الرئيسية - كــتب - قديما و حديثا: فلذات أكبادنا.. في بطون الكتب
قديما و حديثا: فلذات أكبادنا.. في بطون الكتب
الساعة 03:00 صباحاً الثورة نت../

المقالح عبد الكريم – ما بين التراث العربي والرواية علاقة وطيدة خاصة تلك الحكائية/السردية إذ إن عناوين خالدة مثل: «سيرة سيف بن ذي يزن» «المقامات» «عنترة بن شداد» «الزير سالم» «ذات الهمة» «ألف ليلة وليلة» «كليلة ودمنة» وغيرها تعتبر جذوراٍ قوية للأدب الروائي العربي وهو ما ينسف المقولات والأطروحات التي تتشدق قائلةٍ: «لم يعرف العرب فن الرواية إلا من الأوروبيين» وهو موضوع جدير بالبحث والدراسة إلا أنه يتعذر التوسع فيه أو شرحه وتفصيل زواياه المتعددة. إن ما نحن بصدده هنا هو موضوع الأولاد وهو موضوع سنجده- إذا ما تتبعناه- ينطلق بنا من عدة مصادر من مصادر التراث العربي ويستقر بنا عند روايات عربية حديثة طرح فيها روائيوها وجهة نظرهم عن هذا الموضوع من واقع نمط الشخصية المتحدثة التي تسوق رأيها المتكون وفقاٍ للبيئة المعاشة والمؤثرات والتأثيرات الداخلة في كيانها سواءٍ كانت ثقافية أو اجتماعية أو غير ذلك ولأنه مدار كبير جداٍ لا يستطيع مقام صغير كمقامنا هذا استيعابه فلا بد من تضييق دائرة البحث حتى يعطي الطرح ثماره المرجوة منه وعليه فإن بحثنا سيدور في فلك المصادر التراثية التالية: «العقد الفريد» لـ «ابن عبد ربه الأندلسي» تحقيق «محمد سعيد العريان» «عيون الأخبار» لـ «ابن قْتيبة» أما على صعيد الرواية العربية فسيدور البحث في فلك: «نجيب محفوظ: السراب- القاهرة الجديدة- بين القصرين- السْكرية- بداية ونهاية» و«إبراهيم الكوني (روائي ليبي): التبر- الدنيا أيام ثلاثة- رباعية الخسوف». شماعة الحياة..!¿ نْطالع في «العقد الفريد» بشكل خاص نمط العلاقة بين الولد وأبيه وذلك من خلال وجهة نظر الثاني- «الأب»- إلى ابنه فهو قليل خبيث حسب إجابة أعرابي سْئل: «ما لك من الولد¿!» ولما كانت إجابته على ذلك النحو «قيل له: ما معناه¿! فرد عليهم: « إنه لا أقل من واحد ولا أخبث من أنثى» إلا أن هذا الواحد هو شر من وجهة نظر «عْمر بن الخطاب» ففي باب «في حب الولد» يْخبرنا «ابن عبدربه» أن «عمر بن الخطاب» نظر إلى رجل يحمل طفلاٍ فوق عْنقه فقال: «ما هذا منك¿! قال: ابني يا أمير المؤمنين قال: أما أنه إن عاش فتنك وإن مات حزنك». ولعله ذات الموقف الذي يتفق معه الروائيان «محفوظ والكوني» فالأول يعتبر البنوة في روايته «القاهرة الجديدة»:«عادة سخيفة لاحقة بظاهرة الأسرة» أما الروائي «إبراهيم الكوني» فيعتبر البنوة من وجهة نظر بطل روايته شراٍ وهو طوارقي بيئته الأولى والنهائية الصحراء وهو ما جعله يقر بأن «الأبناء حجاب الآباء الأبناء فناء الآباء» أضف إلى ذلك أن الولد عند البطل طوق لا يقيد أطراف الأب بقيد من حديد- فقط- وإنما «يشل عقله ويحجب قلبه» وهذا الموقف يزداد تصاعداٍ مع روايته الجديدة «الدنيا أيام ثلاثة» بحيث يشتد الحكم ويقسو أكثر حتى يصير خيالياٍ مجحفاٍ وذلك حسب رأي البطل الذي يقرر- بشيء من غيظ وندم- أن «الذْرية هي نجاستنا التي نضحي في سبيلها بالقداسة الذْرية هي عارنا الذي يلجمنا ويْدنسنا ويشدنا إلى الأسافل بسلسلة طولها سبعون ذراعاٍ لأنها القوة الوحيدة التي تجعلنا نخون أنفسنا نخون حقيقتنا». إن من يظن أن في هذه العبارة مْبالغة أو شطحاٍ روائياٍ صِهِلِ به خيال الكاتب لابد أنه سيصاب بالصدمة حين يعرف أن تحميل الولد الذنوب- بحيث يصير شماعة تعلق عليها كافة الحوادث بل والعواقب- عادة عربية قديمة متجذرة في وجدان الإنسان العربي ففي كتاب «العسجدة» «في كلام الأعراب» يْخبرنا «ابن عبد ربه» في باب «قولهم في الرقائق» بهذا: «قيل لأعرابي: ما أذهب شبابك¿! قال: من طال أمده وكثر ولده وذهب جلده»- أي شبابه- هذا بالنسبة للشباب أما بالنسبة للمال فهو على ذات السياق حيث أثبت «ابن قْتيبة» في «عيون الأخبار» الجزء الأول ما يلي: «قيل لرجل من البصريين: ما لك لا يْنمى مالك¿! قال: لأني اتخذت العيال قبل المال واتخذ الناس المال قبل العيال» ويجد المتأمل هذه الثنائية- «العيال/المال»- أنها تحتل حيزاٍ كبيراٍ في أمثال العرب السائرة فالعيال هْم «سوس المال» وكانوا يرددون: «ما سبق عيالَ مالاٍ قط إلا كان صاحبه فقيراٍ». وكما أن الأولاد زينة الحياة فهم فتنتنا- أيضاٍ- وهو موقف يتبناه بطل «الدنيا أيام ثلاثة». «الأبناء لا يكتفون بأن يكونوا فتنتنا لكنهم يأبون إلا أن يختلسوا حياتنا فإن لم يتمكنوا من أخذها خلسة انتزعوها غصباٍ» ولعل مبرر هذا هو ما باح به أعرابي في «العقد الفريد» حين سئل: «كيف ابنك» وكان به عاقاٍ حيث أجاب: «عذاب لا يقاومه الصبر وفائدة لا يجب فيها الشكر فليتني قد استودعته القبر» ولعله الخوف ذاته الذي جعل أحد الأعراب يتزوج وهو في الخمسين من عمره ولما سئل عن الأمر رد عليهم بجفاء: «أبادره باليتم قبل أن يعاجلني بالعصيان». من جهة أخرى تجسد الخوف من الأبناء في تفاصيل معينة مثل الكثرة نقرأ في عيون الأخبار مما يلي: «ضجر أعرابي بكثرة العيال والولد مع الفقر وبلغه أن الوباء بـ(خيبر) شديد فخرج إليها بعياله يعرضهم للموت وأنشأ يقول: (قْلت لحمى خيبر استعدي هاك عيالي وأجهدي وجدي وباكري بصالب وورد أعانك الله على ذا الجْند) فأخذته الحمى فمات هو وبقي عياله» أو هو فقدانهم ففي «العقد الفريد» قيل لأعرابية أصيبت بابنها عن أحسن عزائها فردت: «إن فقدي إياه أمنني كل فقد سواه وإن مصيبتي به هونت علي المصائب بعده ثم أنشأت تقول: (من شاء بعدك فليمت فعليك كنت أحاذر كنت السواد لمقلتي فعليك يبكي الناظر ليت المنازل والديار حفائر ومقابر) وإذا كان الفقدان هنا بهذا الحجم من الهول والأسى فإنه عند أعرابي لا شيء يْذكر فقد سئل: «كيف حْزنك على ولدك¿! قال: ما ترك هم الغداء والعشاء لي حزناٍ». تفاحة القلب..! حسب الأسطورة الإغريقية كان ثمة حبة انفلقت إلى نصفين الأول الرجل والثاني المرأة ويظل كل نصف يحن إلى النصف الآخر حتى يلتقيا لكن هذه المرأة أخرى من وجهة نظر أعرابي سبق ذكره حين سئل عن الولد فأجاب: «قليل خبيث»- أي واحد وأنثى- ولعلها ذات الرؤية التي انطلق منها «عمرو بن العاص» لما دخل على «معاوية» وبين يديه ابنته «عائشة» فسأله: «من هذه¿!» فرد «معاوية»: «هذه تفاحة القلب فقال له: انبذها عنك فوالله إنهن ليلدن الأعداء ويقربن البعداء ويورثن الضغائن» ويبدو أن هذا الموقف الهجومي حاد اللهجة قد صدم «معاوية» الذي-كما ورد في «العقد الفريد»- وقف مْدافعاٍ بقوله: «لا تقل ذاك يا عمرو فو الله ما مِرض المرضى ولا ندب الموتى ولا أعان على الأحزان مثلهن ورب ابن أخت قد نفع خاله». إن موقف «عمرو بن العاص» يكاد يكون موقف رجل بدوي عاش في الصحراء فنشأ على قيم معينة تؤسس حكمها بناءٍ على قوالب جامدة محددة كما نجد الأمر في رواية «الدنيا أيام ثلاثة» لـ «الكوني» عند العجوز خادم المعبد الذي يقول بندم: «حاولت أن أتنصل فاحتالت علي بالولدحاولت أن أتحرر فنالتني بدمية لئيمة اسمها صبية» أما إذا أردنا ترك المضارب الصحراوية والتوجه نحو المدينة فسنجد أن نمط الحياة العصرية يقولب لدى من يعيش خضمها أفكاراٍ خاصة هذه المرة على صعيد آخر وهو ثنائية «المرأة/الزواج» ففي ثلاثية «نجيب محفوظ» الجزء الأول «بين القصرين» نجد-بطريقة معينة- أن «البنت مشكلة حقاٍ ألا ترى أنا لا نألو أن نؤدبها ونهذبها ونحفظها ونصونها¿ لكن ألا ترى أنا بعد هذا كله نحملها بأنفسنا إلى رجل غريب لفعل بها ما يشاء الحمد لله الذي لا يحمد على مكروهُ سواه». إن موقف السيد «أحمد عبد الجواد» قد لا يْفهم أو لا يْعدْ منطقياٍ بالمرة لكن إذا ما عدنا قليلاٍ إلى الوراء- تماماٍ إلى رواية «السراب» التي تعد من أولى روايات «نجيب محفوظ- فسنجد أن الدافع الخفي والأساسي قد يكون الحب: «إنه من التعاسة أن تْنجب بناتا وأن ترضى لهن بمضاجعة الأغراب في بيتك باسم الزواج عار كبير مهما قالوا إن الزواج نصف الدين إلا إذا كان النصف الآخر هو الطلاق»». إن هذه الثنائية تْشكل- على ما يبدو- مأزقاٍ حرجاٍ للأب الذي سيتأزم موقفه أكثر وسيصاب بحيرة تورثه بلبلة لا تْحد فهو في «بين القصرين» كسائر الآباء غاية ما يرجوه هو الستر لابنته: «لكن لعله تمنى كثيراٍ لو لم يكن الزواج الوسيلة الوحيدة لهذا (الستر) ولعله تمنى لو كان الله تعالى خلق البنات على طبيعة لا تْحتم الزواج أو لعله تمنى في الأقل لو لم يكن أنجب إناثاٍ قط».