الرئيسية - الدين والحياة - قصة ابن زريق البغدادي في قصيدة »لا تعذليه«
قصة ابن زريق البغدادي في قصيدة »لا تعذليه«
الساعة 03:00 صباحاً الثورة نت../

رْوي أن ابن زريق البغدادي كان شاباٍ وسيماٍ بهي الطلعة, فصيح اللسان وكان فارساٍ في الشعر لا يشق له غبار, أو ينفرط له عقد, يتنقل بين الأمصار كما تتنقل الطيور المهاجرة بحثا عن الرزق, فقد كان يدخل على الملوك فيستمتعون بروعة شعره وحسن بيانه فيغدقون عليه بالعطايا والهبات, فيعود إلى بلده ” بطانا, كما تعود أسراب القطا التي تغدو خماصا وتعود بطانا. وفي أحد الأيام وهو عائد إلى موطنه بغداد من رحلة شاقة أصابه إعياؤها وأرقه وعثاؤها º لبعد المشقة وطول السفر.. عاد موفر الجانب. وأثناء عودته دار في خلده حلم عمره الجميل, الذي يذرع الآفاق من أجله ويقتحم الأهوال في سبيله …حبه العذري لبنة عمه ورقاء التي كان يعشقها حتى الثمالة, فهو يريد الزواج منها, ولكن لقلة اليد ظل هذا الحلم حبيس المشاعر…ولعلى وافر غْنمه هذه المرة يمكنه من تحقيق حلمه الذي طال شوقه إليه, ومرغته رمال الصحراء وهو يلهث خلفه, بل كادت تبتلعه أكثر من مرة.. ولولا أنه كان يمزج مرارة المشقة, بحلاوة حلمه الجميل, وهدفه النبيل ـ فلا يجد لعنائه أثراٍ, لولا ذلك لما تحمل طول عنائه وتعبه.. ولكن لابد دون الشهد من إبر النحل.

تدنوا المعالي لمن يسترخص التعبا ومن إليها يشد الرحل والطلبا من رام في طلب الغيـات تتبعـهْ وليس يبلغها ناءُ ولو رغبا من يعشق الغيد لا ينجو من العلل وينتـي دونها المــوصوفْ بالكسل فاسلك عباب الفيافي كي تناولها مهر الوصال ولا تبقى على السبل

لقد قرر ابن زريق بعد هذه الرحلة أن يستقر ويكف عن الترحال ويتزوج بفتاة أحلامه وروضة أنسامه.. تلك الغادة الحسناء التي سلبت عليه لبه, وأسرت شغافه وقلبه…إنه يراها مْلكهْ الذي يتضاءل دونها كل ملك º لأن الملك تجتمع فيه كل مشتهيات النفس !! وهو يراها كذلك.! كيف لا وهي ورقاء بغداد مليحة المليحات, درة تسكن الكرخ, والدنيا تتحدث عن جمالها الفريد وعقلها الرشيد, لقد رفضت كل من تقدم إليها وفيهم كبراء القوم وأشرافهم . دنى العاشق الذي يذرع الآفاق من ضواحي بغداد ولم يشعر بوصوله, فما يزال مستغرقا بآماله العريضة التي تبهجه حينا و تغتاله حينا آخر بسبب مخاوفه, ها هو يطلق لها العنان, فيقول لنفسه: هل يا ترها رفضت من تقدم لها من أجلي أم أني أتوهم أنها تنتظرني وهي ليست كذلك¿…لقد أحببتها أكثر من نفسي فهل تراها أحبتني كما أحببتها…أترى تلك الرشقات التي كنت أشعر بها ـ وهي تلوح من خلف الحجب واخضرار السواقي على مرفئ النبع والتل والرابية ـ صدفة عابرة, أو ومضة شاعرة, أيكون ما أصبو إليه سرابا أحسبه ماء حتى إذا جئته لا أجده شيئاٍ… ونهنه ليطمئن نفسه : كلا والله لن يكون سراب في سراب وقد شممت هواها في ربوات الهضاب ونسيمات الشعاب: وهيهات أن يند عني حديث العيون وإن لم تنطق به الشفاه, ولكني أخشى ما أخشاه أن يكون ذاك الدلال الموشى بالحشمة, هفهفة قْربا وحسن جيرة, أو وفاء لذكرى ملاعب الصبا, لا سامح الله الظبى, يقتلنا ذا اللب حتى لا حراك له برمية الطرف كم في الناس مقتولْ: سأعرفْ حين يجمعنا الجوارْ أتصدقني المشاعرْ أم تحارَ. وظل هكذا يداهمه الاضطراب وينصرف عنه كلما فكر بالتقدم لخطبتها خشية أن يفجع بما لا يرجو و تفارقه روحه….لكنه إلى الرجاء أميل, ها هو يلامس شغاف قلبه وجد يتدفق كالشلال يشيد بذكر أخلاقها وحسن أوصافها, متذكرا مواقف خلتú وآمال وفتú بلسان حاله قائلا قصيدته الرائعة التي جاء في مطلعها: كؤوس الحب تْسكر كالمدام وتضرم مهجة الجلد الهمام ونبض الحب في الأرواح يسري ولو عجز المحب عن الكلام وبعد وصوله بغداد سعى في حاجته التي عزم عليها وتم له ما أراد وتحقق حلمه وخابت وساوسه, وتزوج ببنة عمه وعاشا أحلى أيام عمرهما, في سعادة غامرة, يرشفان من كأس حب مترع كالشهد, ومخضر كالسندس, وظلا على ذلك فترة ليست بالطويلة.. فما يزال حديث عهد بحبيبة جاءت بعد طول عناء وشوق, حتى نفد ما كان عنده وأصابته فاقة, فأراد أن يغادر بغداد إلى الأندلس لسد فاقته, وذلك بمدح أمرائها وعظمائها ولكن زوجته تشبثتú به وتعلقت بأثوابه كما يتعلق الوجل المحب بأستار الكعبة º محاولة بكل جهدها أن تثنيه عن الرحيل وتقنعه بالبقاء بجوارها شغفا وحبٍا, وخشية وخوفا.. ولقد ألحت معللة له بأن الرزق سيأتيهما ويكفهما وإن قل, مهونة من الفاقة ومعظمة لما بين يديهما من السعادة, فقد كانا ينهلان من نبع الهوى كما ينهل الظامئ من الماء العذب, ولكن دون جدوى فلم ينصت لها, وتجهز مفارقا وهي تبكيه و يبكيها, ورحل قاصد الأمير أبا الخير عبد الرحمن الأندلسي, ولما بلغ الأندلس مدحه بقصيدةُ بليغة, فأعطاه عطاءٍ قليلاٍ لا يكاد يذكر فتحطمت آماله وانهار كيانه, وقال – والحزن يحرقه -: “إنا لله وإنا إليه راجعون سلكتْ القفار وخضت البحارِ إلى هذا الرجل فأعطاني هذا العطاء الذي لا يفي بنزر يسير مما أنفقته في رحلتي إليه.. ولا حول ولا قوة إلا بالله, وخرج منكسر النفس خائر القوي لا يدري ما يفعل, ونزل ـ مهموما ـ بكوخ استأجره لمبيته ¿!”.ثم تذكِر ما اقترفه في حق زوجته التي أنحلها البين وأضر بها الفراق, فمازالت تبكيه مذ رحل عنها, فلو استجاب لها لكان خيرا له, ولكن ما شاء الله قدر, ثم تذكر طول البين وبعد الشقة وما سيتحمِله من مشاقُ لعودته التي ربما تأخذ منه شهورا, مع لزوم الفقر وضيق ذات اليد, فاعتلِ غمٍا وداهمته حمى المنية فمات من ليلته تلك, وأورد بعض الروات أن الأمير كان يختبره بقلة عطائه, فأرسل في طلبه صبيحة اليوم الذي قضى فيه فوجده ميتا, وتحت رأسه رقعة مكتوب فيها: تلك القصيدة العصماء التي خلدت ذكره ورفعت قدره, لقد سطرها بجراح قلبه ونزيف وجده, وظل الأمير يبكيه بكاء مرا حتى فارق الحياة, وأقسم بعد قرأته القصيدة أن لوكان حيا لأعطاه نصف ثروته, وهيهات تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن…لقد طافت قصته بقصيدته الآفاقº وبلغت من النفوس الأعماق, لما فيها من جليل المعاني وكريم الأخلاق, وذلك لا يساوى أموال الدنيا.. وإلى يومنا هذا والأجيال تلو الأجيال تستمتع برقتها وروعة تصويرها, إنها بديعة كل الأزمان ورائعة تفوق كل الأشعار, فهي بذاتها القصة من قرأها لا يمل تكرارها º ربما لأنه أمهرها أنفاسه, فبعد أن سكب الشاعر روحه فيها فاضت, ولم يْرو له سواها. ولعل هذا الثمن الباهض جعل لها هذا الأثر والخلود.. يقول في مطلعها مخاطبا ابنة عمه التي مات وجدا وكمدا على فراقها: لا تِعـذِليـه فِإنِ العِـذلِ يْـولعْـــهْ ** قِد قِلت حِقـاٍ وِلِكن لِيسِ يِسمِـعْـهْ جاوِزت في نصحه حِداٍ أِضِرِبه مـن حِيثِ قِدرت أِنِ النصح يِنفِعْهْ إني أِوِسعْ عْذري في جِنايِته بالبين عنهْ وِجْرمي لا يْوِسعْهْ كما يقول فيها لائما نفسه وتفريطه بما آتاه الله من أجل غريزة الطمع: رْزقتْ مْلكاٍ فِلِم أِحسن سياسِتِهْ وِكْلْ مِن لا يْسْوسْ المْلكِ يِخلِعْهْ وِمِن غِدا لابساٍ ثِوبِ النِعيم بلا شِكرُ عِلِيه فِإنِ اللِهِ يِنزِعْهْ

ويختتم هذه القصيدة بحسرة وألم قائلا:

عِسى اللِيالي الِتي أِضنِت بفْرقِتِنا جسمي سِتِجمِعْني يِوماٍ وِتِجمِعْهْ وِإن تْغل أِحِدِاٍ منا مِنيِتِهْ فِما الِذي بقِضاء اللِه يِصنِعْهْ