الرئيسية - كــتب - رواية (الثائر) وجوه الماضي في مرايا الحاضر
رواية (الثائر) وجوه الماضي في مرايا الحاضر
الساعة 03:00 صباحاً الثورة نت../

خلال سنوات قليلة تمكن الروائي اليمني محمد الغربي عمران من إصدار روايات ثلاث: (مصحف أحمر) 2010م (ظلمة يائيل) 2012م ثم روايته الجديدة (الثائر). وإذا كانت الروايات الثلاث تلتقي جميعها في استقراء الماضي البعيد أو الماضي القريب ثم إخضاع تاريخيه للتحليل والكشف وربما الفضح أحياناº خصوصا عبر فوهات الصراع الديني والسياسي إلا أن هذه الرواية كانت أكثر قسوة وأشد هتكا للستر السياسي إلى درجة تكاد تصدم توقعات الكثيرين وقناعاتهم حول ما اعتبر لزمن طويل إحدى أهم (الثوابت الوطنية) وتحديدا الثورة اليمنية 26 سبتمبر 1962م مع وجود تماس لها مع ثورة 14 أكتوبر 1963م وصولا إلى أحداث حصار السبعين في شمال اليمن والزوابع التي سبقت جلاء الاحتلال عن جنوب اليمن. بل إن الرواية كانت طويلة المدى في رؤيتها وهي تربط بخيط فضي ومقارنة غير معلنة بين أحداث الستينيات والأحداث التي شهدتها عدد من الدول العربية في الأعوام الثلاثة الأخيرة خصوصا في اليمن . وإذا كان المقدس يتعرض للمس وأحيانا محاولات الهدم في روايات الغربي إلا أنه كان أخف وطأ في (الثائر) مقارنة بما ناله المقدس وطنيا كما يعتقده الكثير حتى أن العنوان الجديد يبدو مختلفا عن العنوانين في روايته السابقتين واللذين يثيران تساؤلات وربما حساسيات لدى المتدينين بسبب جرأتهما : (مصحف أحمر) (ظلمة يائيل) إلا أن المقدس ظل معرضا للفحات متفرقة في هذه الرواية بصور متباينة خصوصا حين يكون الجنس وسيلة لذلك باستثناء المسجد الذي ظل في معظم فصول الرواية ملجأ روحيا يحتمي به البطل كثيرا. كان الكاتب في هذه الرواية قد عدل عن عنوان سابق صارخ ومستفز (ثورة الشواذ) ثم (شذوذ ثورة) وصولا إلى العنوان الجديد لكن المضمون لم يتغير. تنطلق الرواية وفق رؤية تهدف إلى خلخلة القناعات أو على الأقل طرحها للمناقشة والانطلاق نحو التحرر من مسلمات وقيود يستكين لها الناس دون أن يحاولوا الخروج عنها وهذا تماما ما احتواه فصل (نافع). فحين نقل الملثم إلى ذلك السجن البعيد الواقع في أعلى قمم الجبال رأى مباني بيضاء متقاربة محاطة بجدار أبيض ((يمتد بعيداٍ بعيداٍ شرقاٍ وغرباٍ في كل اتجاه حتى لكأنه يحيط البلاد بجبالها وأوديتها))(1) لكن هذا السجن لم يكن محكم الحماية تماما فقد كان فيه منفذ واسع مفتوحاٍ على واد منبسط وأشجار وسيول كان ينزل إليها المسجونون كل يوم جمعة ليغتسلوا ويغسلوا ملابسهم ثم يعودوا بإرادتهم ليقبعوا داخل محبسهم لم يكونوا يفكرون باقتناص الفرصة للهروب بدلا من أن يقضوا أعمارهم مكبلين بالقيود كانوا مقتنعين أشد القناعة بما يخبرهم به حراس السجن من أن هناك جنا يسمعون كل كلمة من كلماتهم ويرصدون كل حركة من حركاته لينقلوها إلى الإمام ويخوفونهم من أن هناك من حاول الهروب فكان مصيره الإعدام إن قبض عليه أو أن يصبح طعاما للوحوش إن امتد به السير قليلا. لكن الملثم لم يقتنع بما اقتنع به غيره فقد حاول الهروب لأول مرة وفشل وأعيد إلى السجن لكنه نجح في التحرر منه في محاولته الثانية. ومع أن الجميع كانوا يعيشون في سجن وعزلة عما حولهم يوجب عليهم أن يفكروا في البحث عن خلاص لهم من واقعهم المر ومصيرهم المظلم إلا أن هناك صراعا ظل مستمرا في السجن بين أناس قرروا أن يضيئوا النيران والمشاعل في الظلام ليستأنسوا بالنور ويخيفوا الوحوش التي كانت تتسلل أحيانا فتفترس بعضهم غير أنه في مقابل هؤلاء المستنيرين كانت هناك طائفة تصعد على صخرة مرتفعة في السجن لتقرأ التلاوات والأدعية لتقرر لاحقا عدم التعايش مع المخالفين لها فهجمت عليهم وقضت على عدد كبير منهم قتلا وحرقا. وهذه الرمزية في الرواية جاءت ضمن ترميز أوسع شمل فبطل الرواية الذي عرف بـ(الملثم) أو (شيزان)ثم (قمر) كان طوال الرواية يبحث عن أمه التي تركت منزلها هربا بأطفالها في غياب ابنها الأكبر بعد أن قام الشيخ وأتباعه بقتل زوجها وإحراق المنزل وتدميره . لذلك ظل الفتى يبحث في كل مكان عن أمه التي ليست سوى رمز للأم الكبرى (اليمن). تنقل الملثم بين عدد من المدن والقرى وحتى الصحاري دون أن يجد أمه انتقل بعدها من صنعاء إلى تعز وصولا إلى عدن بعد أن حكى له رفيقه (العظمي) حكاية امرأة وابنتها اعتقد الملثم بقوة أن تلك هي أمه وشقيقته وحين وصل لم يجد أمه التي يبحث عنها فهي لم تكن في صنعاء التي بحث في أسواقها ومساجدها وبيوتها ولم تكن أمه موجودة أيضا في عدن التي بحث عنها هناك حتى في دكاكين الدعارة ومخابئ الثوار. كانت من يعتقد أنها أمه قد تخلت عن ابنتها المتخلفة عقليا وأوكلت أمرها إلى إحدى المسنات في مدينة عدن كانت شقيقته قد أصبحت إحدى فتيات البغاء هناك أما أمه فقد أصبحت رمزا نضاليا بعد التحاقها بإحدى حركات المقاومة ضد الإنجليز إلى جانب أنها واحدة من النساء اللاتي التحقن بسوق المتعة. والربط هنا بين الانحراف والمقاومة في عدن هو نظير ما عايشه الملثم في صنعاء من شذوذ في قصور الإمامة عند بقية أفراد الحكم التابعين لها وهو ما رآه أيضا من شذوذ لدى عدد من رجال سبتمبر. ويحتار القارئ في توصيف رؤية الكاتبº أهو نقد لأخطاء ثورات الستينيات أم نسف لها ¿!علاوة على أن كلا الافتراضين يمضي بنيران مرتدة صوب المستقبل باتجاه حراك ثوري معاصر اختلفت وجهات النظر كثيرا حوله. وهذا الربط ليس حدسا º فالإشارات الروائية التي يتم التقاطها في صيرورة الرواية تتوالى لتربط بين أحداث قديمة وأحداث جديدة فالملثم بعد أن انتقم من عدد من طغاة العهد الإمامي وطغاة عهد الثورة وقضى عليهم قتلا أو هكذا خيل إليه وبعد أن انخرط في الدفاع عن الثورة من الهجوم الملكي الإمامي وانتظر يوم إعلان الانتصار وتكريم الأبطال من قبل رئيس الجمهورية فوجئ بأن من سعى للخلاص منهم هم من يتصدرون منصة البطولة والتكريم وهم من يمنحون الأوسمة والنياشين وألقاب البطولة يتقدمهم الضابط العجوز (علوس) وحين جاء دوره ليلقي كلمته فاجأ الجميع مثلما فوجئ هو قائلا: ((أعترف بأنني لست بطلاٍ ولا أستحق التكريم ولا أوسمتكم. قد يعرف بعضكم معنى ما أقوله. لكن اسمحوا لي أن أعترف لكم بأنني مجرد قاتل.. نعم قاتل استبدِت بي شهوة الانتقام.. قتلت عدداٍ ممن يقفون اليوم على منصة التشريف إيمانا مني بأنهم سبب بلاء الثورة. واليوم يوصفون بقيادات الثورة. ذلك الضابط الجالس على مقعده المتحرك علوس.. والجلاد حامل السوط الذي يقف إلى يمينه.. وشاوش الحبس.. وقتلت سيدنا صاحب أكبر عمامة بينكم.. وشيخ البلاد من أنهيت له بصره.والدويدار وآه من الديدوار. ترونهم وترون غيرهم على المنصةواسمحوا لي أن أعبر عن حيرتي أن أسألكم: كيف يعيش الأموات بيننا ¿! هل ما أراه وهما أم أن ما أعيشه وهم ¿!))(2). كان يعرف هذه الوجوه جميعها غير أن وجه أمه هو من أوشك على التلاشي وسط هذا الزحامأنكر هيئتها ولم يعرفها: ((امرأة عجوز وحولها عدة أولاد.. نسي كل ما حوله اقترب منها وقف الجميع يتابعون ما يدور رفع ذراعه الوحيدة يتلمس وجهها وقد أمسكت بكفه تهامسه: – يا قمر قْميرة. تلعثم وعقله يسافر بعيداٍ إلى طفولته الأولى..))(3) . وخلال انتقالات الرواية بين الحاضر والماضي تعددت الأماكن وتشعبت الأحداث لنرى عددا من القصص المختلفة التي تنتشر في جنبات الرواية : حكاية الملثم – حكاية وردة والسمسرة – حكاية العظمي – حكاية شاعر الثورة – حكاية المرأة المسن في عدن– حكاية الفتاة في دار سعد– حكاية الصحراء ……… وهي حكايات ربما أحدثت بعض الترهل في الرواية لكن قدرة الكاتب عملت على شد كثير من ملامح الرواية وتماسكها ولعل هذه إحدى نقاط القوة في الروايةفعلى الرغم من هذا التعدد والتشعب في الأحداث º إلا أن حبكة أتقنها الكاتب ربطت هذه الأحداث في تواز وتسلسل تكامل في تصاعد الأحداث وتآزرها فلا تكاد تجد قصة لا وظيفة سردية لها ويتصل بذلك تطور عنصر الوصف لدى الكاتب فوصف الأماكن وحتى الشخصيات – رغم أنك تلمح نوعا من الاستغراق في الوصف – لم يعد مجرد ولع بالوصف من أجل الوصف دون رؤية فنية وهدف يتوخاهما الكاتب قصدا لا تعسفا بل كان له ما يبرره فنيا. ولعل هذا من أهم الملاحظات التي يمكن رصدها في المسيرة الروائية للغربي عمران. في المقابل يمكن الإشارة إلى عدد من الملاحظات لعل أهمها أنه ظل أسير تخصصه في التاريخ دون أن يستطيع الفكاك منه كثيرا كما أن تأثير روايتيه السابقتين ظل شاخصا في روايته الجديدة إضافة إلى تأثيرات ماثلة استقاها من رواية ((الرهينة)) نلحظها في سرد الملثم لحياته فترة من الزمن داخل قصر أحد الأئمة وحكايات صاحبه (الدويدار) وربما كان ذلك تداعيا مقصودا. كما نلحظ أن الغرائبية كانت ماثلة في الرواية وتحديدا في سرد حكاية كائنات الريح في الصحراء وهذه الغرائبية حفلت بها قصص الغربي عمران أكثر مما حفلت بها رواياته. وهذه الملاحظات وسواها يمكن أن يتسع لها موضوع قادم يرصد أهم التحولات في المسيرة الروائية لروائي يمني استطاع أن يوالي خطواته السردية بجرأة وثقة جعلت أعماله تتجاوز محيطها اليمني إلى المحيط الأوسع عربيا وقد تمتد إلى ما وراء ذلك خصوصا بعد روايته الجديدة (الثائر).

1 – الثائر محمد الغربي عمران مركز عبادي للدراسات والنشر ونادي القصة إل مقه – صنعاء الطبعة الأولى 2014م ص 192 . 2 – الثائر 397 . 3 – الثائر 397 .