الرئيسية - كــتب - “صنـــــعائـــي”..عشق وابتهالات
“صنـــــعائـــي”..عشق وابتهالات
الساعة 03:00 صباحاً الثورة نت../

(صنعائي) الرواية الصادرة حديثا عن مركز عبادي ظهرت بثوب أنيق..في (280) صفحة.. توزعت على (10) فصول دون عناوين أو ترقيم.. ابتدرت الكاتبة تلك الفصول بعتبات تعريفية أفردت لكل عتبة صفحة كاملة قدمت من خلالها صنعاء بشكل مبتكر: مكونات دور صنعاء وفنونها.. سلاح الرجل الجنبية وما حواها .. وصفات للعرسان ليلة الدخلة.. طبيعة مهنة المقهويات في سمسرات صنعاء.. طقوس حمامات صنعاء البخارية..قصص حكايات وأساطير صنعاء, حكايات بعض المساجد وبالذات المسجد المقدس وأعمدته المسمورة والمنقورة.. عادات وطبائع سكان صنعاء..ماذكره الهمداني عن قصر غمدان الأسطوري.. بعض الخرافات حول قدرات بعض النساء على استعباد من يعشقن. الرواية حكاية عشق في مدينة صنعاء العتيقة.. بداية بعودة أسرة يمنية من منفاها الاختياري في القاهرة بعد غياب 30 سنة.. تنفيذا لوصية رب الأسرة بدفن جثمانه في قلب صنعاء. الشخصية المحورية (صباح) التشكيلية ابنة المتوقي تحاول منذ عودتها أن تجد جذورها.. يسكنها الحنين إلى صنعاء.. والدها من بذر فيها ذلك العشق من خلال حكاياته لها. تعود لتصارع من أجل جذورها.. تبحث عن وطن يحتويها.. لتعيش قصة حب مضطربة مع صنعاني(حميد) تصطدم فيها اختلاف المفاهيم والنظرة للعلاقات الإنسانية..لتفشل تلك الحكاية بين صباح وحميد. عرفنا صنعاء في أعمال روائية مختلفة.. لكن (صنعائي) تقدم المدينة العتيقة في قالب مختلف.. قالب يمتزج فيه عشق المكان بالمعرفة. لم تقدم الكوكباني المدينة العتيقة كمسرح للأحداث فحسب .. بل قدمتها كشخصية لها روح ..شخصية فاعلة. وهي المحور للرواية . وأجزم بأن تخصص الكوكباني-الهندسة- قد خدمها في تقديم هذا العمل المتميز. فكما يطلق على بعض الأعمال الروائية بالتاريخية والنفسية والفلسفية…إلخ يمكننا أن ندرك مقدار أثر الهندسة المعمارية على (صنعائي)فذلك الكم من المعرفة المعمارية التي قدمتها الرواية ممزوجة بالموروث الإنساني لهذه المدينة الفريدة.جعلتها رواية مختلفة عما سبقها. وثقت الكاتبة في روايتها الكثير من المفردات المحكية الخاصة بحياة مجتمع صنعاء العتيقة..ولم تخصص هامشا لمعانيها.. ما أعطى القارئ فسحة من الخيال والبحث. وقد تجاوزت تلك المفردات المائة مفردة تكاد بعضها غير متداولة الآن بين سكان صنعاء. استخدمت الكاتبة في سرد روايتها أكثر من راو: صباح.. حميد.. ثم أتت بأصوات أخرى مثل غمدان حين يحكي لصباح حكايته وحكاية أسرته وبعض الأحداث.. وكذلك حورية وعبده سعيد إضافة إلى تلك الوثائق التي كتبها والد صباح. ما جعل النص أكثر صدقا ومرونة.. ليعطي القارئ مساحة من المشاركة لشخصيات الرواية. قدرة الكاتبة على قيادة دفة الحكي وترابطه رغم تداخل الأحداث وتعدد الشخصيات من: صباح إلى حميد وغمدان.. تقية.. حظية.. أمينة.. حورية.. حسن.. نور.. هبة.. حليمة.. مسرة.. نصر.. رأفت.. عبدة سعيد.. إلخ تلك الشخصيات. استخدمت الكاتبة شخصيتين غير تقليديتين كخلفية لمجمل أحداث الرواية(صنعاء) العتيقة و(والد صباح) اللذان ظلا مهيمنين على أجواء الرواية حتى آخر صفحة. لم تكتفى الكاتبة بنسق المحور الأوحد بل أن القارئ يدرك من الصفحات الأولى للرواية بأنه يلج إلى عوالم متعددة استطاعت أن تجمع تنافرها باقتدار. فمن القاهرة إلى صنعاء. ومن حياة صنعاء العتيقة إلى أحداث الثورة اليمنية.. ثم حصار السبعين .. إلى استعراض أحداث مؤثرة من تاريخنا الحديث. إلى الحياة الاجتماعية ودهاليز السياسة… إلخ تلك العوالم المبهرة. إضافة إلى امتلاك الكاتبة مقدرة الانتقال بشخصياتها من مشهد إلى آخر.. بالتقديم والتأخير تارة..وتارة الانتقال من مكان إلى آخر في نفس الزمن.

ثراء المعلومات المؤثثة للرواية دليل ثقافة الكاتبة عن التاريخ المعاصر وتلك الشخصيات الصانعة لتلك الأحداث.. استدعاء التاريخ لتقديم بما يدعم مسيرة الفكرة نحو الصعود للغاية. تقديم الرواية بأسلوب الحكايات المتتالية: فتلك حكاية صباح وأسرتها. وذلك حميد وحكاياته مع موروث والده في عشق النساء .. إلى حكايات زملاء الثورة.. وتلك حكاية حورية وأخرى حكاية غمدان الصبري.. ورابعة حكاية العم عبدة سعيد.. وهكذا نجد الكاتبة تحيك لنا حكايات في غاية البراعة . وهنا أستطيع القول أن نادية تجاوزت أعمالها السابقة.. التي استمدت أفكارها من سيرة حياتها. بل ومن الناحية الفنية أتت متجاوزة للكثير من الروايات اليمنية. لا اعرف أن كانت قد خططت مسبقا أن تقدم لنا شخصيات تشترك في الكثير من روح الرواية. عشقهم لصنعاء.. جلهم من أسر ثورية.. يتحدثون بلغة معرفية واحدة. أبناء مناضلين وذلك ماقدم صنعاء العتيقة بشكل فريد.. وجعلها تهيمن على حساب شخصيات الرواية عدى صباح الفنانة. تعدد المحاور التي عالجتها الكاتبة في روايتها : المولد.. شهداء الثورة..أسر الشهداء.. الصراع بين الثقافات..الفساد وسرقة الثورة.. الجوانب الاجتماعية لإيقاع حياة صنعاء. الجوانب الفنية في تكوين صنعاء العتيقة.. البعد التاريخي… إلخ تلك القضايا التي عالجتها الرواية. وهنا فليسمح لي القارئ أن أركز على ملمح فني من عدة ملامح لهذه الرواية..ويتمثل في قدرة الكاتبة على خلق ومضات متتالية من التشويق.. لتجعلنا نتابع صراعها مع التقريرية منذ بداية الرواية.. وحتى نهايتها. وبذلك لتتغلب بتلك الحيلة على جفاف السرد الذي فرض لطبيعة اختيار المكان كشخصية محورية للرواية .وانشغال الكاتبة بالفكرة (عشق صنعاء العتيقة). أولاها تلك الومضات: موت الأب وعودة الأسرة من القاهرة.. ذلك الحدث المركزي الذي نسجت الكاتبة بقية أحداث الرواية التالية متكئة على تلك الشخصية الغائبة الحاضرة. الذي أدفع بتبرعم الأسئلة في عقل القارئ عمن يكون ذلك الشخص المتوفي¿ ولماذا غادر صنعاء واختار المنفى لما يقرب من ثلاثين عاماٍ¿ لتنسج الكاتبة حكايات روايتها المتعددة مستدعية جلساتها مع والدها.. حكايات أمها وجدتيها مسرة وحليمة في القاهرة.ولم يمت الأب روائيا بل أستمر حتى الصفحات الأخرى. رجل المقبرة الذي ظهر أثناء دخول جنازة الوالد هائما بنظراته وبهيئته الغريبة.. تلك الشخصية التي ظهرت في الصفحة العاشرة من الرواية لشد القارئ محملا نفسه مزيدا من الأسئلة والتشويق. ليظهر مرة أخرى في حكاية (غمدان) الصفحة 222 أثناء سرد حكايته وحكاية زمالة والده لولدها.وكذلك بعض أحداث الثورة وحياته الخاصة. ومن إحدى الومضات الفنية ..رفض والدة صباح بعد عودتهم من القاهرة السكن في صنعاء العتيقة ص 22 ما يجعل القارئ يبحث عن غموض رفضها. إلا أن ذلك الرفض يظل دون معنا حين تنهي الرواية دون أن تتعرض الكاتبة لأسباب ذلك الرفض. ظهور (حميد) لأول مرة ص 27 عند زيارته لمرسمها في صنعاء العتيقة.. وإعجابها به كرجل صنعاني يشاركها عشق صنعاء وتلك النظرات المتبادلة .. ثم تعدد اللقاءات..والتعبير عن الأحاسيس.ما يجعل القارئ يتوقع قصة غرام متشوقة يسعى لمعرفة تطوراتها.. لتتالى الأحداث وتتعانق المشاعر بينهما.. بين ثقافتين.. وتنتهي بصراع وقطيعة بعد أحداث مثيرة. حينها يعيش القارئ قصة عاطفية مضطربة .. ليجد نفسه يتعاطف مع شخصيات تلك الحكايات من عشيقات حميد إلى عشيقات والده.. ومن قصص جانبية استدعتها الكاتب لتزيد من تشويق وسؤال القارئ(وماذا بعد¿) ظهور امرأة الستارة ص98 أثناء زيارتها لمرسم صباح..ما أثارها بنظراتها الغامضة وتأملها لبورتريهات وجه حميد المعلقة في المرسم. لتبذر في عقل القارئ عدة استنتاجات.. دافعة بالقارئ لمواصلة القراءة بحث عن أجوبة.. حتى الصفحة246 حين تظهر امرأة الستارة من جديد .. تحكي لصباح علاقتها بحميد لتكتشف بأنها (حورية) العشيقة المفضلة لحميد والذي أخفى حكايتها معها. ظهور مجنونة الفجر ص 126 أثناء تجوال حميد وصباح في أزقة صنعاء وتعليقاتها المثيرة عليهما.. إلا أن الكاتبة أهملت تلك الشخصية ولم يعد لها ذكر.

بطاقة دعوة من دار الرئاسة ص164 أثارت العديد من التساؤلات حول دعوة أبناء المرحوم المناضل جبران علي والد صباح المتوفي.. ما أثار في نفسها عدة أسئلة حول مفردة مناضل المدونة أمام اسم والدها.. لتزور في اليوم التالي المتحف الحربي وهناك ترى صورا للمناضلين بينهم والدها.. لتتقد جذوة الأسئلة .. ملحة على والدتها عمن يكون أبوها ولماذا هاجر خارج اليمن¿ ظهور شخصية رجل المتحف ص182 ما أثار المزيد من الإثارة بنظراته ومتابعته لتحركات صباح.. ثم زيارته لها في مرسمها ص 204وتقديم نفسه إليها كابن أحد شهداء الثورة (غمدان) لتدرك بأنه قد يمتلك معلومات عن والدها.. وبالفعل يحكي لها عن صداقة وزمالة والده لوالده.. ساردا حكايته وحكاية العم عبده سعيد.. ذلك الشخص الغامض الذي كان يحوم في المقبرة أثناء مواراة جثمان والدها ليخبرها بأنه أحد رفقاء السلاح..وقد أصيب بالجنون نتيجة لتعذيبه بأحد السجون. تلك ومضات فنية تميزت بها (صنعائي) ولفتت انتباهي كقارئ أحببت أن أرصدها. ثم تأتي الخاتمة بإلحاح صباح على أمها أن تحكي أسباب هجرة والدها من صنعاء إلى القاهرة وبقائهم هناك لما يقرب من ثلاثين عاما.. لينهار صمتها.. تسلمها ملف من الأوراق .. قرأت فيه ما أجاب على بعض أسئلتها. وهنا يجد القارئ تلك الأجوبة على نقاط الإثارة التي حبكتها الكاتبة بفنيات عالية حول عدة شخصيات شابها الغموض.. من مناضلي الثورة اليمنية.. وحول تلك الدسائس التي حكيت لتصفية من كانوا سببا في دحر المرتزقة والقوى المضادة للجمهورية.. مسلطة الضوء على أدق تفاصيل حصار السبعين يوما لصنعاء وانتصار الثورة ثم مواجهات أغسطس 1968 بين جيش الثورة وما أعقبها من عودة المنتفعين والمتسلقين لتحويل مسار الثورة اليمنية.. وكأن الرواية قد تنبأت لما يدور اليوم من حوارات لتعديل مسار الثورة .