الرئيسية - كــتب - عصر الفوضى القادم
عصر الفوضى القادم
الساعة 03:00 صباحاً الثورة نت../

عرض/ غمدان اليوسفي – لم يكن القرن العشرين «عصر المنطق» كما تم وصفه عند دخول العام 1900.. أتى ذلك القرن بعد قرن لم يسده السلام كما اعتقده العالم أيضا فقد شهد القرن التاسع عشر حربين دوليتين هي حرب القرم 1853-1856بين فرنسا وبريطانيا كطرف وروسيا كطرف ولم تغير تلك الحرب شيئا والحرب الثانية كانت الفرنسية-البروسية 1870-1871. افتتح القرن الجديد بالحرب اليابانية الروسية في 1904-1905 وكانت هذه الحرب كفيلة بإظهار قوى جديدة هما ألمانيا واليابان كقوتين عظميين. في كتاب (الفوضى) لزبغينو بريجنسكي يرصد الكاتب متخصص في السياسة الدولية والمستشار للأمن القومي الأمريكي في عهد الرئيس جيمي كارتر الاضطراب العالمي المحتمل مع حلول القرن الحادي والعشرين. ويصف كارتر الكتاب بـ «أنه يحتوي على تحليل لامع وأنيق يفرض على المرء قراءته».

قرن لا أخلاقي وفي تواصل لقراءة مدخل القرن العشرين مثلت إمبراطورية النمسا-المجر نموذجا للاعتدال والتعايش العرقي بينما شرعت بريطانيا وألمانيا والنمسا وروسيا في قطف ثمار الثورة الصناعية وشهد ذلك العصر إنجازات في الطب والتغذية والاتصالات وانخفضت وفيات الأطفال. هذا التقدم ظل يسير لوحده ولم يمش بمحاذاته تطور أخلاقي وجسدت السياسة فيه أعظم فشل لها في ذلك القرن وأصبح القرن الأكثر دموية وكراهية في التاريخ قرن الهلوسة السياسية والقساوة المؤسسية. أفرز ذلك القرن حربين عالميتين وأكثر من ثلاثين حربا دولية كبرى وأخرى أهلية بحيث لم تقل الخسائر للحرب الواحدة عن عشرات الآلاف من القتلى حيث بلغ القتلى من الشباب الذين تراوحت أعمارهم بين الثامنة عشر والثلاثين قرابة 33 مليون شخص من بين جميع ضحايا القرن العشرين بينما بلغ تقديرات إجمالي القتلى 175 مليون شخص. هؤلاء راحوا ضحايا للقومية والأيديولوجية ولانعدام الأخلاق في كثير من الأحيان كما يرى بريجنسكي حيث يعتبر قصف هيروشيما وناجازاكي بالقنابل النووية شهادة صادقة على الفساد الأخلاقي الذي عبد الطريق له التقدم العلمي. من بين الأعداد المهولة لضحايا القرن العشرين تبرز الأعداد المهولة لمحاولة فرض الأيديولوجيات وأبرزها الشيوعية التي راح ضحية فرضها قرابة 60 مليون شخصا في كلا من روسيا والاتحاد السوفيتي والصين وكوبا وكمبوديا إضافة إلى قتلى فرض العقيدة كمجازر الأتراك للأرمن والمجازر الهندوسية-الإسلامية والنازيين لليهود وكذلك المجازر ذات الدافع السياسي التي تعادل كل الأرقام السابقة. يوصف الأمر في كتاب الفوضى على أنه الضريبة الإنسانية للفشل الأخلاقي الجماعي وبعد للجنون السياسي الذي عاشت تجربته الإنسانية في هذا القرن.

القوة قادمة في المراحل المبكرة من التاريخ السياسي تأثرت ملامح الوعي السياسي الجماهيري الأول بالدين أولا وبالعقيدة لاحقا ومنح هذا الأمر صاحبه منحىٍ أخلاقيا قويا ليقرر الصواب من الخطأ لكن هؤلاء المؤمنين تميزوا بالتمسك بالتعصب العنفي والاضطهاد وعليه فإن تلاشي التطرف الديني يمثل عامل نضوج للوعي السياسي العالمي. يرى بريجنسكي إن أمريكا في العقد الأخير من القرن العشرين اتسم موقفها بالتناقض حيث وهي تتربع على قمة العالم دون أن تواجه خصوما قادرين على مناظرتها المبادئ التي تحملها للعالم ورسالتها تهددان بتقويضها كدولة قائدة للعالم. بالاستناد إلى التاريخ فإن أي قوة لايمكنها البقاء مهيمنة إلا إذا أبرزت رسالة تنهل من دستور أخلاقي. ثمة مشكلات تهدد بقاء أمريكا كقائدة للعالم ففي الجانب الاقتصادي تتراكم المديونيات القومية عليها وارتفاع العجوزات والعجز التجاري وتدني نسب الادخار واللاتنافسية الاقتصادية وتدني مستوى مدلات النمو. أما أبرز القضايا الاجتماعية التي يتحدث عنها مستشار الأمن القومي السابق فهي العناية الصحية غير المتكافئة والتعليم الثانوي المتدني وتعفن الريف وانتشار الأحياء الفقيرة بكثرة وانتشار الطبقة الجشعة التي تعارض الضرائب واتساع الفارق الطبقي بين السود والبيض حيث «يعيش بنحو مخجل 33 في المائة من الأمريكيين السود دون خط الفقر و11 في المائة من البيض كذلك. ارتفاع مستوى الجريمة ويمثل السود 50 بالمائة من السجناء برغم أنهم لا يشكلون أكثر من 12 بالمائة من السكان وانتشار ثقافة المخدرات والإباحية والفساد الأخلاقي. هذه المشاكل خطرة على أمريكا وهيمنتها العالمية حيث ستقوض الصورة المجردة من قيم الإنسانية الرغبة العالمية بالنموذج الأمريكي. بقي الحديث عن القوى القادمة بقوة على الساحة الدولية فاليابان كما جاء على لسان بريجنسكي هو صاحب النهوض الحتمي لموقع السيطرة خصوصا مع ارتباط الأمر بالزخم الاقتصادي الياباني المصاحب بالقيم الاجتماعية التي تمنح اليابان فاسدة تنافسية على أمريكا. من المزايا الخاصة التي تملكها اليابان هي الأولويات الاجتماعية التي تتضمن إخلاص المرء لشركته ثم إلى وطنه فعائلته وأخيرا إلى نفسه وذلك ما تقف عكسه القيم الاجتماعية الأمريكية في حين أن الأولويات اليابانية تساهم في خلق مجتمع يتشاطر هدفا مشتركا بشكل تلقائي. إذا ما ارتبط الأمر بالهيمنة فإن اليابان اقتصاديا ناجحة لكنها لا تستطيع الهيمنة عسكريا وستغدو منعزلة لو تمتعت بقوة عسكرية كونها ستقف عرضة للتدمير المتواصل لقوتها الاقتصادية وهكذا يرى كتاب الفوضى إن توسيع القوة العسكرية سيكون مساويا لإضعاف القوة الاقتصادية. أوروبا في الجانب الآخر تقف بقوة اليوم فهي ربما ستكون صاحبة القدرة على مناظرة القوة الاقتصادية الأمريكية واليابانية بفعل ما تملكه من سكان أكثر ذوي تعليم أفضل وسوق داخلية أوسع وتجارة عالمية أكبر وناتج قومي يتفوق على الأمريكي وستعمل هذه القدرة الاقتصادية على بلوغ القوة العسكرية والدور الثقافي المؤثر لتحقيق نفوذ سياسي عالمي. هذا الأمر بالطبع لن يحدث في المستقبل القريب ولن يتحدى الموقع السياسي الخاص بأمريكا في العالم كون الوحدة الأوروبية ستتواصل بوتائر عسيرة جدا تتخللها فترات من التقدم المصحوب بنكسات مؤقتة كبيرة. القوة الأخرى الجديدة يمكن أيضا أن تكون الصين بالرغم من أنه بلد فقير بالمعايير العالمية إلا أن ناتجها القومي يتنامى بقوة حيث سترى الدول النامية الصين كبديل أكثر جذبا من النظامين الشيوعي والأوروبي. يفضي كل ذلك البحث إلى الحديث عن اللامساواة التي لم تكن في الماضي عبئا بسبب انفصال القارات بينما أصبحت اليوم في هذا العالم المتقارب صعبة التحمل كون الشعور بالتقارب يحل محل الإدراك الشديد باللامساواة. تبرز الديمقراطية كأسلوب حياة علمي مرتبط بالحرية.. والحرية المنهجية من دون حرية مادية لن تكون كافية. بعد كل هذا يصل الأمر إلى أن السيطرة الأمريكية العالمية الفاعلة تفتقر إلى السلطة حتى وإن بقيت قوة متفردة لبعض الوقت لكنها ليست كافية لفرض مفهوم النظام العالمي الجديد حيث ستظهر سلاسل تتطلع إلى رسالة أخرى تلتف حول قوى جديدة لتشكل تحديا لهذا العالم القائم. هذه السلاسل قسمها الخبير الأمريكي إلى أمريكا الشمالية أوروبا شرق آسيا جنوب آسيا والهلال الإسلامي المبعثر حسب وصفه وسلسلة آسيا أوروبا وستأخذ الصراعات داخل هذه السلاسل طابعا اقتصاديا.