الرئيسية - كــتب - بنساعود في ظلال ذابلة
بنساعود في ظلال ذابلة
الساعة 03:00 صباحاً الثورة نت../

إلى روح أبي..إلى نساء بصمنني.. الغالية أمي… إلخ ما صدره القاص المغربي علي بنساعود في إهدائه.. أن يضع بين أبيه وأمه “نساء بصمنه” بهذا المزج الذي استهله يقود القارئ إلى التأمل. خاصة وقد تعودنا عند ذكر الوالدين أن يذكر الوالدان مترادفين ..ما أردت قوله أن تركيب الإهداء وتراتبيته جاءت بشكل مغاير باختلاف هذا المبدع في نصوص مجموعته. لن يكون غريبا إذا ما أبحر القارئ في نصوص بنساعود ظلال ذابلة. بفكرة المغايرة لنصوص تختلف في استيعابها عما سواها. وبعد قراءة نصوص المجموعة الصادرة في الرباط عن دار الآمان 2013 .. والتي تضم ما يقارب المائة والعشرين قصة قصيرة جدا.نجد أنها توحي لنا بأمور عدة .. وقد يختلف تأثير ذلك الإيحاء من قارئ إلى آخر… وسأتحدث في مقاربتي هذه عما لفت انتباهي.. الأمر الأول العنوان..والأمر الثاني الإيحاء. 1- العنوان: فمن خلاله يجد القارئ أن جميع نصوص المجموعة قد حملت عناوين من مفردة واحدة.. عدى ثمانية نصوص تكونت عناوينها من مفردتين.. ونص واحد حذف عنوانه ليأتي بدون عنوان. وبالعودة إلى الصفحة الرابعة نجد الكاتب قد أسترشد بمقولة لفيكتور هوغو تقول” لا تكثر الإيضاح فتفسد روعة الفن” وقد نفذ الكاتب ما قاله هوغو .. بل أنه أختصر ليستعير معظم مفردات تلك العناوين من نفس نصوصها.. وإذا جاءت عناوين تلك النصوص من مفردة واحدة فقد جاءت تلك النصوص من عدة كلمات لم تتجاوز بعضها الخمس كلمات. وكأنه يقول لنا لا يجدر بالقاص أن يأتي بنص مكثف جدا ولا يعمل التكثيف على عنوانه. وكما هو الجدل قائم حول توصيف النص السردي القصير جدا بالقصة القصيرة جدا.. بينما الرواية تصنف بمفردة وتعرف بالرواية . وكان الأحرى أن توصف القصيرة جدا بمفردة واحدة بدلا من ثلاث مفردات ..والرواية بأكثر من مفردة. وعودة إلى العناوين المفردة.سيلاحظ القارئ بأن بعضها جاءت مكملة للنص.. ولا يفهم النص أو يكتمل إلا إذا عاد القارئ لدمج العنوان بالنص .. بمعنى أن نقرأ النص بشكل يبدأ بأول كلمة وينتهي بالعنوان.. ما يسمى بالنص المور.. ليضيء ما يوحي به النص من معانُ ودلالات. ونستعرض بعض تلك النصوص التي جاءت عناوينها مكملة لما يريد الكاتب قوله”انتظرت طويلا ..حان دوري…لم أجدن,منذ إذ أبحث عني…” أن يعني السارد بتحيان دوره!.وأين كان ينتظر طويلا¿ هل هي طوابير التوظيف.. أم طوابير الحصول على تأشيرة للهجرة إلى بلاد بعيدة.. أم طوابير الحاجة إلى أبسط مقومات الحياة. هو نص لم يتجاوز العشر كلمات.. لكنه يحمل همومنا ..وإذا عدنا إلى العنوان”بحث” سنجده وقد جاء ليضيء بتكرار المفردة في الجملة الأخيرة من النص.. ليلعب العنوان دورا إيجابيا في إشراك القارئ على رسم لوحة من عدة ألوان لطريق متشعبة في حياة مجتمعاتنا التي تعاني من الفساد والمحسوبية . نص ثان”يتمدد الصقيع… أفتح علبة الكبريت..أوقد الفراش…. أرتمي حتى مطلع الرماد…” وعنوان هذا النص “اشتعال” والعودة بعد قراءة النص إلى العنوان هنا ضرورة .. فاشتعال قد يعني رغبة .. شبق.. وقد يذهب بالقارئ إلى دلالات متعددة تختلف من قارئ إلى آخر.. إذ أن العنوان جاء كجزء مكمل وهام لنص يقود القارئ إلى الغوص في معاني الكلمات ودلالاتها. هنا متاهة الكاتب جاءت كي يصنع لعبته الخاصة التي استطاع من خلالها أن يصنع شكل جديد. عنوان ثالث”وصية” ومن خلال هذا العنوان يلج القارئ إلى النص “وهو يحتضر أوصاهم أن يرأفوا بها”لا أريدها أن تشرب من كأس سقتني منها!!”” كأس .. سقتني منها.. أن يرأفوا بها.. لمن موجه الخطاب¿ هل لأبنائه¿ أم للمحققين في جريمة اقترفتها أنثى¿ الكأس هل هي مجازية.. ولا يعني إلى أنها سقته هم وغم حياة مشتركة.. أم كأسا مسمومة¿ والوصية عادة ما يكتبها الشخص قبل وفاته .. أو أثناء احتضاره..وهنا جاءت شفوية. لكنه العنوان جاء كجزء معبر هن كل النص .. وقد استعاره الكاتب من إحدى مفردات النص. ليضيء لنا أكثر من معنى. نص أخير “توجعت … ملأت الدنيا صراخا,ابتهجت,نامت نومتها الأخيرة” كنت أتمنى لو أن الكاتب عنون هذا النص”مخاض” بدلا من “نومتها” لكن اختياره جاء ضمن استخدامه لتقنية العنوان الجزء من النص وملفوظه كما هو في النص بعيدا عن المرادفات .. نص في عدة كلمات يقدم لنا مشهدا مسرحيا مكتمل الأركان أو مقطعاٍ سينمائياٍ ضاجاٍ بالألم .. والفرحة بمولود جديد.. وبالعويل لأنها فارقت الحياة.. هو بالفعل عنوان “نومتها”يقودنا كقراء إلى تدوير النص.. الذي جاءت تلك المفردة قبل المفردة الأخيرة من النص كما هي طريقة الكاتب في إخراج نصوصه المدورة.

1- الإيحاءات: وما تحمله جل تلك النصوص من تعدد إيحائي فاعل .. أي أن القارئ يقف عند الجملة الأخيرة من النص ليعيد قراءته قراءة تأملية.ليكتشف أنه وفي كل قراءة يجد أن تلك المفردات القليلة قد تحمل أكثر من معنى.. وكأن النص مكعب لكل وجه لونه الدال على غير ألوان بقية أوجهه. وبالعودة إلى بعض النصوص سنجد ذلك التكثيف وتلك الإيحاءات ومنها”مال إليها اندلقت أخرى كانت تملؤه” ويمكننا أن نصل من خلال ست كلمات هي كل هذا النص الذي يحتمل أكثر من ستة احتمالات وفقا لإيحاءاته.. مال إليها وليس عليها.. وإليها تفيد بالتجاور الأفقي وعليها تفيد بالتجاور الرأسي الذي يؤدي لاندلاق السائل من أعلى إلى أسفل.. ولم يندلق هو بل اندلقت أخرى.. والأخرى تحمل أكثر من إيحاء ودلالة.. قد يكون هو كائن ذا جنس ملتبس أو جنس حائر “خنثى”مزدوج التكوين.. وقد يكون ذا ميول شاذة.. وقد يكون ذكرا يستوعب أكثر من علاقة.. وقد تكون تلك الأنثى الممتلئ بها جزءاٍ من تكوينه أو كائناٍ آخر يسكن قلبه….الخ ولذلك يجد القارئ نفسه شريكا في قراءة هذا النص وتقليبه على عدة أوجه. وهي احتمالات تدعو القارئ للتجريب في فهم النص لأكثر من معنى. نص آخر” اشتهاها..وهو يرتقي إليها اهتز فر ع الشجرة..التقطها عابر سبيل” وبالعودة إلى مفردات النص الشحيحة : اشتهاها.. من ذلك الذي اشتهاها¿ وهل هي فاكهة أم امرأة¿ ثم عابر سبيل يلتقطها.. هل عابر السبيل التقطها أم أصطحبها¿ وإن كان أصطحبها هل هي بائعة حب¿ لا فرق بين المرأة والفكهة.. ولا بين المرأة والسياسية..ولا بين الثمرة والسياسي.. هي لعبة والنص الذي يقودنا إلى دلالات من خلال ما يحمله من معان متعددة.قد يقودنا إلى معنى أشمل . “غربت الشمس.. أزهر زمهرير ضار.. عصف برماد الذاكرة.أجج جمرها..فإذا هي حية تسعى…” وهذا النص من النصوص العميقة.. والأكثر دعوة لإعمال العقل.. وهو مثل نصوص عديدة داخل المجموعة يدعو القارئ إلى استحضار ثقافته لفهم ما يرمي إليه النص.. من خلاله تحضر حواء وتلك الحية والثمرة المحرمة..وخروج أدم من الجنة. ليختلط المعنى وتتمازج الحية بالمرأة ..كترميز قادم من الماضي البعيد.. هو نص يحمل إيحاءات باطنية تقدم الظاهر للقارئ لتتبرعم دلالات غاية في الروعة. “وهو متمترس خلف آخر الحصون,بدا له السقوط وشيكا. أستبق..التحق بالطابور حكواتيا. يسرد أمجاده” نص يقرب إلى القارئ ألى ما تعيشه المجتمعات العربية من خراب وهزائم نحسبها انتصارات..وهذه حالة ساستنا.. أوجزها بنساعود.. ليأتي النص بأكثر من مشهد.. يقدمه النص.. مشهد للمثقف المتصنع المبتذل.. مشهد للسياسي الفاسد والفاشل.. مشهد لحروب الطواحين.. ومشهد للأكاديمي الذي يصدر جعجعة يملأ بها الرؤوس وهما.ومشهد لما سميت بثورات الربيع أو الخريف العربي. هو نص يدعو القارئ إلى الاشتراك في إعادة ترتيب الدلائل للوصول إلى المعنى.. استعراض هزائمنا التي نصورها انتصارات زيفا وإدعاء. هو بن سعود يطبق مقولة نتيشة”اطمح أن أقول في عشر جمل ما يقوله آخر في كتاب كامل” المقولة التي استشهد بها في أولى صفحات مجموعته. ولم يكتف بنساعود بما ذكرنا بل قدم نصوصا تحمل أبعاداٍ فلسفية عميقة ومنها”ذاق الموت..أستطعمه..التهم الطبق كاملا..وقف يتفرج على الأغبياء.. ينشبون مخالبهم في أذرع الحياة” ونص آخر” كاد يكفر..صباحا جفف وجهه,ارتدى عاهة مستديمة..خرج يستقطر العواطف..مساء, خلع عاهته.. لم يجد ما يرمم به وجهه” وهنا أقول إن تلك النصوص الفريدة بما تقدمه من كشف لأغوار انسانيتنا وذلك الصراع بين الخير والشر.. المجموعة تضج بنصوص حية بالعاطفة.. نصوص تقدم الكائن البشري عصفوراٍ على غصن يغرد من أجل اللذة.. ونصوص أخرى تسخر من مشاعرنا ومن تلك الوحشية التي يحملها الفرد ويشقى. صخب الرغبة.. هذه المجموعة تصطخب بين يدي وأحسبها مجتمعاٍ من المتع والحب.. مجتمع لا يعيش حالما بل يمارس واقع الحياة بحب ورغبة جامحة. وأبطال تلك النصوص دون ملامح .. لكنني أشعر بهم وهم يعيشون لحظاتهم وكأنها آخر اللحظات. بنساعود في نصوصه يدعونا لنعيش الحياة ولا نكتفي بالوقوف على ضفاف التمني والأحلام.