الرئيسية - تقارير وحوارات - المصور عبدالله الجرادي قصة تمشي على ضوء العدسة تروي الحرب والنزوح وتوثق الجمال
المصور عبدالله الجرادي قصة تمشي على ضوء العدسة تروي الحرب والنزوح وتوثق الجمال
الساعة 04:14 مساءً صحيفة الثورة /محمد عبدالرحمن الحميدي

"كل صورة أصورها تحمل قضية إما مأساة الألغام أو معاناة الأطفال، أو حكاية النازحين وأحيانًا انعكاس لجمال الطبيعة كنوع من العلاج النفسي وسط قسوة الحرب والنزوح، في مأرب تحديدًا، البيئة صعبة وقاسية لذلك أي صورة جميلة تخرج من هناك تتحول إلى ترند، المدينة تاريخية وجميلة لكنها تفتقر إلى الصور التي تبرز هذا الجمال المخفي".
يقول عبدالله الجرادي: "بعد فوزي بمسابقة أفضل صورة في اليمن، شعرت أنني دخلت مرحلة جديدة في مسيرتي صار لكل لقطة هدف ولكل صورة رسالة وغاية، التصوير صار عندي أكثر من مجرد كاميرا صار طريقة لرؤية العالم ونقله للآخرين".
ينحدر عبدالله الجرادي من محافظة ريمة، مديرية السلفية، عزلة الظهر، ويحمل شهادة البكالوريوس في الإذاعة والتلفزيون ورغم انتمائه لريمة، إلا أنه ولد وعاش طفولته ودرس المرحلة الابتدائية في محافظة الحديدة حيث تشكلت أولى ملامح شغفه بالحياة... وبالكاميرا.

بدأت حكاية الجرادي مع التصوير في سن الثانية عشرة، حين كان يلتقط صور الأعراس بكاميرا "كوداك" قديمة يتداولها أبناء الحارة. وكان شرطه الوحيد بسيطًا: أن يوفر أصحاب العرس قيمة الفيلم الذي لم يكن يتجاوز 230 ريالًا. لم يكن يدرك حينها أن تلك التجربة الصغيرة ستفتح له طريقًا طويلًا نحو عالم التصوير، وأن المتعة الطفولية ستتحول لاحقًا إلى شغف ومسيرة إنسانية.

ورغم ذلك، ظل التصوير يتسلل إلى حياته من بين الفواصل. يتذكر أنه في الحديدة واصل تصوير بعض الأعراس، وأبرزها عرس صديقه محمد مفتاح، الذي اعتُقل لاحقًا في الحديدة على يد مليشيا الحوثي بعد سيطرتها على العاصمة عام 2014، ثم أُفرج عنه في صفقة تبادل أسرى رعتها الأمم المتحدة عام 2019. وكان عبدالله من بين من استقبلوه في مطار سيئون.
بعد إنهاء دراسته الابتدائية في الحديدة، انتقل إلى صنعاء لمواصلة تعليمه دون أن يفكر يومًا بأن التصوير سيكون مستقبله. يقول عبدالله: "ما كان في بالي موضوع التصوير أبدًا، كنت أفكر أُكمل دراستي وأدخل الجامعة وبعدها أدور وظيفة مثل أغلب زملائي."

يقول الجرادي وهو يسترجع تلك السنوات: "في صنعاء واصلت دراستي ودخلت معهد لغة إنجليزية، وما كان موضوع التصوير في بالي أبدًا. كنت أرتاد محلات الإنترنت وأنسخ صور مناظر طبيعية وأتأملها كثيرًا، ما كنت أعرف أنها تنمي ذوقي الفني، كنت أراها كمتعة بصرية، أرتاح وأنا أتفرج عليها، دون أن أدرك أنها ستشكل لاحقًا إحساسي الفني وتوجهي للتصوير."

بعد دخول الحوثيين صنعاء وبدء عمليات التحالف العربي، بدأت ملامح التحول الكبير في حياة عبدالله الجرادي. في تلك الفوضى، سمع عن حملة تصحيح أوضاع المغتربين في السعودية، فقرر مع مجموعة من أصدقائه المجازفة ومحاولة دخول المملكة عبر التهريب على أمل أن يتمكنوا من تصحيح وضعهم هناك وبدء حياة جديدة.

لكن الرحلة لم تكتمل كما خططوا لها، فقد ألقى حرس الحدود السعودي القبض عليهم بعد الاشتباه في انتمائهم للحوثيين، إذ كانت المعارك على الحدود في أوجها حينها. يتذكر عبدالله تلك اللحظة: "قلنا لهم نحن شباب هاربون من صنعاء، ما لنا علاقة بالحوثيين."

تفهم الجنود موقفهم، لكن الإجراءات الرسمية أخذت مجراها وتم ترحيلهم عبر منفذ حرض، المنفذ الذي سيُغلق لاحقًا بسبب الحرب. ولم يكن عبدالله يُدرك حينها أن القدر يُخبئ له عودة مختلفة إلى المملكة، لا كلاجئ يبحث عن عمل، وإنما كمصور من أفضل المصورين في السعودية.

 

**بداية جديدة**

بعد فشل محاولته الأولى للوصول إلى السعودية، انتقل عبدالله إلى مأرب ليبدأ هناك مرحلة جديدة غيّرت مجرى حياته. يقول: "ذهبت إلى مأرب بعدما أحسست أن الوضع في صنعاء لم يعد يُطاق، فلبست لباسًا شبابيًا عصريًا وقلت في النقاط الأمنية إني ذاهب إلى حضرموت لأزور صديقًا حتى اجتزتها ووصلت مأرب."

كانت المدينة وقتها في حالة نمو وتنمية سريعة، تحتضن أكثر من مليوني نازح بحسب الوحدة التنفيذية لإدارة مخيمات النازحين، وتزدهر فيها مشاريع الإغاثة، مما جعل الحاجة كبيرة لتوثيق قصص الناس وجهود المنظمات هناك. بدأ عبدالله بدراسة دورات تدريبية في التصوير، ثم انطلق إلى الميدان بعدسته.

يقول: "كنت أذهب إلى سد مأرب وأصور جمال المكان، القوارب والمياه والجبال... منظر خيالي، نفس السد الذي كنت أشاهده في كتب المدرسة والآن أصوره بيدي."

في تلك المرحلة، تعمّق فنيًا في تعلّم تقنيات التعريض البطيء، وكرّس وقته لمتابعة دروس من يوتيوب ودورات معهد الجزيرة المجانية. بدأ بعدها يرافق الصحفيين والمراسلين الأجانب كمصور ميداني.

ورغم إيمانه بالقضية الوطنية، إلا أن التوثيق الإنساني جذب روحه أكثر، فاختار عدسته لتروي وجع النازحين وحكايات الناس. خلال سنواته في مأرب، وثّق الصحراء والمزارع ومشاهد الحياة اليومية وقصص النازحين وضحايا الألغام، لتصبح كل صورة يلتقطها حكاية عن إنسان ومكان.

ومع أن تخصصه الأساسي هو تصوير الفيديو، إلا أن عدسته الفوتوغرافية أصبحت سلاحه الأقوى في مواجهة جرائم الحوثي ووجع الحرب.

"أنا في الأساس مصور فيديو، لست فوتوغرافيًا، لكن الصورة كانت سلاحي... سلاح موجه ضد الظلم والقهر الذي يعيشه الناس حولي."

 

مأرب بعين الجرادي

يقول الجرادي إن بيئة مأرب صعبة وقاسية، لكن فيها جمال مخفي لا يعطيك الصورة جاهزة، بل يجب أن تبحث عنها بعمق. "الشخص العادي يرى الصحراء ويقول رمل لا شيء، لكن المصور يراها من منظور آخر، يرى النور والظل والحياة." كان يرى أن مأرب تحتاج من يكتشف جمالها ويظهره للناس.

كل مكان له لحظة مناسبة وتوقيت خاص؛ السد وقت الغروب، المزارع بعد المطر، الصحراء عند مغيب الشمس. هذه اللحظات الذهبية هي سر الصورة وروحها.

ويضيف: "لم أكن أتعامل مع التصوير كنقرة كاميرا، بل كفعل تأمل وبحث عن الجمال في تفاصيل لا يراها غيري. قبل أن أصور أي مكان، أحاول أن أعمل تغذية بصرية للموقع، أرى أعمال مصورين آخرين محليين وأجانب، وأحاول أن أقدم شيئًا جديدًا، لا أحب أن أكرر الزوايا أو أستنسخ اللقطات."

عدسة إنسانية


بعد انتشار صور السد والعرش، بدأ اسم عبدالله يسطع كمصور محترف، وتوسعت أعماله مع المنظمات الإنسانية، خاصة مركز الملك سلمان للإغاثة.

يقول الجرادي: "الصورة التي صورتها لسد مأرب هي التي أشهرتني، بعدها بدأت تأتيني عروض من مؤسسات كثيرة وكنت أشتغل مع الكل، لكن أكثر منظمة عملت معها كانت مركز الملك سلمان؛ لأنهم فعلًا الأقرب لمعاناة الناس، كنت أحس بصدق نيتهم، وكان عندي دافع أن أساهم بطريقتي".

شرط إنساني

عمل عبد الله الجرادي خلال مسيرته مع منظمات دولية وإنسانية مثل اليونسكو، أوكسفام، الأونروا، مركز الملك سلمان للإغاثة، أوتشا، وكير، إضافة إلى مؤسسات إعلامية مثل Dot Notion وJabriz، منفذًا مشاريع لصالح منظمات كبرى كمنظمة الهجرة الدولية ومنظمة الصحة العالمية، واضعًا لمساته الإنسانية في كل عمل يوثقه بعدسته.
وخلال عمله مع هذه المنظمات، ووسط عمله الإنساني، تميز عبد الله بموقف أخلاقي نادر في الوسط الإغاثي، إذ كان يرفض تصوير أي نازح ما لم تقدم له المنظمة مساعدة لا تقل عن مئة دولار، قائلًا إن المصور يستفيد والمنظمة تستفيد بينما صاحب المعاناة نفسه لا يستفيد شيئًا، لذلك كان يشترط على المنظمات هذا الشرط.

هجرة قديمة

مع تصاعد الأزمات العالمية من أوكرانيا إلى السودان وغزة، انكمشت المشاريع الإنسانية في اليمن وتراجعت معها فرص المصورين، وكان عبدالله الجرادي أحد الذين تأثروا بذلك، لكنه لم ينتظر التغيرات لتقرر عنه، إنما اختار طريقه بنفسه؛ شد رحاله إلى السعودية التي كان مخططًا لها منذ سنوات، مؤمنًا بأنها الأرض التي تزدهر فيها الفرص، خصوصًا في ظل رؤية ولي العهد الأمير محمد بن سلمان 2030 وما أفرزته من طفرة فنية وثقافية عبر فعاليات هيئة الترفيه ومواسم الرياض.
يقول الجرادي: "في السعودية التنافسية عالية والفرص مفتوحة والناس راقون في تعاملهم، ما تحس نفسك غريبًا أبدًا."
ومنذ أن بدأ عمله مع هيئة الترفيه مصورًا في موسم الرياض، تغير مسار تجربته بشكل كلي واتسعت مداركه ونضجت عدسته، وصارت مشاريعه تنتشر على المنصات شاهدة على رحلة مصور آمن بأن النور لا يبهت ما دام صاحبه يسعى نحوه.

أخيرًا كنت أتمنى لو أنني دخلت عالم التصوير بدلًا من الصحافة، فقط لأكون أحد طلاب عبدالله الجرادي؛ ذلك المصور الذي يُعرف بين زملائه بلقب "الأستاذ".

ليس لأنه يحمل لقبًا أكاديميًّا، وإنما لأنه مدرسة بحد ذاته يوجه ويرشد ويدعم المصورين الشباب، يأخذ بأيديهم بخبرة وحب حتى يصلوا إلى الاحتراف.