انطلاق أعمال الاجتماع الوزاري المشترك الـ29 بين مجلس التعاون الخليجي والاتحاد الأوروبي
رئيس الوزراء يزور واحة شهداء دولة الإمارات العربية المتحدة
مصر تفوز بمنصب مدير عام اليونسكو.. والسيسي يهنئ ويعتبره إنجاز للشعوب العربية والأفريقية
شرطة تعز تضبط مطلوبين أمنياً لعدد من المحافظات
احتفال بيوم اللغة المهرية تحت شعار "فخرٌ وأصالة"
محافظ تعز يبحث مع كبير مستشاري مكتب المبعوث الأممي جهود بناء السلام
اليمن يؤكد الالتزام بحماية اللاجئين ويدعو إلى شراكة حقيقية ومستدامة لدعم جهود الحكومة
الزعوري يبحث مع صندوق الأمم المتحدة للسكان تعزيز التعاون المشترك
الأرصاد الجوية: المنخفض الجوي في بحر العرب تراجع إلى عاصفة إعصارية
نعمان يلتقي مندوبة دولة قطر لدى المقر الأوروبي في جنيف
من بين كل أدوات الخراب التي ابتكرها العقل البشري، تبقى الألغام الأرضية السلاح الوحيد الذي يواصل القتل طويلاً بعد أن تصمت المدافع وتُطوى خرائط الحرب ، فهي لا تعرف هدنة، ولا تفرّق بين جندي ومدني، ولا تلتزم بحدود معركة أو توقيت هدنة، تُزرع في دقائق لكنها تحصد الأرواح لعقود، لتتحوّل الحرب من حدث عابر إلى نزيف مستمر في الجغرافيا والذاكرة والاقتصاد.
وإذا كانت البشرية قد خلّفت منذ الحرب العالمية الثانية ما يزيد على 110 ملايين لغم أرضي في أكثر من 60 دولة، فإن اليمن تحوّلت خلال العقد الأخير إلى واحدة من أخطر بؤر الألغام على وجه الأرض، والسبب الرئيس في ذلك هو ميليشيا الحوثي التي جعلت من الألغام (عقيدة قتالية) و(أداة انتقام جماعي) لاستخدامها ضد المجتمع اليمني بأسره.
منذ عام 2014، زرع الحوثيون أكثر من مليوني لغم أرضي في مختلف المحافظات اليمنية، وفق تقارير منظمات دولية، بينها ما يزيد على 500 ألف لغم مضاد للأفراد في مناطق مدنية بالكامل — في الطرقات، المزارع، مصادر المياه، وحتى في ممرات المدارس والمستشفيات. هذا الاستخدام الكثيف والعشوائي لم تشهده أي حرب أهلية في القرن الحادي والعشرين، وهو ما دفع خبراء نزع الألغام لوصف اليمن بأنها (أكبر حقل موت مفتوح في العالم)..!
وما يزيد مأساوية هذا الواقع أن تكلفة زرع اللغم الواحد لا تتجاوز بضعة دولارات، بينما تتراوح تكلفة نزعه بين 300 و1000 دولار، ما يجعل الحوثيين قادرين على تلغيم مساحات شاسعة بأقل الإمكانات، بينما تواجه فرق الإزالة تحديات مالية وتقنية هائلة.
لقد حوّلت هذه الجماعة اليمن إلى خريطة من الفخاخ المميتة، إذ تشير التقديرات إلى أن الألغام التي زرعها الحوثيون تسببت منذ اندلاع الحرب في مقتل أو إصابة أكثر من 12 ألف مدني، من بينهم ما يزيد على 40% من الأطفال والنساء. وخلال عام واحد فقط (2023)، تم تسجيل أكثر من 1600 ضحية جراء الألغام الحوثية في محافظات الحديدة وتعز ومأرب والبيضاء والجوف.
الألغام الحوثية لا تقتل فقط، بل تُصيب وتُشوّه وتسرق المستقبل؛ فهي تعطل الزراعة والرعي في أكثر من 20% من الأراضي الزراعية، وتعيق عودة ما يزيد على 4 ملايين نازح، وتضاعف كلفة مشاريع الإعمار إلى حدود مرهقة. والأدهى أن الحوثيين يستخدمون تقنيات بدائية ومتنوعة- بعضها محلي الصنع وأخرى معدلة من ذخائر روسية وإيرانية- تجعل عملية الإزالة أكثر خطورة وتعقيداً.
ورغم التوقيع العالمي على (اتفاقية أوتاوا) عام 1997 لحظر الألغام المضادة للأفراد، والتي انضمت إليها أكثر من 160 دولة، يرفض الحوثيون الانصياع لأي التزامات قانونية أو إنسانية، ويواصلون زرعها بطريقة لا تعكس تكتيكاً عسكرياً بقدر ما تعكس رغبة في تحويل الجغرافيا اليمنية إلى مقبرة مفتوحة.
لكن وسط هذا الجحيم، يبرز (مشروع مسام) السعودي بوصفه بصيص الأمل الأكبر في معركة استعادة الحياة من براثن الموت. أطلقه مركز الملك سلمان للإغاثة عام 2018، وتمكّن حتى منتصف عام 2025 من نزع أكثر من 430 ألف لغم وعبوة ناسفة في مختلف أنحاء اليمن، ما أنقذ حياة مئات الآلاف وأعاد الحياة إلى مئات القرى التي كانت خارج الاستخدام البشري. ولا يقتصر (مسام) على الإزالة، بل يشمل تدريب فرق يمنية محلية وزرع الوعي المجتمعي بمخاطر الألغام وتقديم الدعم النفسي للضحايا.
لقد اخترع الإنسان الألغام ليكسب الحروب، لكن الحوثي أعاد تعريفها كسلاح للانتقام من مجتمع بأكمله، وكسكينٍ يبقى في الجسد طويلاً بعد توقف الطعن. وبينما يتجه العالم إلى الذكاء الاصطناعي واستعمار الفضاء، ما زالت قرى يمنية تُفخَّخ بقطع معدنية لا يتجاوز وزنها نصف كيلوغرام، لكنها تحمل قدرة على قتل الحياة كلها.
الحرب الحقيقية اليوم ليست في جبهات القتال، بل في حقل موتٍ زرعه الحوثي بالحقد ويزيله الضمير الإنساني ببطء. وفي هذا الميدان، يظل (مسام) شاهداً على أن الخير يمكن أن ينتصر ولو بعد حين، وأن اليمن- رغم كل ما زُرع فيها من موت- قادرة أن تنبت من جديد.