الرئيسية - كــتب - ابن عباس … وجولة كنتاكي
ابن عباس … وجولة كنتاكي
الساعة 03:00 صباحاً الثورة نت../

في روايته الأخيرة حرص الروائي عبدالله عباس الإرياني على الترميز منذ الصفحة الأولى فيها فقد أورد ستة أسماء هم أصدقاء خيمة الحياة وأولئك هم : حلمي ورزمي وفتحي ونوري ونظمي وفهمي ألا ترى أنها أسماء تحمل في أصلها الاشتقاقي أو الصرفي : الحْلم والرمز والفتح والنور والنظم والفهم¿ وقد أسكنهم الكاتب خيمة الحياة هذه الدلالة توحي بالحلم الذي كان يراود الشباب حين خرجوا في طلب الحرية والحياة الكريمةº وقد خرجوا زرافات وأفراداٍ مختارين لكن كيف تحولت الحرية إلى النقيض ¿ يقول الكاتب “المقيمون في الساحة º كلهم ـ في الأيام الأولى ـ مخيرون وفي الميدان مسيرون” ويقصد بالميدان السبعين لكنه حين تركها دون ذكر المكان يصح أن يكون الفرد في الساحة أيضاٍ مسيِراٍ حين احتوت جموع الشباب أيادي المصالح الحزبية والقبلية والطائفية لم تستطع يد الحلم أن تصل إلى مبتغاها يقول الكاتب صـ10 ” أياديهم فوق بعضها ويد حلمي معلقة في الهواء كأن شيئاٍ يمنعها أن تكون فوق أياديهم ” هذه اليد التي ظلت معلقة هي يد الشباب التي ابتغت التغيير الحقيقي والدولة المدنية فلم تستقر تلك اليد على إحدى المصالح الضيقة ولذلك لم يتحقق إسقاط النظام بشكله الهرمي الكامل فالمرأة التي تمسك بذراع مكبر الصوت تنتمي إلى تلك الجوقة التي تسعى لمصالح ضيقة يقول الكاتب في الصفحة 11 “امرأة شابة على المنصة تمسك بذراع مكبر الصوت وحولها على المنصة شباب وصبايا º منقبات وغير منقبات . والواقفة على المنصة واثقة من نفسها غير منقبة… ما لفت نظر حلمي : ميدالية على صدرها في وسطها قرص يشع الإشعاع الذي أوجع صدره …” ولعل القارئ الكريم قد فهم دلالة ذلك القرص الذي يشع ويوجع الصدور لم يشر الكاتب إلى وجع الرؤوس لأن الشمس تقع على الرؤوس ووقوعها على الرأس جانب حسي يْزال بزوال المؤثر لكن الكاتب أراد أن يكون الأثر معنوي يتوجع به الصدر لأن الأثر المعنوي لا يزول بزوال المؤثر . في الصفحات 37 38 39 عاد الكاتب بقارئه الكريم إلى نضال الشعب اليمني في ثوراته السابقة من خلال محاضرة عبد المعطي أحد شخصيات الرواية والذي كان رهينة ولعته القات إذ أشار إلى ثورة 1948م ورجالاتها من الشباب الدستوريين الذين كانوا نخبة اليمن وكيف قطعت رؤوسهم دون أن يقف الشعب معهم¿ كذلك 1955م تكررت العملية فيها أما في ثورة 1962م فقد أعاد نجاحها إلى تدخل القوات المصرية لكنه يأخذ عليها بأنها أطلقت القبائل من القمم ويأتي بمعادلة اجتماعية حقيقية وهي : ” إذا قويت الدولة ضعفت القبيلة وإذا ضعفت الدولة قويت القبيلة ” . تحدث الكاتب عن الوحدة اليمنية بين نظامين º مشيراٍ إلى أن سلطة القبائل في الدولة هي التي أجهزت عليها من خلال سوء التعامل مع إخواننا في الجنوب دون أن يظهر ذلك جلياٍ للناس مستشهداٍ بمقولة تردد في بلاد الكاتب ” أضرب لكن إلى الداخل دون أن تظهر عليه جراح ” أو ” دقِه للداخل ” ربما كان التعامل مع النظام في الجنوب كذلك . أشار الكاتب أيضاٍ ـ من خلال مداخلات الجمهور بعد المحاضرة ـ إلى أن مشايخ القبائل تدعم الساحة وتريد اسقاط النظام لكن المحاضر رد على أمل المتحدثة أن تلك المشايخ هي جزء من النظام والساحة والشباب خرجوا من أجل اسقاطهم لكن القرص المؤلم للصدر جعلهم نظاماٍ وثواراٍ في آن واحد مما أدى إلى إفراغ الثورة الشعبية العارمة من مضمونها . عمد الكاتب إلى توضيح المفارقات في حياة ثورة 2011م أو بالأصح أزمة 2011م من خلال شخصيات الرواية تحت العناوين أم حلمي المتعلمة التي قرأت مبكراٍ حقيقة تلك الأزمة بقولها لابنها في صفحة 57 : “سيعتصم الشباب ويقتلون وهم سيسرقونها ” ثابت أخو فتحي أم نوري نظمي نوري هذه الشخصيات التي تقف خلفهم شخصيات كبيرة في النظام يحركونهم عن طريق أسرهم تستنتح من قراءة أحاديثهم مع أهلهم أن خروجهم للساحة كان إرادياٍ في بدايته ثم تحول ذلك الخروج إلى إرادة مشايخية غير معلنة من خلال آبائهم المرافقين للشيخ وكذلك الخروج إلى السبعين أيضاٍ . في الصفحات 83 ـ 94 المعنونة بـ (جمعة الكرامة) يكشف الكاتب بجرأة شديدة عن لعبة الموت مع الثوار من خلال تشفير الأسماء الدالة على أطراف اللعبة يقول الكاتب على لسان عمر” خنق جبلا نقم وعيبان طموح وحدتنا وأخشى أن يتكرر المشهد على ساحتكم” والكاتب لا يقصد بالجبلين نفسهما لكنهما رمزان لرأسين كبيرين في البلاد وفي مواضع أخرى سماهما بالأول والآخر في الصفحات التي تتحدث عن جمعة الكرامة يلخص الكاتب مأساة الربيع العربي فسوسن الثائرة هي ابنة أحد أقطاب النظام من قامت الثورة لإسقاطه ورددت “الشعب يريد إسقاط النظام ” هذا الشعار الذي أضحى أضحوكة في الوسط الاجتماعي العربي إذ سرد خطيب الجمعة فضل “الشمس ” التي لولاها ما كان التغيير في الكون فالفصول الأربعة لم نتمتع بروعتها إلا بسبب تداول الليل والنهار الذي أحدثته الشمس الخطيب يقصد الشمس التي أوجعت صدر الثائر والمصلون يعنون شمس السماء يقول الخطيب في الصفحة 89 : ” وخانوا الشمس نعم خنا الشمس منحتنا التغيير … التغيير أمانة لم نحترمها ونثور على من منحتهم الشمس مقاليد شأننا ” إنها إشارة إلى شراكة الشمس بمنح الحاكم صكوك الحكم ثم نكث العهد ومن صوره ما أوجزته الثائرة سوسن لحبيبها حلمي برسالة حملتها إليه سلوى رفيقتهما في الساحة والتي تضمنت قولها : ” عزيزي حلمي : آن لك أن تعرف اسم أبي وهو غني عن التعريف … اسمه فايد … لا يعجبني اسمه يذكرني (بالفيد)” ومحمول اسم فايد يذهب بتفكيرنا إلى عدد من رموز الفيد في النظام وهم أغنيا عن التعريف لدى المواطن المنهوب . يفيض الكاتب بالترميز لأطراف النزاع وللتغيير حتى يصل إلى بؤرة الرواية وخلاصتها ـ في نظري ـ إذ يقول ص91 : ” إذا عبروا جولة كنتاكي أسقطوا النظام ” وهذه المساحة هي التي كانت متاحة للتوسع والمتفق عليه بين الأول والآخر يكشف ذلك الحوار الذي دار في نفس الصفحة بين الثوار وحماة الثورة ومنه : ـ دعونا نمضي إذا لم يسقط النظام اليوم فمتى سيسقط¿… لن يسقط إلا اليوم ! ـ الأمر الآخر أن تعودوا من حيث أتيتم! ـ لماذا¿ ـ لا ندري ! ـ وإذا مضينا ¿ ـ حصدتكم الرشاشات المنصوبة على المصفحات والمدرعات . ـ أتيتم لحمايتنا أم لحصدنا ¿ … ـ لم تأتوا لحمايتنا إذن ! هذا الحوار في الرواية يوجز سر عدم نجاح ثورة الشباب السلمية التي أراد لها القائمون عليها أن توأد في المهد والتي ما كانت لتنجح لأن من قامت ضدهم تحولوا إلى قادة لها تشير بعض عبارات الرواية إلى ذلك صراحة مثل ” الآخر انظم إلى ثورة الشباب … وجنوده جاءوا لحمايتنا ردونا … فهل كان علي أن أثور على الأول الآخر أولاٍ” ص92. تومض بعض عبارات الرواية إلى تحول بعض قادة الجيوش ـ أثناء الثورة وبعدها ـ إلى مرافقين عند الشيخ فقد ورد على لسان شخصية ” لم يعد هناك فرق إذا رجعت إلى حضن الثاني الآخر وأبي المرافق كلاهما وجهان لعملة واحدة ” يختم الروائي صفحات جمعة الكرامة بالقول : ” كأن الساحة ستقسم صنعاء بين الأول والآخر . في الصفحات 111ـ 126 يرصد الكاتب حالة الساحة حين انضم إليها نافذون من النظام وباركتهم طائفة من مرتادي الساحة مرحبين بهم بقولهم : ” حيابهم … حيابهم … حيابهم ” لعل هذا الشعار (الترحاب) ـ في نظر الكاتب وبعض القوى الثورية ـ كان بداية نكبة ساحة التغيير إذ بدأت الساحة عقب ذلك تتحول من ساحة للجميع إلى ساحة يسيطر عليها قطيع الشمس التي أوجعت صدر حلمي ولم ينسِ الكاتب الإشارة إلى حمران العيون الذين استغلوا الساحتين : ساحة التغيير وميدان التحرير في إشارة إلى انقسام الشعب بين ساحتين وكل فريق استفاد من ساحته وعكس صورة من صور الولاء الفردي للأشخاص وليس للوطن وكيف نظر بعض فاسدي النظام ساحة التغيير وسيلة لتبرئته من فساده وكيف كان لكبار الفاسدين ناطقون بأسمائهم يتحدثون عنهم في الساحة إلى المعتصمين تقول الرواية في الصفحة 125 : ” أمرني حامد حميد أبوعيون أن أحضر إلى هنا برسالة مفادها : سندعمكم مادمتم … وعيننا على ساحتكم مادمتم … انتهت الرسالة إلا أنها كافية شافية لكي تفهموا وتستوعبوا … وستلاحظون المعنى من الرسالة بعد أن تعودوا إلى خيامكم … أكتفي والسلام عليكم ” ولم يكتف المتحدث باسم حامد حميد بذلك بل لقد قال: ـ في حديث آخر موجها للساحة ـ ” اطمئنوا الثورة في الساحة ثورتكم وخارجها حقنا ” لكن لم تقف الساحة مكتوفة الأيدي فقد ردت عليه أم الشهيد نوري بالقول : ” هربنا منكم إلى الساحة ولحقتوا بعدنا … أين نذهب منكم ¿ أين نولي ¿ نهبتوا ما فوقها وما تحتها… كان أتركوا لنا الساحة” . في صفحات الرواية 127 ـ 148 يعود الكاتب إلى خيمة الحياة وما يدور فيها من أحاديث بين الشباب ومندوبي المتنفذين ومنهم مندوب حامد حميد وظل الشباب يتذكرون قول المندوب ” اطمئنوا الثورة في الساحة ثورتكم وخارجها حقنا ” هذه العبارة كانت صاعقة على آذان الشباب في الساحات ولعلها ترجمت فيما بعد إلى واقع عملي ولم يكن للشباب غير الميدان الذي قْتلوا فيه واستقبلوا الرصاص التي كان مصدرها أيضاٍ من أرادوا أن تكون الثورة خارج الساحة لهم في العناوين الفرعية التي وردت في الرواية مثل : المنطقة المحايدة الرهان الآخر ركزت الرواية فيها على الشرخ الذي حصل داخل البيوت بين الأهل بسبب الولاء للأشخاص من أجل مصالح فردية وشخصية وغياب الوطن في كل تلك الجوقة والجدل الذي كان قائماٍ بين الناس وذويهم وكذلك انقسام العاصمة بين الأطراف المتصارعة لكن الكاتب يؤكد في الرواية إن الانقسام في المواقف والعاصمة أيضاٍ كانت توظف لصالح الطرفين المتصارعين ضمن سيناريو محدد منه أن تكون جولة كنتاكي هي الخط الأحمر الذي ما كان للثورة تجاوزه وإن حاولت تجاوزه فالموت لمن يحاول ذلك من قبل الطرفين حماة الثورة وأعدائها . “جيناك … جيناك … ياجولة كنتاكي ” هذا الشعار كان قد تردد بين المتظاهرين حين أطلوا على ذلك المكان الفاصل بين نجاح الثورة وفشلها وهذا الإحساس كان سائداٍ بين الجماهير لكن الكاتب قد عالج صورة المكان عند الطرفين إذ قال في ص230 ” إذا عبروا الجولة سقط النظام …. ردهم عنها قبل أن ينظم ووضع لهم خطاٍ أحمراٍ قرب جولة كنتاكي بعد أن انظم لم ينظم حباٍ في الساحة بل كرها للأول القدرة الفائقة على تغيير الجلد أذكياء لكنهم مختلفون وأذكياء لكنهم محاصرون ” حين عمد الكاتب إلى وضع تاريخ 18/9/ 2011م إنما أراد أن يضع هنا أوزار الثورة ونهايتها بعدم تجاوز الخط الأحمر ومن يقرأ الرواية سيجد مصلح واقفاٍ على الخط الأحمر لا يستطيع أن يتجاوزه وكأنه خط حدود بين دولتين بمعنى آخر أنه خط بين النصر والهزيمة وفي هذه النقطة قْتلِ حلمي وهو (الحلم) الذي أشرنا إليه في بداية الموضوع في الأصل الاشتقاقي لأسماء رفقة خيمة الحياة وقد لخصت ذلك الرسالة الموجهة إلى حلمي التي نصها ” عزيزي حلمي : انتهى المعتصمون بخيامهم المنصوبة على جولة كنتاكي لم يزحفوا حتى تكون جولة النصر… المنتظرون للنهاية نهاية الحرب الدائرة في شارع هائل والحصبة … ونحن في مدينة حدِة بمأمن من القصف ولسنا بمأمن من شبح الحرب والانفجارات تسمم أرواحنا والحاجة تلفنا بخيوط كادت أن تخنقنا : الكهرباء ساعة أو ساعتين في اليوم … أو بدون . طوابير طويلة على محطات البترول : مسافة وزمن والزمن قد يمتد إلى يومين أو أكثر ” . هكذا يصور الكاتب الحدث من خارجه وتستنطق الأشياء بما لا يتوقع القارئ قد يسجل حدثاٍ حصل على أرض الواقع لكنه يْعطيه صورة مغايرة يمليه عليه الكاتب المختبئ في أعماقه أو يستشرف المستقبل في لمحة إبداعية تكشف عن ما يخبئه المستقبل.