الرئيسية - كــتب - خالد اليوسف في وحشة النهار والنهاية الفارقة
خالد اليوسف في وحشة النهار والنهاية الفارقة
الساعة 03:00 صباحاً الثورة نت../

في مقاربتي هذه أضع بعض نقاط قراءتي لآخر إصدارات كاتب سعودي مثابر ومتجدد, وهو الإصدار الإبداعي العاشر له.. بعد سبع مجاميع قصصية وروايتين إضافة إلى عدة إصدارات أدبية أبرزها انطولوجيا القصة القصيرة في السعودية (نصوص وسير) ولا أخفي القارئ سرا أن أبوح له بأني صمت مبهورا مع آخر كلمات الرواية ..تلك النهاية الصادمة لسهيل شخصية وحشة النهار المحورية وساردها الأول..بعد أن كنت أتمنى لو أن الكاتب سمى روايته غْزيل بديلا عن عنوانها وحشة النهار, حتى نهاية الرواية لأدرك كم أن الكاتب قد توفق في اختيار عنوان روايته.. وقد رمز إلى النهار بشموسه وحركاته بما يعني واقعنا بعتامته وبكل تناقضاته وأرى وحشته تتجلى بكل قسوتها على سهيل ذلك الكائن المختلف في مجتمع لا يقدر المختلف ولا يتقبله. استعدت قراءتي لأجزاء الرواية ووجدتني أقف بمزيد من التأمل حول نهايتها سائلا نفسي هل اليوسف كاتب نهايات فارقة ..ذلك الإنسان الهادئ هدوء الصحراء وغموضها¿ متخيلا وقد أستحوذ على كل قراء نهاية وحشة النهار . أكتب كمتذوق وقارئ مبررا له جميع ما ظننته فضفضة في بعض أجزاء الرواية وزائدة عن حدها خاصة في الجزء الرابع عشر من الرواية. تقع وحشة النهار في مائة وستين صفحة وزعت إلى ست وعشرين جزء. صادرة في طبعتها الأولى من دار الانتشار العربي بيروت 2013 والمتابع لإنجاز اليوسف الإبداعي سيلاحظ أن هذا العمل قد تجاوز روايتيه السابقتين وديان الإبريزي ونساء البخور في نواح عدة. ما يبشر بأعمال قادمة متميزة . أكتب مقاربتي هذه لأطرح ملاحظات استشفيتها من قراءتي للرواية.. وقد غلب إحساسي بالشفقة على تلك الشخصية (سهيل) ذلك الكائن الغريب على مجتمعه بما يحمل عقله من اختلاف, وقد أسند إليه الكاتب سارد أول مقابل السارد الثاني أمه والسارد الثالث والده والسارد الرابع شقيقه مشاري.. ثم هناك سارد أصفه بالرابط بين المتلقي ومن يحكي وهذا قام به السارد الأول . وأجزم بأن اليوسف قد نوع سْراد عمله بوعي ما يجعل القارئ يشعر بتناغم مرن وهو يتنقل بين مشهد وآخر, أو لقطة وتليها , وهو ينتقل من سارد إلى آخر بلذة مشوقة ومرنة وإن كان وصف السارد الأول في بعض الأجزاء قد تحول إلى وصف تقريري وهو يصف الطبيعة وحياته الدراسية وعلاقاته بمدرسية ابتداء بمدرس الرسم في الثانوية وعودة إلى مدرس التعبير في المتوسطة.. ثم وصفه المسهب واستعراضه لأسماء الأدباء الذين قرأ لهم وعناوين مؤلفاتهم. وتأثير ذلك على حبه للمطالعة والتحصيل.أو كما ذكرنا حول الجزء الرابع عشر. برز ذلك الوصف لأحوال مدينة رفحا وما يحيط بها من رياض وصحار ليقدم لنا الكاتب سرداٍ سيرياٍ للمكان جاعلا منه إحدى شخصيات العمل في أجزاء عديدة من العمل ليتصاعد ويتحول الوصف إلى وصف فني بديع ويصل إلى ذروته في الجزء الثالث عشر حين يصف لنا السارد الأول ما يعني له البيت القديم وما يعني أن يعيش وسط جن يحبهم ويحبونه واصفا ليالي الأشجار مع الريح وشكوك الجيران المسنين من أعزب يعيش وحيدا في بيت مهجور.. في هذا الجزء من الرواية تجلت قدرة الكاتب على إيصال أحاسيس السارد إلى أقاصي الوجع الإنساني وكأن القارئ حين يقرأ ما كتب يسمع أنين ناي يعانق نغم كمان شجياٍ هو صوت السارد واصفا غربته وسط مجتمعه معددا أسباب تعلقه بذلك المكان. الرواية تنتقد عدة أنظمة منها النظام الاجتماعي وتلك الطبقية التي تتحكم في علاقات أفراد المجتمع متخفية تحت غطاء العادات والتقاليد, لتصنفهم أفرادا ذوي مكانات مجتمعية متباينة, وتوزعهم إلى شرائح وكتل من الصعب المصاهرة بينها.. وكذا تصور ذلك الرفض بين أتباع المذاهب من شيعة وسنة . وتنتقد نظام التعليم من خلال عدم إدراج بعض المواد العلمية أو الفلسفي والفنية في مناهج الدراسة وتحكم المتزمتين في نظام التعليم. الرواية تشير إلى تلك المفاهيم الدينية التي تعيق حركة التطور والتحديث في المجتمع وتطلق قدرات أفراده فاضحة ذلك الخطاب الديني المتحجر, وأولئك الخطباء نافخي الكير, وتلك الممارسات الخاطئة باسم الدين والقيم بينما الدين منها براء. وعودة على بدء إلى لوحة الغلاف.. وعادة لا أعدها جزءاٍ من العمل الأدبي خاصة إذا ما أدركنا أن المتن يظل ثابتا مهما تعددت طباعتها, وأن الغلاف يتغير في أكثر الحالات تباعا لكل طبعة.. وهنا أجد أن اللوحة لا يمكن فهمها إلا بعد أن يكمل القارئ قراءته للعمل. ثم يمكنه العودة للتحليل والتأمل في لوحة الغلاف طبقا للمعطيات ومجريات أحداث الرواية.. ليرى سهيلا أو يرى نفسه وقد تلحف بأردية الليل في عز النهار وتحت شموسه, بديلا عن وحشة الضوء تلك الوحشة التي غمرت سهيل بسوداويتها مفضلا حياة الجن بديلة لمخالطة البشر الذين يرون فيه مسخاٍ ومعتوهاٍ ومنحرفاٍ, مفضلا حياة العزلة فرحا بلحظات الليل بديلا عن سطوع ضوء النهار, لوحة الغلاف تنسجم مع العنوان ومع وضع يصعب على الكثيرين معايشته. تلك التفاصيل الدقيقة عن بيئة الصحراء ومجتمع الصحراء لا يمكن أن تأتي إلا من كائن عاش ليستقطع جزءاٍ من سيرة له.. فهل الكاتب له نصيب من تلك الأحداث وتلك الشخصيات¿ محمد شكري قدم لنا في الخبز الحافي أوضاع مجتمعه في قالب روائي متكئا على سيرته وسيرة أسرته في انتقالها من الريف المغربي إلى مدينة طنجة إثر مجاعة عمت أرياف المغرب.. ليقدم لنا إحدى روائع الأدب العربي بل والعالمي. وهناك الكثير من الروايات الرائعة في أدبنا العربي التي يستعير فيها الكاتب جزءاٍ أو كل سيرته ومنها الروائي السوري حنا مينا, الذي أخذ منها ما يساعده على تقديم عمل يراه أكثر صدقا وتماسكا, فهل معيب على الكاتب الاتكاء على سيرته أو استعارة سير آخرين من حوله¿ وهي أسئلة مشروعة البعض يرى أن الإجابة بنعم قد تقلل من قدرات الكاتب. وفي أدب الصحراء لن أعرج على أعمال إبراهيم الكوني , بل على كتاب سعوديين أمثال : المزيني في روايته (الطقاقة بخيتة) الذي قدم لنا حيزاٍ من مجتمع الصحراء وأجاد في تقديمه .. وكذلك خال في (فسوق) والمحيميد في قارورة, وإن لم يقتربا أكثر مثل المزيني في طقاقته, وغيرهم, بالمقابل وحشة المكان قدمت لنا مجتمعا يعيش بشكل متواز في بيئة صحراوية تتجه للتمدن وقد مثلت (رفحا) كمثال للتجمعات السكانية الجديدة, وإن ظلت غارقة في صحراويتها.. مندغمة بذلك الفضاء الواسع الذي يحيطها ويؤثر فيها. سهيل الفنان الذي ظل حتى آخر رمق متشبثا ببيئة النقاء والصفاء وأفق يراه أكثر تعايشا بين الكائنات البشرية ومع ما وراء الطبيعة من أرواح .. ليقدم لنا الكاتب تلك الفضاءات بروح الكائن العاشق لبيئة هي في نظر الكثيرين بيئة موحشة ومخيفة. وقد أحكم الكتاب قبضته على دهشة القارئ ورغبته بمعرفة المزيد عن أحوال ذلك المجتمع وأسباب عجز سهيل التأقلم معه رغم عشقه له .. ثم تلك العلاقة الغامضة بين الأم وبيئة زوجها ومجتمعه.. وأعمقها علاقة سهيل بغزيل من خلال تناغم تلك الأصوات المتمثلة في السارد الأول سهيل الذي احتل المساحة الواسعة في سرد أحداث الرواية كسارد مباشر ورابط بين مجموعة من السراد أولهم والدته التي مثلت رمزا للتعايش بين المذاهب المتناقضة والأجناس المتباعدة.. ثم السارد الثاني الوالد الذي ظل يمثل الصوت الذي يستدعي حكايات الماضي كتأصيل لمجتمع يتعايش في تكامل وأول تلك الأمثلة زواجه بمن أحب رغم اختلاف بيئتيهما ومذهبيهما .. إضافة إلى أنه مثل رمزا لمجتمع يبحث عن هويته وعن جذوره في طفرة تحول كبرى. في الوقت الذي كان متساهلا متقبلا لكل ما هو مختلف عنه. الصوت الثالث مشاري الذي استدعاه الكاتب في الجزء السادس والعشرين من الرواية.. ليقدم لنا تلك النهاية القوية حد الإدهاش. لحظتها يجد أخاه ميتا وإلى جواره كتاب الله.. واصفا تلك الصالة في بيتهم المهجور بعين المحب وقد تحولت إلى نقطة ضوء تشع تلك الكتب من على رفوفها وتلك الأعمال الفنية المعلقة على الجدران التي يدينها الوعي الديني التقليدي ويكفر من يمارسها. مقدما لنا سهيلا كجوهر نقي ومبدعا خلاقا.. شجرة معطاءة في مجتمع لا يعي أهمية ذلك الكائن. الكاتب تغلب على جفاء التقريرية في بعض أجزاء روايته, بقدرته على طرح ما يشد القارئ بين أجزائها من خلال تلك الشخصيات المبهمة, سهيل وعجزه ,وحياته بمعزل عن المجتمع.. ليجبر الكاتب القارئ على مزيد من اكتشاف سهيل , لتتوالد الأسئلة في عقل القارئ: هل هو طاعن في السن..أم عاجز من مرض عضال أو إصابة ما¿ ليكتشفه بعد حين أن سهيل في مقتبل العمر وليس شيخا كبيرا .. ثم يبحث عن سبب عجزه وما إلم به حتى يظل طريح فراشه.. ويظل منشغلا بالبحث عن أجوبة لتلك الأسئلة .. حتى يقطع بقراءته ثلاثة أرباع الرواية ليكتشف بأن ذلك الكائن ضحية لعدة عوامل , منها اغترابه وسط مجتمعه لعدم تقديره للمواهب الخلاقة, والعامل الثاني عاطفته التي قادته ليعيش حباٍ عاصفاٍ وقوياٍ. وهنا أتوقف قليلا مع قصة الحب العاصف الذي ربط سهيلا بغزيل.. وأشعر بأن مسألة السحر التي جعلت من الحبيبة كائناٍ مْدمراٍ قد أخذت مسارا كان من الأفضل لو أن الحبيبة كانت في غير موقع الجلاد.. وأن الأحبة في مجتمعاتنا ضحايا , وأن القيم والمفاهيم السائدة دوما ما تحول مجتمعاتنا إلى مجتمعات تسلطية قمعية. وكم كان رائعا لو أن الحبيب سهيل وقع في سحر الحب , وأن غزيل ظلت تلك المحبة الوفية المضحية بالتواصل لتموت على الوفاء. أمر آخر كم كان رائعا أن قدم لنا الكاتب تلك البيئة المليئة بالأرواح المسالمة التي تتعايش بسلام مع سهيل في البيت المهجور بل وبلغ الأمر بها إلى الاعتناء مقابل قسوة المجتمع ورفضه له. وهنا قدم لنا الكاتب أن الوهم يمكنه أن يكون أكثر سكينة وسلاما من واقع يعيشه الفرد .. وقد يرى القارئ أن تلك الأرواح التي كان يشعر بها سهيل حوله ما هي إلا وهم جميل . وأن المجتمع يحول ذلك الوهم (الجن) إلى أدوات للقمع والتسلط وإلغاء لكل ماهو مختلف لقيم وتقاليد ومفاهيم لا تتطابق وكرامة الإنسان وتنامي وعيه الإنساني الخلاق. الرواية ترصد ذلك التحول الكبير في حياة المجتمع السعودي .. فشركة أرامكو وخط التابلاين وما يمثلاه من رمزية في استخراج واستغلال ثروات البلاد لإحداث ذلك المشروع النهضوي الذي حول مجتمع المملكة من مجتمع في عداد المجتمعات الفقيرة المتخلفة إلى مجتمع واعد, له أثره الإقليمي اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا. إضافة إلى رمزية تلك المشاريع الاستراتجية إقليميا كرمز لقوى الغرب المهيمنة على مقدرات الشعوب والاقتصاد العالمي. أمر آخر وهو أثر الحروب الإقليمية والعربية على وعي المجتمع العربي السعودي ابتداء بحروب العرب مع إسرائيل مرورا بالحروب العربية العربية. ومنها حرب الخليج الأولى والثانية واجتياح العراق للكويت. وأثرها المدمر على وعي الفرد في المجتمعات العربية. وعودة لجانب فني سبق ذكره ضمن الاستعراض الموضوعي للرواية لأهميته, إذ إن الكاتب يمتلك قدرات فنية عالية حين استخدم تقنية تعدد الأصوات لتصل إلى أكثر من خمسة أصوات أولها السارد الرئيسي , ثم بقوله قال أبي أو قالت لي أمي أو حكت أو حكى ليترك السارد الأول موقعه لأبيه أو أمه متحولا إلى متلق وفي نفس الوقت موصل لما يقال.. ثم يأتي السارد الرابع في الجزء الأخير , نهاية الرواية (مشاري) وهو يصف لنا مشهد وضع جثة أخيه وما يحيط به في صالة البيت المهجور , حين يقول الروائي ” قال مشاري الأخ الأصغر لسهيل وحينما خرجت للبحث عن أكل….” الخ الرواية. ثم صوت السارد الخامس والذي جاء على لسان السارد الأول محيلا ما سيحكيه لأبيه فيقول: حكى لي أبي, حدثني أبي , علمت من أبي, سمعت من أبي ليستمر في سرد الحكايات على لسان أبيه كسارد رابط بين المتلقي وأبيه أو كسارد باطني. الكاتب لم ينتهج أسلوب الحكي التقليدي التصاعدي, بل جعل لكل سارد وظيفته.. فسهيل يسرد للمتلقي مباشرة عما يعيشه حاضرا وما عاشه في ماضيه دون ترتيب, مستعرضا حكاياته مع محبوبته غزيل أو مستذكرا أيام طفولته وسنوات دراسته , متحدثا عن ذكريات خروجه مع أبيه للصيد, حاكيا حياته مع شركاء سكنه المهجور أما الوالد فقد كان يمثل لابنه ما يشبه الناصح مستشهدا ببداية حياته وحبه لزوجته ثم زواجه بها , مقدما عدة قصص عن بداية عمله وعن تنقله من بيئته الأولى إلى مدينة الظهرن بحثا عن حياة جديدة ثم عمله كموظف مع شركة أرامكو وانتقاله كفني أثناء مد خط التابلاين إلى مدينة تكونت في خط النفط رفحا.. وهكذا هي والدته التي أضاءت فترات قصيرة من حياة الأسرة بحكاياتها لابنها. إذا هي رواية ترسم الحاضر بترابطه مع الماضي القريب, ليقدم لنا الكاتب ببراعته حياة مجتمع الصحراء وتحوله التدريجي إلى مجتمع مدني يتخلص من عادات العشيرة والقبيلة وإن ظلت ركائزها تكمن في أعماق كل فرد. عمل مدهش بموضوعاته وتقنياته.. مع انتظارنا بشوق المحبين لجديد اليوسف السردي.