الرئيسية - كــتب - (تباريح وأمكنة) لحاتم علي ..إغلاق الأبواب في وجه الوجوم
(تباريح وأمكنة) لحاتم علي ..إغلاق الأبواب في وجه الوجوم
الساعة 03:00 صباحاً الثورة نت../

((فلاح أنت تعيد غربلة التراب في حقل المهج.. تغازل الشمس وتنتظر الفجر القادم… روحك العطرة تحضرني حتى الآن.. أنت إذن توصد الأبواب أمام الوجوم لتبعث محياك ليوم قادم)).. جاء هذا في أولى عتبات الكتاب.. الإهداء الذي قدم به حاتم علي كتابه (تباريح وأمكنة) إلى أبيه.. لكننا حين نغوص في عوالم الكتاب نشعر أن المؤلف إنما كان يصف نفسه ويتحدث عنها في ذلك الإهداء الموجه إلى أبيه.. ينقسم الكتاب إلى ثلاثة محاور… لكل منها استراتيجية وإن كان القاسم المشترك بينها جميعاٍ حلاوة اللغة ورهافة روحها وعاطفتها.. يحتوي المحور الأول من الكتاب عشرات من النصوص الشذرية التي تتجاور مع نصوص أخرى وامضة إضافة إلى قليل من النصوص التي يمكن توصيفها بـ (لوحات النجوى) التي تأخذ شكل الرسائل موجهة إلى (الأم والجد والأب) على سبيل المثال.. يأخذ هذا المحور (56) صفحة من مساحة الكتاب.. وتتوالى فيه الشذرات التي تنداح على هيئة تأملات وأفكار وآراء ونفثات روحية ونفسية وعاطفية على هذا النحو:

قمر تشظت المرايا في غرفته لتتوزع معها أفكاره نظر عالياٍ إليه حسبه ملهمه.. ليدرك القيمة الكونية من وجوده مفسراٍ ذلك أن الأقمار عندما تضيء في السماء.. تضاء معها الأفئدة في الأرض.. (ص 12).

استفهام كانت شرطية أن يفهم دلالتها من يقطنون ذلك المكان.. بيد أنها أضحت في عجاف سنيننا ثكلى.. نبتت في ضلوع القادمين.. ليتبدى لهم سوء فهم مكانها في الأسطر ومعانيها في الحياة (ص18). وتحضر في تلك الشذرات والومضات أشواق الثوار وآمالهم وهتافاتهم وخيباتهم.. صيحات انتصاراتهم وأنات وجعهم.. كما تحضر العديد من المفردات التي تحولت خلال العشرين شهراٍ الماضية إلى أيقونات محورية في حياتنا.. وهي مفردات تصير في النصوص بؤراٍ متعددة الدلالات كالمنصة التي تتناولها النصوص الشذرية.. مرة بوصفها رمزاٍ لاستعلاء الثائرين على الاهتزاء والتردي والقهر.. ومرة بوصفها من وجهة النظر المقابلة رمزاٍ للوهم كما في النص (من على المنصة) ص25.. و(بعيداٍ عن المنصة) ص 21.. كذلك الخيام ص28 مثلاٍ.. التي صارت رديفاٍ للسكن الذي يلد الحرية.. ويلون الغد بأشواقه: (قريباٍ سيسأل عن عمره¿ وعن اسمه¿ وأين السكن. نعم فقد تشكل لون الغد وولدت الحرية من مخاضها العسير).. ((بداخلها الفضيلة تتوسد الحب تهادى اليقين وتفوق في أحايين الخيال كيف لا والخيمة نفضت عن كاهلها رواسب المحن وتبوأت في قسماتها مستقبلاٍ وكونت حقيقة الإصرار الأكثر بروزاٍ)). كذلك صور الزعماء تأخذ نصيبها مانحة دلالات تتراوح بين المقت والسخرية وتأمل المصائر ومفارقات مآلاتها كما في نص (صورة ص 34).. في خضم تلك النصوص الشذرية احتفى الكاتب بعديد الأسماء لأدباء وصوفية وحكام من التاريخ العربي أمثال: المقنع الكندي عبد الله بن المقفع أمية بن أبي الصلت قيس بن الملوح معاوية بن أي سفيان عمر بن الخطاب طرفة بن العبد عبد الله بن أبي سيف بن ذي يزن رابعة العدوية.. ويلفتنا رغم عمومية المنحى العاطفي الرومانسي المؤمن –أقصد هنا الإيمان بمعناه الديني- للكتاب عامة أنه لا يخلو من حس.. بل من وعي ينطوي على تمرد مثير.. تمرد يمجد الرفض أياٍ كان موقع الرافض وكيفما كانت منطلقاته.. فهاهي شذرة عاطفية رومانسية اللغة تقترب من الشاعر أمية بن أبي الصلت لتقول له: ((وحدك من استهل حياته بالتلاعب بالألفاظ ووحدك أيضاٍ من جسد الرأي الآخر.. ورغم اختلاف مفرداتنا معك لا تزال الأجدر في بداية الصف.. من روض المستحيل وتفسر عملياٍ مرادفات قولنا: كلا لن أذهب معك)) ص 19.. إلى جانب تلك الملامح في محور الكتاب الأول فثمة فضاء واسع للمفارقة خاصة في النصوص الوامضة وهي النصوص الأكثر كثافة وقصراٍ.. كنص مطر مثلاٍ: ((حطت قطرة رحالها في سعة الكون.. سالت الأودية وجفت القلوب)) ص 33.. وكما في الومضات (باب) و (فزاعة) ص 12.. و(ناس) ص 54.. في المحور الثاني من الكتاب (أفياء ورسائل) يقدم حاتم علي ستة عشر وجهاٍ لمبدعين سياسيين وإعلاميين وأصدقاء تربطهم به.. علاقات وصلات خاصة.. بعض تلك النصوص حاول من خلاله رسم ما يمكن وصفه بـ(بورتريهات الفضائل النفسية) إذ تتحدث تلك النصوص بتجريد بالغ عن مزايا نفسية كتبتها عيون الرضا والإعجاب.. وهي نصوص لا تحاول قراءة الشخصيات التي تتموضعها أو تتغيا مقاربة أو تفكيك مكوناتها وعوالمها ولكنها بدلاٍ من ذلك تقدم شعور الكاتب بها انطلاقاٍ من حب وتقدير صادقين.. -وأنا هنا لا أعيب منحاه- ولكنني أحاول مقاربته وإن بشكل متعجل عابر.. غير أن هذا لا ينطبق على كل نصوص هذا القسم فهناك نصوص كتلك التي وجهها للإعلامية مها البريهي أو زميليه هلال عبد الله ومطيع ناصر والشاعر حسن عبد الوارث تستفيد في محاولة رسم فضائل وصفات شخوصها النبيلة من نصوص تلك الشخصيات.. حيث تتحول نصوصهم إلى روافع للغته الرومانسية المجنحة.. وهي تتلمس التحليق في سماواتهم.. لكن أطرف نصوص هذا المحور جميعاٍ ذلك النص الموجه للإذاعية سامية العنسي… فقد استعان الكاتب لتقريب إحساسه برهافة أدائها وخصوصيته بنص لامرأة أخرى هي هدى أبلان: ((أنت ترفلين هناك حيثما الكبرياء تجلت وسخاء الروح نمت في غصن ابتهاجك.. هذه الإطلالة التي ذابت في عصارتها هدى أبلان حيث حلقت بقولها: اتكأت على قلبه كان جداراٍ ماءٍ وياسمين واقفاٍ على حافة الحلم ومشارف أغنية لذلك فقد كانت تلك الأغنية الرائعة في تقاسيم حياتنا يمتحي بعبورك الأثيري أدران علقت في حياتنا لتزيلها إطلالتك وتطفئ لظى الروح وبؤس حاضر أيامنا)) ص75.. أما المحور الأخير الموسوم بـ(ألوان وأطياف) فهو أوسع محاور الكتاب مساحة ويضم هذا المحور (33) نصاٍ تتمدد على مساحة (70) صفحة.. وتتسم هذه النصوص بكونها أكثر ميلاٍ إلى السرد.. كما أنها تتضوع بحس نوستالجي واضح.. ثمة حنين دافق لوجوه وأمكنة وذكريات وعادات وقيم تتلاشى بفعل تبدلات الحياة والأوضاع الاجتماعية والاقتصادية.. وضغوط الواقع وعسر الظروف وسوء الفهم في أحايين كثيرة.. والكاتب يلامس في ميوله السردية.. تلك تقاليد القص بشكل طفيف… بسبب هيام لغته بالإشارة وميلها الغالب للتجريد.. إلا أنه بالرغم من ذلك يحرص بوضوح على إدانة سوء فهم الناس غالباٍ لمسألة التطور.. خاصة في مرحلة ما عرفتها الأرياف بالذات.. أقصد مرحلة الطفرة النفطية الأولى.. حين كان سوء فهم الكثير من المغتربين لتبدل أوضاعهم الاقتصادية.. يقودهم بسهولة تبعث على السخرية.. ليس إلى محاولة تعويض المكابدين للفراق من زوجات وأبناء وأمهات وآباء عن أيام الفقد.. بل إلى ازدراء أوضاعهم والتعالي على أحوالهم.. واتخاذ عدم الرضا عن تلك الأوضاع مبرراٍ للتخلي عن زوجات محبات طالما أوجع الإنتظار أوقاتهن.. وإهمال أبناء تفتحت عيونهم وهي تقتات الشوق لآباء لم يشعروا بهم ولن يشعروا كما صورت ذلك لوحته الجميلة (وفاء.. وأساور من ضوء الشمس) ص 105 وما بعدها.. أخيراٍ نحن أمام جهد كان للشعر نصيب وافر في لغته ومضامينه حتى ليصدق عليه من حيث ماهية نصوصه ما جاء في شذرة بعنوان (قصيدة ص 22): ((اعتبرها الأقدمون لغة حانية تختصر الزمن وعدها القادمون من زمن الويلات بوتقة حياة وشكلها المبدعون لوناٍ لإبداعاتهم لكنها –ترفل بعيدة في الذات- محلقة في آفاق العمر تغازل زوايا الأمكنة))..