الرئيسية - كــتب - قراءة في غائية فن الدمى واللعب من منظور منهج غادامير الفلسفي
قراءة في غائية فن الدمى واللعب من منظور منهج غادامير الفلسفي
الساعة 03:00 صباحاً الثورة نت../

هايل المذابي –

(اللعبة والنص ينتميان إلى نفس المنطق) هكذا يرى أشهر فلاسفة التأويل في القرن العشرين “هانس غيورغ غادامير (Hans-Georg Gadamer) في كتابه ” الحقيقة والمنهج” والذي يعالج المحاور الكبرى بتأويل جديد والتي تتمثل في الفن واللغة والتاريخ وهو يميز في نوعين من الفهم في كتابه الرئيس هذا : الفهم الجوهري والفهم القصدي ولأجل أن نفهم طبيعة فن مسرح الدمى فيجب أن نفهم مفهوم اللعبة لدى غادامير . إذا اتفقنا أن الدمية هي مجرد لعبة وأن النص أو الأثر الفني يستوجب إيصال رسالة إلى ذهن المتلقي فإن الدمية عندما يتم تحريكها على المسرح تتساوى مع أي أثر فني!!! عندما ميز غادامير الفهم إلى قصدي وجوهري كان هذا التمييز يفصل بين فهم أن الكميتين المساويتين لكمية ثالثة متساويتان وبين فهم الدوافع والأسباب التي تدفع الفرد إلى التعبير عن خاصية التساوي هذه. فالقصدي هو للمؤلف وما يعنيه والجوهري هو للحقيقة. فالفهم هو إدراك المعطيات النفسية والفردية والتاريخية التي ينطوي عليها التصريح بقضية معينة مقابل فهم ماهية هذا التصريح أو الفعل أو السلوك في حد ذاته. فما نفهمه ليس هو حقيقة أو دلالة التصريح وإنما الحيثيات والملابسات (ربما المعقدة والمتشعبة) التي سمحت في ظرف خاص وضمن سياق معطى للفرد أن يصرح عن أمر معين. فالفهم القصدي هو وسيلة استراتيجية يستعان بها في اللحظة التي يخفق فيها الفهم الجوهري في إدراك حقيقة ماº ويؤطره التساؤل التالي: ماذا كان يقصده هذا الفرد بالذات¿ (ماكس فيبر يتحدث هو الآخر عن الفهم التنسيقي وهو فهم دلالة العبارة أو السلوك والفهم السياقي وهو إدراك السياق الذي قيلت فيه العبارة وبوشر فيه السلوك) أليس هذا أيضاٍ ما تحققه الدمى في عالم المسرح !!!. ولتوضيح فكرة الفهم (الجوهري/القصدي) يلجأ غادامير إلى تجربة الفن كتجربة تتجلى فيها حقيقة الفهم في فهم حقيقة الآثار الفنية على ضوء المقاصد والأطر الفردية والاجتماعية والتاريخية الداخلة في تشكيلها كجملة شروط معقدة ومتعددة الأبعاد. فالأثر الفني يدخل في سياقه الاهتمامات الخاصة للأفراد ليحتويها بحذافيرها مثله مثل استراتيجية اللعبة التي تستغرق المهتمين بها وتنسج حولهم عالما جديدا بمعزل عن انشغالاتهم اليومية في حياتهم الخاصة بحيث تصبح اللعبة أو التجربة الفنية كحلم يجتث الأفراد من واقعهم وتجاربهم المعاشة ويدخلهم في متاهات عالم استغرابي تماماٍ مثلما تفعل الدمى والعرائس عندما تأخذ المتلقي إلى عالم آخر ينتمي إليه في الغاية لكنه غريب عنه في الشكل والمبنى ما يجعل انجذابه إليه وإلى غاياته ضرورة حتمية لأنه مخالف للمألوف الممل وقيمه سامية وهو ما يذهب إليه شيلر في نقده لغرائبية اللعبة. يستغرق الوعي إذن في لحظات عالم غريب عن انشغالاته وهمومه ولكنه يتكيف مع قواعده ومعاييره ومقتضياته الخاصة. يتمتع الأثر الفني (اللعبة والنص ينتميان إلى نفس المنطق) إذن بسلطة سحرية تخضع الأفراد إلى نظامها المعياري. لا يصبح الأثر الفني إذن وهما أو خداعا وإنما تقييما وإعادة تأسيس حياة الفرد لأن هذا التواصل بين عالم الآثار الفنية وبين عالمه المعاش يكسبه أنماطا جديدة من الرؤية والتدبير. من جانب آخر عندما يستغرق الأفراد في الأثر الفني بما فيه الدمى فإنهم لا يقفون موقف المتفرج والمنفعل لأن وجودهم الفعلي أمام الأثر الفني يكسب هذا الأخير بدوره حقيقة وجوده وسلطته المعيارية. فعلاقة الفرد بالأثر الفني هي علاقة المشاركة (participation). قد يستقل الأثر الفني عن الأفراد ليؤكد وجوده الخاص دونهم كما هو حال التميز لدى فناني الدمى والمشتغلين بها (لكنه يرتد من هذا المنظور إلى مجرد لوحة أو تمثال أو معمار مادي يخلو من حيوية التأثير وإثارة الإعجاب في نفوس الأفراد) ولكن سرعان مايتحقق المغزى وتتحقق الغاية عندما تؤدي تلك الدمى مهمتها على خشبة المسرح . وكما يقول غادامير وجد الكتاب للقراءة ووجدت القطعة الموسيقية للسماع. كما وجدت الدمية للتسلية واللعب. فالعلة الغائية هي شرط ضروري للوجود الفعلي للأثر الفني الذي يتمثله الأفراد. تنشأ إذن حلقة شرطية تمنح للأفراد سلطة تقييم وإضفاء المعنى على الأثر الفني مثلما نضفي القيم النبيلة على الدمى حين تحريكها وهو ما لا يتعارض مع العلة الغائية من وجودها فتمنح للأثر الفني سلطة إشراك الأفراد ضمن حقيقته المعيارية وكشفه عن حقيقة يعيها الأفراد. يتجاوز غادامير بذلك الفهم القصدي لتصبح قراءة الآثار الفنية والنصوص لا تنصب فقط على رؤى ومقاصد المؤلف وإنما أيضا تقيم الأثر من خلال قدرته المعيارية ودوافعه التي تحفز الأفراد على إبداع أنماط حياتية جديدة ولاشيء برأيي يستطيع فعل ذلك مثلما تفعل اللعبة (الدمى) لأنها غريبة أولاٍ وتقدم لنا القيم بعيداٍ عن القوالب الروتينية المملة ما يجعل هناك انفتاحاٍ حيوياٍ عليها . عكس شلايرماخر وبيتي ينتقل غادامير من المنهج إلى الحقيقة لأن علاقة القارئ بالأثر الفني أو الأدبي أو الفلسفي هي علاقته بالحقيقة كانفتاح وانكشاف بالمفهوم الذي يمنحه هيدغر لكلمة aletheia الإغريقية (تعني الحقيقة كانفتاح وكشف): “فهم الأثر الفني هو فهم حقيقته”. غير أن هذه الحقيقة لا تنفك عن نمط التجارب المعاشة والممارسة. لا يتعلق الأمر بحقيقة متعالية عابرة للحظات التاريخية وإنما بحقيقة محايثة لمنطق التجارب والمقاصد والتصورات. انخراط الحقيقة في التجربة هو اعتبار الفهم كسماع شاعري لما يمكن أن يقوله الأثر أو النص في سياق لحظتنا الراهنة. فعلاقتنا به هي علاقتنا بذواتنا. فهو لنا كالمرآة نرى عبره واقعنا وراهنيتنا. يتعلق الأمر بانصهار آفاق المعنى الذي نستخلصه من فهمنا للنص وعلاقة هذا المعنى بوضعيتنا الراهنة: جدلية العلاقة التي تتأسس بين المعنى المنتج والسياق المستهلك.