى) أن رأى عمرا بين الرعية عطلا وهو راعيها وعهــــده بملـــوك الفــرس أن لها سورا من الجند والأحراس تحميها رآه مستغرقا في نومه فرأى فيه الجلالة في أسمى معانيها . وقال مقولة حق أصبحت مثلا وأصبح الجيل ببعد الجيل يرويها أمنت لما أقمت العدل بينهم فنمـت نـوم قـرير العـــين هانيهــا. وأخيرا أهنئ الأستاذ “حاتم” الأديب المبدع والكاتب المرهف الحس بهذا العمل الفريد لغة وأسلوبا.. مشاعرا وعاطفة ضمت الجميع في حب وأمل بعيون ترنو إلى الأجمل والأرقى في مسيرة الحياة الإنسانية التي لا تصفو ينابيعها إلا بتدفق نهر الحب والعطاء وترسيخ القيم النبيلة وهو ما يؤطر له لهذا الكتاب بكثير من البهاء والصدق

*أستاذة التاريخ الحديث والمعاصر جامعة صنعاء كلية التربية ــــــ أرحب 2012-6-28م