الرئيسية - دنيا الإعلام - دراسة لعادل الجوجري :50عاما على الجمهورية العربية المتحدة
دراسة لعادل الجوجري :50عاما على الجمهورية العربية المتحدة
الساعة 12:00 صباحاً عادل الجوجري

الذكري الخمسين للوحدة المصرية السورية " 1958-1961"ربما تكون عند البعض  مناسبة لاجترار ذكريات عن ماض مجيد أو استدعاء في الذاكرة لمشاهد متوهجة في التاريخ العربي بكل ما حملته من تناقض بين ألق ثوري وحدوي ومرارة الردة والانفصال  ،لكننا نعدها مناسبة ل أمام العقل العربي لكي يعيد تقييم ماجرى بحثا عن الثوابت والمتغيرات،سعيا لتبني خطاب وحدوي جديد ومعاصر،مستفيدا من تجارب مناطق أو دول أخرى خاضت تجارب وحدوية ناجحة أو في الحد الأدنى تضامن سياسي وتكامل اقتصادي وتواصل ثقافي يرسم للأجيال أفقا،و يعطي الشعب أملا في إمكانية تجاوز الأزمة المركبة التي يعانيها الإنسان العربي، وهي أزمة الاستعمار والاستبداد والاستغلال و التجزئة،لاسيما وأن مرتكزات الحل القومي للأزمة لا تزال قائمة وهي –كما حددها الزعيم العربي جمال عبد الناصر –الحرية والاشتراكية والوحدة.
وتهتم هذه الدراسة برصد وتحليل التجربة الوحدوية في أميركا اللاتينية الجديدة والمعروفة باسم" البديل البوليفاري" أو " الألبا" والتي تجمع حاليا خمسة دول هي فنزويلا وكوبا وبوليفيا ونيكارجوا والدومنيكان،لكنها مرشحة لضم دول أخرى من بينها الاكوادور وهاييتي.
وبطبيعة الحال فإن السؤال الذي يفرض نفسه هنا هو :لماذا أميركا اللاتينية؟
واقع الحال أن هناك سمات مشتركة بين الوطن العربي وأميركا اللاتينية تحفز الباحث على قراءة التجارب المنبثقة من بيئة سياسية وتاريخية قريبة أن تكن متماثلة على النحو التالي:
1-لقد عانت أميركا اللاتينية والوطن العربي  من هجمات  استعمارية على امتداد خمسة قرون ،متشابهة إلى حد بعيد في التكوين وإن اختلفت الأسماء واللغات ،هجمات قديمة وجديدة، استيطانية ونهبوية ،أوروبية ثم اميركية، وصهيونية تغلفها أحقاد دينية ،ويعاني المواطن العربي واللاتيني أيضا من انتهاك يومي لحقوق المواطن السياسية والقانونية والعقيدية،ويرتبط بذلك استغلال بشع للثروات على يد أقلية إقطاعية أو طفيلية عقارية أو بيروقراطية تمارس كافة ألوان الفساد ،وتكرس ثقافة استهلاكية،وترتبط بالدوائر الرأسمالية العالمية،في ظل نظرة قطرية ضيقة ،تتسم بقدر من الأنانية في التعاطي مع ما وهبه الله للأمة من ثروات نفطية ،وترهن الثروة لإرادة غير عربية ،أو غير لاتينية.
ويتماثل الواقع العربي كثيرا مع ما تشهده القارة اللاتينية،التي عانت أيضا- ولا تزال- من ثالوث النهب الاستعماري والتفاوت الطبقي والتجزئة.
يتساءل المفكر الأمريكي اللاتيني البارز "ألفارو فارجوس للوزا"  كيف يمكن لقارة ذات ثروات طائلة أن تظل أسيرة التخلف والقعود؟ كيف يمكن لقارة أن يظل نصف سكانها تحت خط الفقر، على الرغم من امتلاكها لثروات بشرية وطبيعية ضخمة: نفط في المكسيك والأرجنتين وفنزويلا وإكوادور؛ أراض خصبة في الأرجنتين وأوروجواي؛ أملاح معدنية في شيلي وبيرو؛ مهاجرون من جميع أطياف المعمورة، من أسبانيا والصين واليابان والعالم العربي؟كيف يمكن للاستبداد أن يأكل حريات المواطنين من دون أن ينتفضوا في اتجاه التغيير؟
2-لقد جاءت الإجابة على يد زعيم شاب يعتز بالتجربة العربية  الناصرية، وقد تعلم منها الكثير –على حد قوله-لاسيما في بعدها القومي الوحدوي المناهض لمشروع الهيمنة  الغربية عبر التقسيم،هو الرئيس الفنزويلي هوجو  شافيز الذي يفاخر بكونه " ناصريا"،وفيه سمات شخصية وموضوعية تتلاقى مع الزعيم ناصر إن لجهة كونه ضابطا سابقا في الجيش قاد ثورة أو انقلابا عسكريا أو لجهة منهجه المنحاز للفقراء والمهمشين ومعاداته للظاهرة الاستعمارية بكل صورها ، وقد  كتب الأحرف الأولى مع معلمه المناضل فيدل كاسترو لأول اتفاقية تكامل وحدوية  غير اندماجية ،وهي التي زرعت نطفة أمل في رحم  سماء العالم الثالث عندما انطلقت مبادرة لاتينية جديدة وعملية لوحدة القارة ضد الهيمنة الاميركية والاستغلال ومناطق التجارة الحرة،هذه المبادرة الوحدوية حملت اسم " البديل البوليفاري" أو الألبا، وهي ملخص كلمات أسبانية تعني "الفجر".
3- أن البديل البوليفاري أو الحل اللاتيني يشتمل على ملامح عديدة من النضال القومي العربي سواء فكرة " الإقليم القاعدة" الذي تنطلق منه مسيرة العمل الوحدوي"وهي فنزويلا" أو توظيف الامكانات المتنوعة من أجل التكامل الواقعي أو تطوير الفكر اليساري من خلال إبداع لاتيني يمزج بين الاشتراكية والديمقراطية،ويستند إلى التراث الثقافي للأمة غير منقطع التواصل مع المتغيرات الحديثة ،وإذا كانت وحدة مصر وسوريا هي الوحدة الاندماجية الأولى بين القطرين منذ موقعة حطين التي جسدت التعاضد السياسي والعسكري على يد صلاح الدين الأيوبي ،فإن البديل البوليفاري هو التحرك الواقعي والعملي من أجل تكامل سياسي اقتصادي في القارة منذ الغزو الأسباني،أي منذ 500 سنة،فقد كانت بلادها جد بعيدة ومنفصلة إحداها عن الأخرى.
الثورة البيضاء..
واشتراكية القرن 21
ماذا يجري في الحديقة الخلفية للولايات المتحدة؟لقد وصف المفكر الاميركي ناعوم تشومسكي ما يجري في القارة اللاتينية ب" الثورة البيضاء" حيث تجري تحولات جذرية ويسارية لم تطلق فيها رصاصة واحدة ،وهو أمر غير معهود في قارة عرفت بظاهرة الانقلابات الدموية، وفي مايو 2006 اختارت مجلة "تايم "الاميركية الرئيس الفنزويلي هوجو شافيز كأحد أكثر 100 شخصية مؤثرة في العالم ،وكتبت تحت صورته عبارة"الاشتراكيون يطبقون الديمقراطية ،ودعاة الديمقراطية يغرقون في وحل الاستبداد !!"وأشارت إلى نمط جديد من الديمقراطية الاشتراكية يطبق حاليا في عدد من الدول في  أميركا اللاتينية،ديمقراطية أقل ما توصف بأنها حالة تمرد على الضعف والتبعية التي اتسمت بها في العقود السابقة،حتى أنها كان يطلق عليها (جمهوريات الموز ) كدليل على الضعف والتبعية لأمريكا وسيطرة العصابات على القرار السياسي،إلا أن تلك الجمهوريات التي فاز في انتخاباتها عدد من القادة في كلا من فنزويلا والبرازيل والأرجنتين وبوليفيا ونيكارجوا والإكوادور وشيلي في انتخابات حرة نزيهة، وكلهم من القادة اليساريين استطاعت أن تعطى العالم دروسا هامة في الديمقراطية وشفافية الانتخابات الحرة النزيهة ،في حين غرق اليمين الاميركي المحافظ في أفغانستان والعراق ولم يلتفت إلى مايجري في الحديقة الخلفية للولايات المتحدة من تحولات تاريخية.
وعلى قاعدة شعبية لاسيما في صفوف الفقراء من الشباب والنساء وجه القادة اليساريون انتقادات عنيفة للإدارة الاميركية، ويكيلون الاتهامات له يصفونه بالنازي، بل أن شافيز انتقد بوش قائلا ( إن هتلر طفل رضيع أمام بوش ) وقام بسحب سفير بلاده من تل أبيب احتجاجا على العدوان الذي تمارسه العصابات الصهيونية ضد الشعب العربي في فلسطين ولبنان.
ومنذ اللحظة الأولى التي أعقبت إعلان فوز الرئيس الفنزويلي هوجو شافيز بفترة رئاسية ثانية بعد انتخابات شرسة ضد منافسه الليبرالي بنسبة كبيرة من الأصوات وفي انتخابات حظيت برقابة دولية واستند شافيز في دعايته وفي برنامجه الانتخابيين على فكرة الاشتراكية الجديدة ذات المنحى الديمقراطي من جهة، وذات المنطق المتوازن في إدارة الاقتصاد،وقد وصفها" باشتراكية القرن 21 "
حيث الإبداع في إيجاد مزيج فكري يجمع بين الحفاظ على التوجه العام لمصلحة الفقراء مع أساليب برجماتية لمنع الوقوع في الدوجماطيقية والجمود العقائدي، وسنجد هنا حرص شافيزعلى تأميم المشروعات النفطية والكهرباء والصناعات الكبرى مع إتاحة أوسع فرصة ممكنة أمام القطاع الخاص والتعاوني للنشاط وإكمال مالا يستطيع القطاع العام أن ينفذه.
وهذا ما طرحه أيضا ايفوموراليس بعد ما فاز بمنصب رئيس جمهورية بوليفيا، إثر انتخابات شعبية، حصل الزعيم البوليفي الشاب بنتيجتها على أكثرية ملفتة، فقد أعلن برنامجه المتدرج لتأميم قطاع الغاز في بلاده ، بعد نجاحه في فرض شروطه على شركات النفط العالمية المستثمرة للغاز الطبيعي.
وفي البرازيل يتجلى بعد هام لاشتراكية القرن 21 عبر عنه الرئيس لويس لولا دا سيلفا الذي أعيد انتخابه لولاية ثانية أطلق عليها اسم التنمية ، مؤكدا انه سيستغل ولايته الثانية لدعم التنمية والتعليم المجاني ومحاسبة المتورطين في الفساد، وأشار إلى انه دعا إلى حوار موسع مع المعارضة حول أجندة للنهوض بالطبقات المهمشة ومحدودي الدخل.
وقد تكون ميشيل باتشيليه عضوة مخضرمة في الحزب الاشتراكي التشيلي، لكنها وعدت بعد حفل تنصيبها كأول رئيسة في تشيلي بالمحافظة على سياسات السوق الحرة التي جعلت من بلادها مقصدا للمستثمرين الأجانب في المنطقة ويقول ادواردو جمارا الخبير في شؤون أميركا اللاتينية بجامعة فلوريدا الدولية" أن هذه الدول يحكمها رؤساء يساريون بالفعل ، لكنها قطعت شوطا طويلا على طريق الديمقراطية والإصلاح الاقتصادي، " وبعد فوز رافاييل كوريا في الإكوادور هنأه سفير أميركا رغم معارضته تجديد اتفاقية التجارة الحرة، وتصريحه بأنه لن يسعى لتجديدها عندما تنتهي عام 2009 لأنها تضر بمصالح الفلاحين وأصحاب المشاريع الصغيرة ،ووعد بإغلاق القاعدة العسكرية الأميركية واتخاذ خطوات لإعادة الإكوادور إلى عضوية منظمة الدول المصدرة للبترول "أوبك"، واتي خرجت منها عام 1992.
كوريا قال انه سيعمق العلاقة مع الزعماء اليساريين الذين يحكمون بعض الدول اللاتينية ، لكنه أكد على انه لن يقلد أي تجربة، وأوضح " شافيز صديقي المقرب لكن داخل منزلي الكلمة الأخيرة لي، وليست لصديقي". ويصف كوريا نفسه بأنه يساري مسيحي وليس ماركسيا.
يقول ويليام ليوجراندي وهو خبير في الشؤون اللاتينية ويترأس كلية العلاقات الدولية في الجامعة الأميركية في واشنطن:" الكثير من هذه الحكومات المنتخبة تحترم فيدل كاسترو ،لكنها تجد أن النمط الكوبي لم يعد مناسبا ،حتى شافيز كان متدرجا في تأميم ممتلكات شركات النفط الأجنبية التي تعمل في فنزويلا ".
أما كاسترو فقد اعترف بأن أميركا اللاتينية تتغير، وهو قال ذلك في صدد الفخر بفوز موراليس في بوليفيا ، أن أميركا اللاتينية تتغير، وكان  يقصد أنه حان زمن الحصاد الاشتراكي بعد سنوات عجاف ، وعلى كل حال أميركا اللاتينية تتغير في اتجاه اليسار وهذه خسارة سياسية لواشنطن تضاف إلى خسائرها العسكرية في العراق ، فالخسائر كما المصائب لاتأتي فرادى.
ثلاثة مناهج اقتصادية
ونستطيع أن نميز الآن  بين ثلاثة مناهج فكرية –وبالتالي ثلاثة تكتلات- متباينة في القارة اللاتينية: 1-تكتل الدول التي عقدت اتفاقيات تجارة حرة مع الولايات المتحدة، ومن ثم جازفت بمستقبلها، وباحتمال خضوعها لعلاقة راديكالية غير متكافئة مع أكبر قوى الإمبريالية في العالم، وتلك الدول هي (المكسيك وشيلي وكولومبيا وبيرو).
-تكتل  الدول التي تفضل بالفعل التكامل الإقليمي، ولكنها تختار نموذج الاقتصاد الحر من بين غيره من الاختيارات، وتسعى للانعتاق من شرور النيوليبرالية في اقرب وقت ،وهى: (البرازيل، الأرجنتين، أوروجواي).
 
3-هناك الجبهة الجديدة،البديل البوليفاري، وهى تلك الدول التي اختارت الابتعاد تماماً عن كل هذا وهى (فنزويلا وكوبا وبوليفيا ونيكارجوا  وإكوادور). ومركز تلك الجبهة في ميركوسول (السوق الجنوبية المشتركة لأمريكا اللاتينية)، وهى تساهم بالفعل في خلق عالم متعدد الأقطاب وفي القضاء على الهيمنة الأمريكية أحادية القطب.
 
الليبرالية المتوحشة
واقع الحال أن التحول اللاتيني من الاقتصاد الحر والارتباط بالمركز الرأسمالي العالمي في واشنطن في اتجاه سيطرة الدولة على هياكل الإنتاج الرئيسية،ومصادر الثروة النفطية والمعدنية يعود في الأساس إلى الفشل الذر يع الذي حققته السياسات النيوليبرالية سواء من خلال إتباع وصفة صندوق النقد الدولي ،أو إدمان قروض البنك الدولي ".
والشاهد أنه لمنطقة أمريكا اللاتينية والكاريبي تاريخ طويل مع النيوليبرالية، حيث كانت مهد النيوليبرالية، وظلت معمل تجاربها حتى أصابها الوهن من كل تلك التجارب الفاشلة ، وتجسد هذا في أزمات  اجتماعية شديدة مثل ارتفاع أسعار السلع بشكل جنوني في المكسيك 1994، وتضاعف ديون البرازيل 1999، والأرجنتين 2002،وتوالت الأزمات  حتى صارت أمريكا اللاتينية أضعف حلقة في سلسلة الإمبريالية، ويعود هذا إلى عدة عوامل من بينها: استهلاك النموذج النيوليبرالي تماماً،و فشل وانعزال سياسة إدارة اليمين المحافظ الاميركي في القارة، وتصاعد دور قوى المعارضة وخاصة الحركات الاجتماعية المناهضة للنيوليبرالية، التي استخدمت شعارات يسارية في حث الجماهير على  الضغط على الحكومات بغية الانسحاب من اتفاقيات التجارة الحرة بين الأمريكتين ومناهضة الإمبريالية.
وبعد سنين من معارضة الحركات الاجتماعية للنيوليبرالية كواحدة من ألد أعدائها، وما أن تراجع وهج النموذج النيوليبرالي الذي تبنته حكومات لاتينية في التسعينات ، صعدت حكومات حاولت ترشيد آثار النيوليبرالية أو كبح برامجها  غير أن النيوليبرالية مازالت تسود أجزاء معينة في القارة، فهي مطبقة في بلدان مثل المكسيك والبرازيل والأرجنتين وكولومبيا وشيلي وأوروجواي، وغيرها، بينما تلاحقت التراجعات عن النيوليبرالية في المناطق التي قل فيها استحكامها وتمركزها، حيث كانت الرأسمالية النيوليبرالية أقل توطداً في فنزويلا وبوليفيا والإكوادور، ويجوز القول على هايتي ونيكاراجوا أيضاً، ناهيك عن كوبا، البلد التي هجرت الرأسمالية منذ عقود مضت.
 
حقوق العمال مهضومة
وتظهر إحصائية صدرت في مطلع 2007 تناقضات الليبرالية القديمة والجديدة من حيث التفاوت الطبقي بين الأغنياء والفقراء في المجتمع الأميركي، وأشارت مجلة" فوربس" إلى أن أصحاب البلايين ارتفع عددهم إلى أكثر من 400 ملياردير في الولايات المتحدة عام 2006، وبحسب مكتب دراسات السوق"ني إن أس"فان مالا يقل عن 8,9 مليون أسرة أميركية كانت تملك في 2005 ثروة تفوق قيمتها المليون دولار، لكن في مقابل ذلك ارتفع عدد الفقراء إلى أن تدخل مجلس النواب وصوت في يناير 2007 على زيادة الحد الأدنى للأجور للمرة الأولى منذ 1997 ليرتفع من 5,15الى7,25 دولار في الساعة .
وقال بارني فرانك النائب الديمقراطي ساخرا من نتائج الليبرالية" أن ارتفاع الأمواج أمر جيد أن كنا نمتلك مركبا ، لكن إذا كنتم فقراء وليس بوسعكم امتلاك مركبا فتذكروا أنكم تقفون حفاة في المياه، وقد تغرقون عند ارتفاع الأمواج"
إذا كانت أميركا وهي العريقة في تطبيق الليبرالية ،وهي مجتمع الوفورات تعاني من مشكلة زيادة أعداد الفقراء ،ويتدخل مجلس النواب ليحمي مصالح صغار العمال ،،فكيف يكون الحال في الوطن العربي أو أميركا اللاتينية؟
لا يختلف كثيرا تاريخ ونضال شعوب أميركا اللاتينية و عن مثيله في المنطقة العربية والعالم الثالث،ثمة رواية واحدة لمؤلف واحد هو الاستعمار الأميركي الحديث، وان جرى تمثيلها في مسارح مختلفة وبإبطال مختلفي الألوان والرايات.
 وهو تاريخ يتنازعه مشروعان متناقضان: الأول: مشروع نهضوي يتمثل في الاستقلال والسيادة والوطنية والانطلاق نحو التنمية والازدهار والرفاهية؛ والثاني: هو مشروع الاستعمار والهيمنة ونهب موارد البلاد واستغلال الشعوب وقهرها واحتجاز تنميتها وتعميق تخلفها.
لقد اتسعت رقعة الرفض في أوساط شعوب العالم الثالث، وبخاصة قي أميركا اللاتينية لموجة الاتجاهات الاقتصادية النيوليبرالية كمدرسة اقتصادية في المركز الرأسمالي (الولايات المتحدة) والتي برزت  في سبعينات القرن الماضي متزامنة مع اشتداد الأزمة البنيوية التي يجتازها النظام الرأسمالي.
 وترتكز النيوليبرالية، فلسفياً، على الحماية القصوى للملكية الخاصة ،ورفض تدخل الدولة في التخطيط أو توجيه الاقتصاد، أو تقديم الدعم لمحدودي الدخل ،وتقوم على حماية حقوق رأس المال، وبالدرجة الأولى حقوق الشركات الكبرى متعددة الجنسية، "بتحرير" الأسواق العالمية والنقد الأجنبي ،والتحرك بحرية مطلقة بين الشعوب والبلدان واختراق حدودها دون قيد أو شرط.
وفي مقابل هذا "التحرير"، تفرض هذه السياسات كافة أشكال القيود والحواجز على حرية الأفراد (الفقراء والمعدومين والمهمشين) وتحركاتهم (الهجرة من أجل العمل وكسب العيش والسفر والتنقل).
 والغاية من هذا كله هي الإبقاء على الأجور المنخفضة ،وتصفية الإنجازات والمكتسبات التي أحرزتها الطبقة العاملة والطبقات الشعبية عبر عقود طويلة من النضال.

وتهدف النيوليبرالية، أيضاً، إلى إزالة أو تقليص الدعم المالي، وكذلك الخدمات المجانية التي توفرها الحكومات لشعوبها ،وإلغاء الضوابط التي تفرضها الحكومات على الشركات العامة "كالتسعيرة"من أجل حماية المجتمع والمستهلك، وإحلال هذه الخدمات بسلع "وخدمات" تبيعها الشركات الرأسمالية الكبرى (خصخصة الخدمات الاجتماعية والموارد الطبيعية) ورغم إدعاءاتها وترويجها لقدرتها على "تخفيض النفقات الحكومية"، فان هذه النفقات ما فتأت في ازدياد مستمر على مدى العقود الثلاثة الأخيرة.

منطقة التجارة الحرة
 للأميركيتين
وقعت كل من الولايات المتحدة وكندا والمكسيك اتفاقية "نافتا" سيئة الصيت في  يناير 1994 ،وأردفت ذلك باتفاقية التجارة الحرة للأمريكيتين"في ديسمبر 1994 والتي أصبحت معروفة للملأ عام 2001،و تسعى هذه الأخيرة إلى "محو أو الحد من الحواجز التجارية بين شعوب الأميركيتين (باستثناء كوبا وفنزويلا) "، إلاّ أن جهودها تعثرت وواجهت موجات شديدة من المعارضة الشعبية، وقد فشل إجماعها الذي عقد في الأرجنتين (يناير 2005 ) في الوصول إلى أي إجماع سواء بسبب البنود المجحفة بمصالح الفقراء أو لأن الدول التي طبقتها دخلت في أزمات بالجملة انتهت بإطاحة الحكومات التي كانت قائمة على تطبيقها.

تنظر شعوب القارة اللاتينية إلى هذه الاتفاقيات على أنها تمثل مصالح رأس المال والشركات الكبرى متعددة الجنسية ومخطط توسعي للعولمة في نصف الكرة الغربي.
 ولا تلبي مشاريعها وبرامجها حاجات شعوب المنطقة بل تنصاع لمصالح الشركات متعددة الجنسية وتسعى إلى "التحرير" المطلق لسلع هذه الشركات وخدماتها (مثل محو أو تخفيض الجمارك، خصخصة كاملة لكافة الصناعات، احتكار وتمركز حقوق الملكية الفكرية، التقليل من تأثير القيود التي تفرضها قوانين العمل وحماية البيئة، والحد من هجرة الفقراء إلى الولايات المتحدة وكندا وغيرها من المشاريع).

أما الترجمة العملية لهذه المشاريع فتتمثل في:
ـ حرية انتقال رؤوس الأموال عبر العالم، وقد قدرت صحيفة وول ستريت جورنال (Wall Street Joural) أن نحو 1500 مليار دولار أمريكي تنتقل يومياً حول العالم،وأدى هذا إلى ترابط متزايد بين الشركات عابرة القوميات، بصرف النظر عن مواقعها، ومثل هذه العملية لا يمكن إلا أن تفضي إلى عالم مترابط ومجتمع عالمي لا بد لهما في سبيل البقاء، من أن ينتجا باستمرار أشكالا جديدة من التنظيم الاجتماعي والمعرفة والخبرة"مثل اتفاقية الجات". وهذا مفروض على جميع مستويات المجتمع، التي يجب أن تتكيف بصورة متواصلة حتى تستطيع مواكبة الاتجاهات العالمية. وأدى اجتماع آثار هذه العناصر إلى تعزيز تأثير العولمة على مجتمعات العالم كله."
-زيادة استثمارات الشركات متعددة الجنسيات التي تزيد من استغلال العمال والفلاّحين والفقراء وتهميشهم،ففي دولة مثل فنزويلا تتحصل على ملياري دولار شهريا من بيع النفط كان هناك نصف مليون عائلة يعيشون في بيوت من الصفيح وفي بيئات قذرة تحفل بكل عوامل المرض في حين كان أصحاب توكيلات تصدير النفط إلى الولايات المتحدة يكونون الثروات الحرام ويودعونها في بنوك أميركا .
 ـ مصادرة الأراضي من أصحابها ومزارعيها، ففي نيكارجوا كانت شركات الفواكه الاميركية العملاقة تقرض الفلاحين بفوائد باهظة ثم تشتري الأرض منهم ، مما أفقدهم مصادر رزق الملايين منهم الذين ارتحلوا إلى المدن والمناطق الصناعية بحثاً عن لقمة العيش. وقد عمق هذا من فقرهم واغترابهم عن بيئتهم الطبيعية وتهميشهم اجتماعيا.
ـ تخفيض المخصصات الحكومية للخدمات الاجتماعية (الرعاية الصحية، التعليم وغيرهما)ويكشف الباحث اللاتيني خوسيه اندرو في كتاب له بعنوان "السيادة والسياسة في أميركا اللاتينية" صدر في عام 2005 عن جامعة الباسفيك في بيرو- كيف أن الليبرالية المتوحشة خلال التسعينيات.ومع اشتداد العولمة، تسببت في انهيار النسيج الاجتماعي في عدد من الدول عبر خصخصة قطاعات إستراتيجية مثل الطاقة في البرازيل والأرجنتين وبيرو وكولومبيا وفنزويلا، بالإضافة إلى معاناة شعوب المنطقة مع الليبرالية "المتوحشة" التي أجهزت على الكثير من المكاسب الاجتماعية هي خير دليل لفهم المعارضة الشديدة لبعض الدول، وعلى رأسها البرازيل والأرجنتين والأكوادور، لاتفاقية التبادل التجاري الحر مع الولايات المتحدة، أو اتفاقية شاملة من هذا النوع في القارة برمتها.
 ـ تصفية الإنجازات والمكتسبات التي حققها العمال والطبقات الشعبية عبر نضال مرير وطويل (فرض قوانين تلغي أو على الأقل تحد من حقوق العمال في أجور الحد الأدنى، ساعات العمل، العمر الادني للعمل وغيرها). الحد، وفي بعض الحالات، إلغاء برامج الغذاء والإسكان والدواء وتطوير المدارس والجامعات التي وضعتها حكومات تقدمية على نحو ماجرى في نيكارجوا عندما تمكنت جبهة الساندينستا الموالية لواشنطن من إلغاء القرارات الاشتراكية واستبدالها بإجراءات رأسمالية قبل أن يعود اليسار بقيادة دانيل اورتيجا إلى الحكم .
وبلغة الأرقام ما زال 43% من سكان أميركا اللاتينية يعيش تحت خط الفقر في حين يعيش خمس القارة (97 مليونيا) على أقل من دولار واحد يومياً، كما تؤوي هذه القارة ما يقارب 222 مليون جائعاً وفقيراً، و50 مليون عاطل عن العمل، 200 مليون مواطن يتعرض للموت جرّاء الأمراض والأوبئة الفتّاكة، وملايين لا تحصى من الأميين.
في ضرورة الوحدة
في مواجهة الإخفاق الاقتصادي والإحباط الاجتماعي لم يكن هناك مفرا  أمام أغلبية دول المنطقة  من السعي الدءوب لتحقيق هدفين رئيسيين، الأول: تحقيق نوع من التكامل الاقتصادي كنوع من الاعتماد المتبادل بدلا من الاستيراد من الخارج. والثاني: تبنى سياسة خارجية موحدة تعطى لأميركا اللاتينية وزنا على المستوى الدولي.
 وحول الهدف الأول، بدأت محاولات  التكامل والوحدة الاقتصادية منذ الستينيات، لكن تغييب الشعوب عن المشاركة فيها وتوالى الانقلابات العسكرية وتدخل واشنطن في توجيه النخب الحاكمة تجاه الاقتصاد الحر،حالت دون تحقيق نتائج تذكر. وتوجد في المنطقة عدد من التجمعات، غير أن الذي بدأ يتقوى هو التجمع الإقليمي "ميركوسور" ويعنى سوق الجنوب، مكونا من البرازيل والأرجنتين وباراجواي وأوروجواي، وانضمت إليه فنزويلا في بداية ديسمبر 2006. وتلعب فنزويلا دورا رئيسيا في تنشيط التعاون بين دول جنوب القارة من خلال تزويدها لمختلف الدول بالبترول، وبأسعار مقبولة ومنخفضة عن السوق الدولية، بل وصل الأمر برئيسها هوجو شافيز إلى شراء جزء من ديون الأرجنتين من صندوق النقد الدولي لتقليل الضغط عليها. ويعتقد المراقبون أن مسيرة التكامل والتضامن-وأخرها إنشاء برلمان لدول المنطقة-ستؤدى حتما إلى تجمع شبيه بالاتحاد الأوروبي في المدى المتوسط. ويبقى الهدف الرئيسي لدول أميركا الجنوبية هو تحقيق نوع من التضامن في السياسة الخارجية، وتم تنفيذ عدة خطوات في هذا المجال، منها أن دول المنطقة أصبحت تفضل نسج علاقات مع قوى وتجمعات إقليمية، أكثر من البقاء فقط تحت عباءة واشنطن، ولهذا فإن التنسيق قوى مع الاتحاد الأوروبي وروسيا والصين وإيران، ويبدو أن هذا المسعى كان محل متابعة الصحف العالمية، ومنها  صحيفة "نيويورك تايمز"التي أشارت-في عددها بتاريخ 21 يناير 2006-إلى أن واشنطن اهتمت كثيرا بالشرق الأوسط والعراق، وتناست "حديقتها الخلفية" أميركا اللاتينية التي فقدتها. وحاولت أميركا اللاتينية تنسيق المواقف مع العالم العربي-خلال القمة التي احتضنتها البرازيل في مايو 2005-لكن الزعماء العرب كانوا دون مستوى الرد والطموحات، لأن الأغلبية منهم ما زالوا تحت العباءة الأميركية!!.
كانت دول الشمال الغنية هي أول من تنبه لأهميته مفهوم العمل الجماعي لا الفردية، وسارعت إلى تبنيه وتحويله إلى إجراءات وبرامج عمل، بينما حرصت في نفس الوقت على إشاعة مفهوم الأحادية، وثقافة الحلول الفردية لدى دول الجنوب حرصا على استمرار شرذمتها ليسهل ابتلاعها واحدة تلو أخرى،وبينما توطد دول الشمال تكتلاتها واتحاداتها، تعمل على عقد اتفاقات فردية مع دول الجنوب لربطها بعجلتها، في الوقت الذي تضع كل ما يمكنها من عراقيل لكبح مساعي الدول النامية لتحقيق أي شكل من أشكال التكتلات التي تكسبها قوة وقدرة على اتخاذ القرار المستقل. ولا شك أن تطورات العصر لم تعد تسمح لأي دولة منفردة ، بالتمتع باستقلال الإرادة السياسية، أو السيادة على مواردها، والوقوف في وجه الطامعين،فمزايا مثل هذه لن تتحقق فرديا، مهما بلغت الزعامات من النزاهة والوطنية والإخلاص؛ وإنما تتطلب استخلاص الدروس من تحركات الكبار الجماعية، لخلق تكتلات جماعية على مستوى دول الجنوب؛ كما تتطلب تحركات جماعية على مستوى شعوبه؛ بما يضمن لهذا الجنوب فرصة البقاء في عالم لم يعد يؤمن إلا بالقوة. فلم يكن أي من شافيز أو كوريا أو موراليس بقادر وحده على الوقوف بوجه القطب الأوحد في العالم وتحالفاته، ومن ثم أدركت هذه الزعامات المخلصة أنه لا خلاص إلا بحل جماعي مدروس بدقة لا مجال فيها للاستهتار بقواعد اللعبة في عالم تكتلات الكبار، تكون أولى قواعده بناء تكامل اقتصادي يكفي بلادها "سؤال اللئيم"، ويحمي الإرادة الحرة لهذه البلدان؛ ويضع أسس استقلال طويل الأمد، حتى في حالة رحيل هذه الزعامات، أو هبوط أسعار النفط الذي يمثل الركيزة الأساسية لاقتصاد معظم هذه البلدان. ففي مؤتمر "البديل البوليفاري للأمريكتين" الذي عقد في نهاية ابريل 2007عرض الرئيس الفنزويلي تزويد الدول المناهضة للنفوذ الأمريكي، نفطا فنزويلا بنصف السعر. وقال شافيز "في الماضي ساهم النفط في تنمية الولايات المتحدة،والآن حان الوقت لكي يساهم النفط في تنمية شعوبنا، فنزويلا تضع احتياطيها النفطي في خدمة أمريكا اللاتينية".
 
الجذور التاريخية
وإذا كان إنشاء الـ«ألبا»، كإطار أو مرجعية للتكامل والتكافل الاقتصادي ـ الاجتماعي، قد جاء بمبادرة من الرئيسين الكوبي فيدل كاسترو والفنزويلي تشافيز عام 2004 فإنّ أسس هذا الخيار ضاربة في جذور أميركا اللاتينية منذ أوائل القرن التاسع عشر، في مرحلة انهيار النظام الاستعماري الأسباني، وبداية تكوّن الاستعمار الجديد القادم من الشمال،وقد تنبه «المحرّر» سيمون بوليفار لهذا الخطر منذ عام 1821 حيث كتب أنّ « قوة صاعدة في الولايات الشمالية ستأكل الأخضر واليابس وتنشر الجوع وسط شعوبنا باسم الحرية». هذا الخطر الجديد دفع أيضاً بملهم الثورة الكوبية خوسيه مارتي إلى الدعوة لتوحيد أميركا الجنوبية، وذلك في مقاله الشهير «أميركيتنا» الذي نشره عام 1891 ودعا فيه إلى «وحدة أميركا اللاتينية في مواجهة امبريالية اليانكي»،ويحتفظ قادة اليسار الاميركي الجدد بصورة الثائر الاممي ارنستو تشي جيفارا في مكاتبهم تعبيرا عن الانتماء إلى هذا القائد العظيم ،وبنفس القدر يبدون الاحترام للرئيس فيدل كاسترو رمز الاستقلالية والتنمية،والذي دعا إلى محاربة أسباب الفقر في القارة وأهمها الهيمنة الاميركية ،و" النيوليبرالية " التي كانت سببا في خراب دول عريقة كالمكسيك والبرازيل والأرجنتين.
 
أميركا اللاتينية :إلى اليسار در
ولم تكن صدفة أن الانعطافة الجديدة في اتجاه اليسار بدأت في نفس اللحظة التي كان اليمين الاميركي يمارس ويطبق نظريته في الحرب الاستباقية خارج حدوده في أفغانستان والعراق ويعيد تشكيل العالم بين دول خيرة وأخرى شريرة وبين أوروبا قديمة وأخرى جديدة،استنادا إلى منطق عنصري يقول "من ليس معنا فهو ضدنا".. لقد انعطفت أمريكا اللاتينية إلى اليسار في العام 2003 مع وصول البيروني "نيستور كيرشنر" إلى السلطة في الأرجنتين، وتحالفه مع الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا، مبتعدين  بذلك عن النمط "النيو الليبرالي" الأمريكي الشمالي الذي تتزعمه الولايات المتحدة، وساعين إلى تعزيز التكامل الإقليمي.
وتشكل المحور الجديد بين البرازيل والأرجنتين في نهاية أكتوبر 2003 خلال أول زيارة قام بها "لويس إيناسيو لولا دا سيلفا" إلى الأرجنتين منذ تولي كيرشنر مهامه في 25 مايو 2003.
ووقع الرئيسان حينها بالأحرف الأولى على اتفاق "بوينوس أيرس" الذي يعطي الأولوية للمسائل الاجتماعية (مكافحة البطالة والجوع وتأمين التعليم والتطور التكنولوجي) على تصحيح وضع الميزانية وتسديد الدين الخارجي.
وتعتبر هذه الوثيقة باكورة المنهج الجديد الموازي أو المناهض  لتوجه واشنطن النيوليبرالي ،غير أن التحول الأكثر راديكالية وواقعية في مسيرة التكامل الاقتصادي في القارة ولد مع تبني شافيز وكاسترو لخيار "البديل البوليفاري"،لأنه الأكثر عمقا من الناحية الفكرية والأكثر واقعية من الناحية العملية..كيف؟
لقد اثبت  " البديل البوليفاري" أنه لا صحة لنظرية "نهاية للتاريخ " التي روج لها بعض المنظرين الأمريكيين،فالتاريخ لا يزال يطرح عطاءاته الفكرية بدون توقف ،وفي أميركا اللاتينية قدر من الحيوية الفكرية تشهدها المؤتمرات والندوات السنوية فضلا عن التحركات  السياسية النخبوية والشعبية، التي تترجم  في أكبر مظاهرات مناهضة لما ألحقته العولمة والنيوليبرالية من سلبيات اقتصادية واجتماعية، وتعمل نخبها اليسارية الجديدة على الحد من التأثير الأمريكي في سياساتها الداخلية التي طالما اتبعت نهجا انتهازيا طوال العقود الماضية، وأثرت سلبا على مسيرة الإصلاح السياسي والاقتصادي بدول القارة.
إن أوجه الشبه بين تلك المنطقة وبين الشرق الأوسط كبيرة، سواء لجهة الظلم الاستعماري التاريخي المستمر للعالم الثالث ،أو لجهة الخراب المستمر الذي لحق بالمنطقتين جراء إتباع سياسات الصندوق والبنك الدوليين،واذا كان العقل العربي قد ابتدع فكرة " الإقليم القاعدة " او الدولة المحورية التي تقود العمل القومي بفضل ما تتمتع به من مؤهلات ومقومات تاريخية وجغرافية وبشرية أو مادية فان فنزويلا شكلت في البديل البوليفاري وجسدت فكرة إقليم القاعدة.
 
فنزويلا..إقليم القاعدة

 لقد مثل صعود الرئيس شافيز إلى سدة السلطة في كاراكاس للمرة الثانية وعبر صناديق الاقتراع نقطة التحول في المسار الجديد،ولولاه لكان قد تأخر المشروع الوحدوي كثيرا ،فالقائد الثوري لا يستند فحسب على قناعة إيديولوجية في حق القارة في الاستقلال والوحدة وإنما –لحسن الحظ-يكتلك امكانات اقتصادية كبيرة تتمثل في 2ملياردولار شهريا عائدات النفط بأسعار عام 2006"كان سعر البرميل يتراوح بين 35و40دولارا"،وهذه الامكانات النفطية كانت توظف قبل شافيز لمصلحة تحالف رأسمالي ريعي فنزويلي متحالف مع رأسمالية اميركية متوحشة،لذلك  فقد شهدت فنزويلا، منذ أن تولى شافيز رئاسة الجمهورية للمرة الأولى عام 1998، تحولاً جذرياً شمل كافة المجالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية. فللمرة الأولى في تاريخ البلاد يتم استثمار عائدات النفط لتأمين الخدمات الاجتماعية (الرعاية الصحية والتعليم وتوفير المياه الصالحة للشرب والمواد الغذائية للفقراء وضمانة الأمن الغذائي للمجتمع والطاقة الكهربائية) وغيرها من الخدمات الأساسية للمواطنين هذا البرنامج أعيد انتخابه بأغلبية 61في المئة من إجمالي أصوات الناخبين في انتخابات حرة وشفافة بشهادة الاميركيين الذين بهرهم هذا الحلف الاجتماعي الذي يقف خلف الزعيم الفنزويلي .
قدم شافيز رؤيته لمستقبل القارة في لقاء تاريخي مع كاسترو في 2004 انتهى بالاتفاق على بلورة تصور نهوضي تكاملي للقارة واصطلحا على تسميته"البديل البوليفاري"و قاعدته الفكرية تستند إلى أن نتائج وعائدات هذا التحول (وهذه السياسات) لا تعود بالنفع على المواطنين الفنزويليين والكوبيين فحسب، بل على مجمل القارة اللاتينية، ويشكل هذا التضامن الإقليمي والاممي البعد الأساسي الذي يميز الرؤية الثورية في تحرير القارة من أساليب الهيمنة الاميركية.
غير أن المساعي لتحقيق تكتلات تحمي موارد وإرادة دول الجنوب، تحتاج بلا شك إلى قيادات من نوع خاص، قيادات تتسم بولاء حقيقي لشعوبهم التي منحتهم ثقتها وأوصلتهم إلى سدة الحكم، فيحرصون على الاحتفاظ بثقة هذه الشعوب عبر تحقيق مصالحها. ولا شك أن الثقة التي أولتها شعوب أمريكا اللاتينية لزعاماتها الحالية لم تأت من فراغ،  فقد سعت حكومة شافيز لتقليل الفقر وتحقيق المساواة الاجتماعية من خلال التوازن في فرص الحصول على التعليم والصحة وخلق فرص عمل جديدة في الشركات الصغيرة والتعاونيات وتم تكملة هذه البرامج بالعديد من القوانين والخطط الاجتماعية. وبالإضافة إلى تحقيق التوازن الاقتصادي كان الهدف الرئيسي هو إقامة نموذج إنتاجي يحقق النمو المتواصل المعتمد على الذات لضمان التنوع في الإنتاج وزيادة المنافسة العالمية. ومن أجل تنويع الاقتصاد تم اختيار بعض القطاعات الحيوية مثل الزراعة والصيد وبعض الصناعات الرئيسية (كالألمنيوم والنيكل والنحاس والسياحة والخدمات عالية التقنية) من أجل تحسين توزيع الدخل، وتسعى الحكومة إلى تطوير اقتصاد اجتماعي باستخدام برنامجين أساسيين: ديمقراطية رأس المال وديمقراطية الأراضي التعاونيات الجديدة والمشروعات الصغيرة." وبالنسبة للتعليم أنشأت الحكومة مئات المدارس البوليفارية التي وفرت ثلاث وجبات طعام للطلبة مجانا، ودخل مليون طالب جديد هذه المدارس. كما أن برنامج الإسكان العام والقروض الميسرة استفادت منه الفئات الفقيرة. ويحرص شافيز الذي يعتبر أول رئيس فنزويلي يعمل لصالح الفقراء الذين يمثلون 80 في المائة من شعبه، على أن يوضح للأغنياء أيضا أن في سياساته حماية لهم أيضا؛ فيقول في إحدى خطبه "يجب أن يفهم الأغنياء في البلاد أن الحكومة التي أقودها تعمل من أجلهم وهو تحقيق شيء للفقراء، مما سيساعد على خلق توازن، نسعى لإقرار التوازن في البلاد حتى يمكننا أن نعيش في سلام". وهكذا تتضح الوصفة السحرية للشعوب التي تطمح إلى حياة كريمة حرة الإرادة في عالم اليوم: قيادات وطنية مخلصة ولاؤها داخل حدودها لمن منحوها الثقة؛ تعمل في نزاهة وإخلاص على تسخير كل مواردها لتنمية شعوبها ومكافحة الفقر والاستغلال لتحقيق الاستقرار الداخلي، وفي نفس الوقت، تحرص على التكامل، ضمن تكتلات، بين بلدانها والبلدان التي تتفق معها في مصلحة السيطرة على مواردها وحمايتها من النهب، وتنميتها بما يحقق مصلحة شعوبها. وتعزز في نفس الوقت قدرتها على امتلاك إرادة مستقلة تقف في وجه ضغوط الهيمنة الاستعمارية.
ماهو البديل البوليفاري؟
"في السياسة والاقتصاد، وفي القضايا الاجتماعية، فإنّ هذا الخيار أل«ألبا»، يهدف إلى تأمين الاستقرار، بما يتناسب مع أقوال المسيح بأنّ الطريق الوحيد للسلام هو العدالة والإخاء والمساواة، ومن دون العدالة لن يتحقق السلام في العالم».
بهذه الكلمات عرّف الرئيس الفنزويلي شافيز خيار «البديل البوليفاري لأميركا اللاتينية»،أل«ألبا»، والذي يمثل بالنسبة لشعوب القارة الجنوبية المشروع «الأكثر إنسانية» للتكامل السياسي والاقتصادي والاجتماعي، في مواجهة مشاريع الهيمنة النيوليبراية التي تسعى الولايات المتحدة إلى فرضها على «حديقتها الخلفية» بوسائل عديدة قد يكون أبرزها «اتفاقية التجارة الحرة للأميركتين» .
و لم تكن هذه الفكرة جديدة على أي نحو ، فقد وردت غير مرة في خطب كاسترو التي كان ينتقد فيها اتفاقية المناطق الحرة التي وقعتها أميركا مع عدة دول لاتينية،ويهاجم النمط الإمبريالي الأميركي خاصة الشركات متعدية الجنسيات التي ساهمت في نهب ثروات القارة،حيث تسعة شركات أميركية تحتكر استخراج وتكرير وتجارة النفط اللاتيني، وهو مادفع شافيز ثم موراليس إلى تأميم صناعة وتجارة النفط في بلديهما.
وجاءت اتفاقية الـ«بتروكاريب» عام 2005 لتشكل بداية للتطبيق العملي لـ«ألبا»، بعدما أتاحت لـ13 دولة الحصول على النفط الفنزويلي بالأسعار المتعارف عليها في السوق العالمي، ولكن بتسهيلات كبيرة في الدفع، لجهة إمكانية تسديد 30 إلى 50 في المئة من قيمة الموارد النفطية بقروض طويلة الأمد (17 إلى 25 عاماً) وبفائدة ضئيلة (بمعدل واحد إلى إثنين في المئة). وبموجب هذه الاتفاقية حصلت هافانا على حصة 98 ألف برميل نفط فنزويلي في اليوم (من أصل 186 ألف برميل في اليوم نصت عليها الاتفاقية)، في مقابل تقديم خدمات طبية وتربوية لكاراكاس، مع الإشارة إلى وجــود أكثـر من 20 ألف طبيب كوبي في فنزويلا حالياً،وهذه الاتفاقية تقدّم مثالاً حياً لطبيعة التعامل «الإنساني» بين الدول في قضايا التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
 وفي هذا الإطار يعتبر المحللون اليساريون  أن البديل البوليفاري «لم ينشأ من منطلق إيديولوجي بقدر ما كان نتاجاً لحاجات المجتمعات لضمان الحد الأدنى من العيش الكريم المفقود بسبب نهب ثرواتها بعد عقود من الهيمنة الخارجية المترافقة مع تواطؤ من قبل البرجوازية المحلية»، لافتين إلى أنّ «السـيطرة المـديدة للاحتـكارات الأميــركية أعاقت النمو الاقتصادي ما تسبب في جمود حاد طاول البنيـة الاقتصادية في هذه الدول».
 ما هي سمات البديل البوليفاري"ألبا"؟
 وكيف تساهم في تطوير القارة؟
والى أي مدى يمكن أن يستفيد من فكرتها السياسي العربي،خاصة في الدول التي تعاني من اختلال اقتصادي؟
يمكننا إيجاز المرتكزات الرئيسية للبديل البوليفاري للقارة اللاتينية "ألبا" بما يلي:
1) التعاون الاقتصادي بين دول الألبا ليس من منطلق الربح الاقتصادي وإنما هو تعاون له صبغة إنسانية،من أجل التنمية المستقلة والمتوازنة ،ومحو الفقر والجهل وكافة أشكال التهميش الاجتماعي والاقتصادي، ويمثل إيجاد آليات محو الفقر نقطة الانطلاق في البديل البوليفاري.
2) تعزيز قيم المساواة بين الناس والعدالة الاجتماعية ورفاهية الطبقات الشعبية (الأكثر قهراً في المجتمع)والسعي إلى إشراكها في المنظومة الإنتاجية. شق درب جديد في التنمية الاقتصادية والاجتماعية يستند إلى تعزيز القطاعات الإنتاجية المحلية والوطنية إي "التنمية من الداخل" كما تسميها وثائق الثورة البوليفارية (مثل الزراعة والصناعة على نقيض "المناطق الصناعية الحرة" أي المحتلة التي تنشئها الشركات المتعددة الجنسية بين كتل من دول أميركا اللاتينية والكاريبي، لدعم النمو والمعروفة عالمياً باسم "ماكيلادورا " والتي لا تسهم في استنهاض القوى المنتجة (الزراعية والصناعية) في البلدان الفقيرة ولا تعالج الأسباب الجذرية للفقر وآليات محوه ،كما أنها لا تعمل على بناء إقتصادات حية ومستديمة. وهذا الاتجاه مأخوذ بدرجة أو أخرى من تطويرات مدرسة التكامل التي تدعو الدول القريبة جغرافياً وذات الأنظمة المتقاربة فكرياً وسياسياً إلى العمل المشترك لتحقيق تنمية متوازنة فيما بينها.


3) تفعيل منهج تدخل الدولة في توجيه النشاط الاقتصادي أو ما يعرف ب "الاقتصاد الموجه" اعتماد التعاون الاقتصادي القائم على اقتصاد موجه اجتماعيا كبديل لنقيضه المشروع الرأسمالي الأميركي المتمثل في الاتفاقيات النيوليبرالية، والتأكيد بأن التنمية في هذه البلدان لن تتحقق إلاّ بمحاربة هذه الاتفاقيات والسياسات الرأسمالية بكافة تجلياتها وآلياتها.
4) إن مصالح شعوب القارة والكاريبي مصالح مشتركة لا تتحقق إلاّ بإزالة الفوارق بين بلدان المنطقة عبر الاندماج الإقليمي، ويتحقق هذا الاندماج بالدرجة الأولى من خلال التضامن مع البلدان الفقيرة والمتخلفة في نصف الكرة الغربي بهدف إعانتها على استنهاض بنيتها التحتية،والاندماج هنا ليس المقصود به الوحدة الاندماجية وإنما التكامل الاقتصادي وتنسيق المواقف السياسية.
5-التمسك بالثقافة المحلية والاعتزاز بالقيم والأخلاق وتراث المنطقة وقد حث  شافيز الفنزويليين على التقيد بتقاليدهم وعاداتهم بدلاً من الإتباع للتقاليد الأميركية التي لا محل لهافي ثقافة دول أميركا الجنوبية، ويعتزموراليس بسحنته الهندية وهو المنحدر من قبيلة ايمراو بإعادة تأسيس بوليفيا وإنهاء الدولة الاستعمارية بفرض قيود على الشركات الأجنبية متعددة الجنسيات التي تستغل حقول الغاز الكبيرة.
 الهنود والسكان الأصليون
6 - الاستناد على السكان الأصليين كفئات اجتماعية صاحبة مصلحة في التغيير الاقتصادي ببرامج لرفع مستوياتهم المعيشية، وسعيهم إلى تغيير الخريطة السياسية باحتلال مواقع القيادة بدلا من سلالات الرجل الأبيض التي احتكرت السلطة قرونا متتالية، ويتجلى ذلك في وعي السكان الأصليين المنتمين لحضارات عريقة مثل- الآزتك والإنكا- ونضالهم من اجل الحصول على حقوقهم كاملة، واستعادة الثروات التي سلبت منهم بالقوة، ووضع حد للتهميش التاريخي الذي عرضوا له منذ وصول كريستوفر كولومبس إلى هذه الأراضي.، وكانت الانطلاقة مع جيش التحرير الوطني في المكسيك سنة 1994 تحت قيادة القبطان ماركوس، الذي عاد هذه الأيام إلى القيام بجولة استكشافية ضد التهميش،
متشبثا دائما بلثامه الذي جعل منه أسطورة، لكن العدوى انتقلت إلى مجموع أميركا اللاتينية بدون استثناء، بل وحتى في أميركا الشمالية من خلال هنود كندا في حين أن هنود الولايات المتحدة قد تم سحقهم سياسيا واجتماعيا. ويختلف وزن السكان الأصليين من بلد إلى آخر. فإذا كان ضعيفا نسبياً في البرازيل، ففي الإكوادور وبيرو وبوليفيا، أصبح مؤثرا وتحول إلى عنصر الحسم في القرارات السياسية الكبرى، ففي حالة بوليفيا، أصبح زعيم السكان الأصليين إيفو موراليس رئيسا للبلاد منذ 18 ديسمبر 2005، وهو ما يحدث لأول مرة في تاريخ هذه البلد.، وتكرر الحال في بيرو مع زعيم السكان الأصليين أويانتا أومالا، وهو كولونيل متقاعد، ترشح في الانتخابات الرئاسية في أبريل 2006، ولكن يبقى الأمر الخطير في خطاب السكان الأصليين هو ترويج خطاب سياسي عنصري، مفاده التمييز بين الإنسان الأبيض الأوروبي الذي قدم منذ قرون، والإنسان الأصلي صاحب الأرض والمشروعية. فأغلبية سكان أميركا اللاتينية تنقسم إلى سكان أصليين والبيض القادمين من أوروبا. وتاريخيا، وتولى البيض الحكم دون إشراك أصحاب الأرض الأصليين، بل مارسوا عليهم جميع أنواع القهر والتهميش والاستغلال.
 
7-الاعتماد على الطبقات الاجتماعية الدنيا أو التي تقع في سفح الهرم الاجتماعي " المهمشين"وليس على طبقة العمال "البروليتاريا" وحدها الأمر الذي أدى إلى وصول ممثلو الطبقات الشعبية إلى سدة الرئاسة، فبعض رؤساء الدول مثل هوجو شافيز في فنزويلا، ولولا دي سيلفا في البرازيل، وإيفو موراليس في بوليفيا ينتمون إلى طبقات المهمشة، وهذا ما يفسر مثلا تصويت ثلثي الشعب الفقير في فنزويلا لصالح شافيز ونجاحه في ست انتخابات بلدية وتشريعية و اكتساح الانتخابات الرئاسية وتعديل الدستور ،وان لم يوفق في الاستفتاء على تمديد فترات الرئاسة ، الأمر الذي لم يحدث أبدا في تاريخ القارة الأميركية.. أو فوز إيفو موراليس بأغلبية مطلقة في بوليفيا في الدورة الأولى للانتخابات الرئاسية، وهو الأمر الذي يحدث نادرا، خاصة في حال وجود أكثر من عشرة مرشحين آخرين.وتكرر الحال في الإكوادور حيث تمكن رافاييل كوريا من هزيمة منافسه الملياردير الفانوبوا الذي يمتلك 110شركات منها ثاني اكبر شركة مصدرة للموز في العالم وتقدر ثروته بملياري دولار، واختار الناخبون كوريا الذي تقدم لهم ببرنامج اجتماعي بسيط حمل اسم " ثورة المواطن".
وربما كان وعي اليسار اللاتيني بأن انحيازه إلى السكان الأصليين في البلاد،وتوسيع تحال العمال والفلاحين وصغار الموظفين فضلا عن المنظمات النوعية كالطلاب والمرأة والمهنيين هو ابرز التجليات في اشتراكية القرن 21 التي بشر بها شافيز في أكثر من خطاب. ووعى اليسار أن دوره التاريخي لن يتحقق عبر ديكتاتورية البروليتاريا،أو العمال المنظمين في المصانع،فقد ثبت أن قطاعات واسعة من عمال فنزويلا منحوا أصواتهم لمنافسه الليبرالي بعد رشوتهم أو إغرائهم ،واقتنع زعماء اليسار بأهمية الفوز بثقة وأصوات الطبقات الفقيرة والمهمشة، وتبنى سياسات اجتماعية تستوعب مطالب هذه الطبقات، والتقرب إلى السكان الأصليين وتبنى أطروحاتهم وأهدافهم والدفاع عن حقوقهم والتنسيق معهم، ليقدم هذا اليسار نموذجا قابلا للتقليد في مناطق أخرى، لأنه اعتمد على الاستفادة من الواقع والتكيف معه.

بنك الجنوب
 وقد حصل تطور هام في منظومة الألبا  من خلال خطوة جريئة وشديدة الفعالية على طريق صيانة استقلال هذه الشعوب والتحكم بالتنمية لصالحها. إنها خطوة تأسيس ”بنك الجنوب“ ليكون بديلاً مبدعاً عن البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي وهما مؤسستان يستخدمهما مؤسسو العولمة والنيوليبرالية لتحريف تطور بلدان الجنوب ونهب ثرواتها. لم يكن إعلان الرئيس الفنزويلي هوغو شافيز اعتزام بلاده الانسحاب من صندوق النقد والبنك الدوليين ، بعد أيام من طرد رئيس الإكوادور الاشتراكي رافائيل كوريا، ممثل البنك الدولي في بلاده بتهمة الابتزاز، مفاجئا ـ فيما يبدو ـ للكثيرين من متابعي المشهد الأمريكي الجنوبي. وكانت الإكوادور قد تحدثت مؤخرا أيضا عن الانسحاب من صندوق النقد الدولي. وهكذا جاء إعلان الانسحاب من المؤسستين الماليتين الدولتين اللتين تمثلان ذراعي الهيمنة الاقتصادية لدول الشمال، طبيعيا في سياق مساعي دول أمريكا اللاتينية للبحث عن مخرج من هذه الهيمنة، ويقول شافيز إن هاتين المؤسستين هما سبب استمرار الفقر في أمريكا اللاتينية وإنه يعتزم إيجاد بديل لهما سيكون على هيئة بنك إقراض تديره دول المنطقة ويسمى "بنك الجنوب". علما بان القارة تمتلك احتياطيات نقدية  تعادل 200 مليار دولار من احتياطيات النقد في بنوك العالم الأول والتي تذهب أرباحها إلى دول الشمال. والواقع أن شافيز هو المحرك الأساس لهذا البنك إذ تعود إليه  فكرة تأسيسه 2004عندما دعا إلى تأسيس مؤسسة مالية إقليمية من أجل "الكف عن إيداع إحتياطاتنا المالية في مصارف الشمال" ولنتمكن من التصرف بمواردنا بغية "تبادل المساعدة"، بدل الاقتراض من مؤسسات متعددة الأطراف مثل "صندوق النقد الدولي و"البنك الدولي"ولاقى هذا المشروع دعم الأرجنتين، بداية، ثم الإكوادور وبوليفيا، والتحق بهم أخيراً البرازيل والباراجواي والاورجواي، ويأمل المبادرون في هذا المشروع جذب بلدان أخرى من أميركا اللاتينية.
ما هي غاية هذا البنك ؟
تناولت أهم نقاشات الأعوام الأخيرة الأهداف التي من شأن هذا البنك اعتمادها. لقد أراد شافيز أن يعمل البنك على تشجيع الاستثمار، وان يكون مصدر الإقراض الأساسي في المنطقة، ما يجعله نوعاً من "صندوق النقد الدولي" لبلدان الجنوب. بيد أنه تم الاتفاق على جعله مشابهاً "للمصرف القومي للتنمية في البرازيل". ففي الصيغة الأخيرة للنص المؤسس (الذي استندت إليه اليومية الأرجنتينية) نرى أن "بنك الجنوب" يهدف إلى تمويل التنمية الاقتصادية والاجتماعية في البلدان الأعضاء في "الاتحاد الجديد لبلدان أميركا الجنوبية "أوناسور UNASUR" الذي تأسس في أثناء "قمة الطاقة في أميركا الجنوبية"2007، وذلك باستخدام "الادخار داخل المنطقة وخارجها، وبتشجيع التكامل، والحد من التناقض، والسعي لتوزيع عادل للاستثمار بين الدول الأعضاء".
الخلاصة
 
أن تجربة البديل البوليفاري أو التعاون الإقليمي في أميركا اللاتينية تقدم دروسا مهمة للفكر العربي بعضها تم اكتشافه من قبل ،بل وتم تطبيقه، وبعضها الآخر يمكن الحوار حوله من أجل الاستفادة منه وهي:
1-الديمقراطية بمفهومها الشامل القانوني والسياسي هي شرط أساس للعمل الوحدوي ،ولا وحدة بدون إشراك المواطنين في كل العملية السياسية بدءا من الانتخابات النظيفة والمتكافئة في كل المستويات ،بدءا من المجالس المحلية والشعبية وانتهاء بالانتخابات الرئاسية ،وإتاحة حق النقد والتعبير لكل القرارات مهما كانت الجهة التي أصدرتها،إن مشاركة الجماهير في العمل الوحدوي باعتبارها صاحبة المصلحة هو حصن الأمان للعمل الوحدوي ومن دونه تصبح الجهود الوحدوية عملا فوقيا معزولا وغير آمن.
2-أن العدالة الاجتماعية بغض النظر عن الصيغة المؤدية إليها هي عامل جوهري في مشاركة قطاعات واسعة من المواطنين في العمل الوحدوي وأي إنجاز وحدوي يحقق مصالح فئة واحدة لن يصمد أمام التحديات،وقد نجحت أوروبا في تطبيق نمط من التطور الرأسمالي غير أن هذا النمط قد لا يناسب ظروف العالم الثالث حتى لم تتبلور طبقة رأسمالية صناعية أو إنتاجية قادرة على قيادة العملية الإنتاجية،فالرأسمالية في العالم الثالث لا تزال تابعة تبحث  وتتنافس للحصول على توكيلات للشركات الأجنبية،وهذا هو درس الوحدة في أميركا اللاتينية حيث أن دول البديل البوليفاري تتمتع بقدرة الدولة على توجيه الاقتصاد،والتحكم في الدخل الوطني خاصة عائدات النفط والثروات المعدنية حيث يتم استثمارها في عمليات إنتاجية كبيرة تتجاوز حدود الدولة الواحدة. الفشل الذريع لسياسات النيوليبرالية المطبقة حاليا في عديد من دول الوطن العربي التي رضخت لوصفة صندوق النقد الدولي بدعوى تطبيق برامج إصلاح اقتصادي قصيرة المدى وقد أدت هذه السياسات إلى أزمات اجتماعية بالجملة.
 
 3- استحالة تحقيق الوحدة في ظل التبعية السياسية أو الاقتصادية ،فالوحدة مرادف للاستقلال،وبالنظر إلى تجربة البديل البوليفاري نكتشف أن الدول الثائرة على الخط الاميركي سياسيا، وعن سياسات النيوليبرالية هي التي وجدت نفسها على طريق وحدوي أو تكاملي بحكم الضرورة،في حين أن الدول التابعة لواشنطن والمرتبطة بسياسات الصندوق والبنك الدوليين ،وعلينا أن ندرك أن الغرب الذي أنتج بعض أشكال الوحدة الحديثة هو نفسه الذي يعوق مشاريع الوحدة في الوطن العربي وأميركا اللاتينية ومن هنا تأتي أهمية تكوين صداقات دولية تحيط بالمشروع الوحدوي وتحميه من خطر المؤامرات الأجنبية،وهذا مافعلته دول البديل البوليفاري التي توصلت إلى صداقات عميقة مع روسيا والصين وإيران.
4- أن العمل الوحدوي يرتكز بالضرورة على" إقليم القاعدة "الذي تتوفر فيه مقومات فكرية واقتصادية وقيادة ثورية مدركة لطبيعة المرحلة وقادرة على توظيف الامكانات الوحدوية في مشروعات طويلة الأمد، ومثلما كانت مصر عبد الناصر هي إقليم القاعدة للعمل الوحدوي فان فنزويلا شافيز هي التي تمثل اليوم إقليم القاعدة ضمن دول البديل البوليفاري ،حتى يجوز القول انه لولا وجود شافيز وكاسترو لتعطل المشروع الوحدوي اللاتيني،وفي غياب عبد الناصر سعت قيادات عربية إلى وراثة الدور الوحدوي لمصر لكنها سقطت في مسلسل من المغامرات،وانتهت إلى الإساءة لفكرة الوحدة.
 5-الوحدة الاندماجية هي أعلى درجات الاندماج لكن ينبغي أن تسبقها مراحل وحدوية من قبيل التكامل الاقتصادي والتضامن أو التنسيق السياسي مع مراعاة ظروف كل دولة ،ومن دون القفز على الواقع، والاتفاق على التنسيق في الحد الأدنى وليس الأقصى،وقد قدمت الوحدة الأوروبية نموذجها الوحدوي المتدرج والمتصاعد حتى بلغ مرحلة توحيد العملة، أما أميركا اللاتينية فقدمت البديل البوليفاري وهو الصيغة الأقرب للظروف العربية لأنه من جهة اختياري ، ويضم الدول التي بينها قدر من التماثل أو الانسجام مما يوفر فرصا للتنسيق من جهة أخرى. لقد اكتشفت أميركا اللاتينية وبخاصة الدول التي اندمجت في اتفاقية التجارة الحرة ومنها البرازيل والمكسيك والأرجنتين فشل منهج التنمية من خلال الاقتراض الخارجي والذي ترتب عليه ظاهرة إدمان الاقتراض من جهة وتراكم المديونية من جهة ثانية فضلا عن ارتفاع فوائد خدمة الدين مما يرهق الموازنات العامة ويرهنها للأجنبي،وهذا المنهج لازال سائدا في عديد من الدول العربية ومن بينها مصر التي تخلت عن التنمية المستقلة والمتوازنة ورضخت لشروط ووصفة صندوق النقد الدولي.