الرئيسية - كــتب - “مكاشفات الصورة في اللوحة والكاريكاتير ” .. الفن في عمق الهم العربي
“مكاشفات الصورة في اللوحة والكاريكاتير ” .. الفن في عمق الهم العربي
الساعة 03:00 صباحاً الثورة نت../

في كتابه “مكاشفات الصورة في اللوحة والكاريكاتير ” يبحث الدكتور نزار شقرون ملياٍ في العلاقة بين الفن والعوامل الأخرى المؤثرة في رسالته والمتأثرة به في ذات الوقت كالحرب التي بدأت تأخذ مكانة متصاعدة في أعمال الفنانين العرب والعالميين.. ويتحدث الدكتور نزار شقرون عن غياب الفنان التشكيلي العربي في الغالب من خلال أعماله عن الهموم والقضايا المركزية للشعوب العربية قائلا أن “التشكيلي العربي يبدو متجانساٍ مع النتاج الغربي في صوِريته وتقنياته بينما هو فقير روحيا إلى نبض الشارع العربي على الرغم من أن الفن الغربي ليس غير تشكيل لتوتر الإنسان الغربي لميوله واشتراطاته ومغامرته في الوجودº فأين هي اللوحة العربية التي تنتسب إلى الخارطة العربية دون أن تتنكر للخصوصية الفنية ولتشكيليتها¿ أين حراك هذا الواقع في المنتج التشكيلي العربي¿ هل عجزت كل المآسي العربية عن تطعيم اللوحة بموضوعات وأساليب فنية عربية مخصوصة¿ أليست حركة الفن مهما كان موقفنا النخبوي رهاناٍ متجدداٍ لحركة بيئتنا¿ “. وعن هذا الغياب الصارخ مقابل الحضور البارز للقلم يضيف الدكتور نزار “لقد استطاع الشاعر محمود درويش أن يحول القضية الفلسطينية إلى قصيدة حيةº أي استطاع منح الحدث خلوده الفني والحضاري كما استطاع الشاعر نزار قباني أن يجعل من قضية المرأة العربية صوتاٍ مضيئاٍ في كل بيت دون أن يخون الشاعر قصيدته ولكن لم تستطع اللوحة العربية أن تستوعب الأحداث أو أن تتحول إلى ذاكرة بصرية. لماذا نجح الشعر فيما فشلت اللوحة¿ لأننا لا ننتمي جوهرياٍ إلى مجتمعات الصورة¿ “. غير أن الدكتور نزار شقرون لايغفل دور بعض النماذج المضيئة التي حملت على عاتقها القضايا العربية حيث سعى الفنـانون الفلسطينيون و العراقيون إلى تمـثيل الوجع الإنساني في فلسطـين والعراق ومداهمة الحدث برسم لوحات تستوعب المآسي العربية الممتدة كما يقول الدكتور نزار الذي تحدث عن تجربة عربية رائدة في مجال النضال بالريشة وهي تجربة الفنان الفلسطيني ناجي العلي الذي نجحت لوحاته الكاريكاتورية في” أن تدخل حياتنا البصرية حتى أصبح “حنظلة” رمزاٍ للحنظل العربي غير أن الدكتور نزار يضيف مستدركا أن اغتيال ناجي كان بمثابة اغتيال الصورة و ربما لم تنجح اللوحة المسندية العربية فيما نجح الكاريكاتور أيضا. في خضم هذا الوضع تطرح أسئلة كثيرة عن مدى دخول “الحرب” كوقائع وسياقات ونتائج إلى تاريخ الفن لدى العرب”. وعن تاريخ الارتباط بين الفن والحرب في العصر الحديث يتحدث الدكتور نزار شقرون عن سعى بعض الرسامين في مطلع القرن العشرين إلى تصوير وضع الحرب بين المعسكرين الدينيين في شكل المنمنمة كما هو الحال في رسم الفنان محمد راسم لـ”معركة بحرية بين الأسطول الإسلامي والأسطول المسيحي”.. ويرى الدكتور شقرون في هذا السياق أن اللوحة العربية باتت تبحث “عن ممكنات تواصل مع المرجع الواقعي عن التجذر في زمنيتها دون أن تتطابق مع الحدث فتكون منتسبة بدورها إلى الرسم التاريخي” ..غير أن الدكتور شقرون يتساءل في ذات الوقت:” مِنú من الفنانين استطاع أن يْدخل إلى حافظتنا البصرية لوحة واحدةº فجعل منها رمزاٍ لنكسة أو لهزيمة بل لهزائم متكررة أو لعذاب إنساني طويل الأمد¿ ورغم أن مداد الدم يفيض أكثر مما تفيض أنهارنا فإن لوحتنا العربية تكره رائحة الدم ورغم أن الجسد العربي موشوم بالعذاب فإن لوحتنا تستنكف من تمثيله كما هو بدعوى الخوف من السقوط في “الالتزام في الفن”º لأن ذلك لم يعد يتطابق مع شروط الفن المعاصر أو بدعوى أن الفنان العربي يتجه صوب المنزع الإنساني وهو كائن عولمي فلا يعقل أن يحول من مجزرة صبرا وشاتيلا مثلا عملاٍ فنياٍ. و لا يعني ذلك أن البعض لم يحاول تجسيد هذا الحدث الأليم في عمله الفني لكنه لم ينجح في صياغة صدقية الغرض بأسلوب فني جذاب ولم ينجح أحد في إدخال لوحته إلى صندوقنا الأسود فمازلنا بعيدين عن تأريخ حياتنا بواسطة لوحاتنا أي أن الصورة في تمثلاتها التشكيلية مازالت بكراٍ في مجالنا الثقافي”. وعن غياب الفنان العربي عن معاناة أمته يتحدث الدكتور نزار شقرون عن الدور البارز الذي لعبه الفنان التشكيلي الغربي في تجسيد معاناة أمته كما هو الحال مع لوحة (الغرنيكا) لبيكاسو ويقول الدكتور شقرون في ذلك :” حين نحرص على الإشارة إلى ويلات الحرب لا نجد غير “الغرنيكا” تنقذنا فهي أشد إيغالاٍ في ذاكرتنا من أي شيء و لا ندري أكنا نفتقر إلى مئات “الغرنيكات” العربية حتى نعجز عن تمثيل الألم والمعاناة للإنسان العربي. لقد انطلق بابلو بيكاسو في لوحته “الغرنيكا” من حادثة قصف القرية الإسبانية الصغيرة سنة 1937 ليشخص بربرية الأنظمة الشمولية فكانت اللوحة في بعد ساطع من أبعادها ذات خلفية تحريضية ودعائية ضد الحرب وفي بعد عميق استجماع للمكونات الرمزية الإسبانية والغربية عموماٍ.. حين نعود إلى “الغرنيكا” فيعني ذلك أننا نرى آلامنا بصورة الآخر ندخل حجرتنا السوداء من نافذة الآخر بدل أن ندخلها من نوافذنا الخاصة نقيس آلامنا بسرد الآخر لآلامه وحتى حين ننقد تجربة فنية عربية أو نعلق عليها انتظارات استلهام مآسينا فإننا نقارنها بما توصل إليه الآخر وينطبق هذا الاستنتاج على ما ذكره الناقد قاسم حسين صالح في مقارنته بين الفنان جواد سليم وبيكاسو قائلاٍ: “إن ما يؤاخذ عليه جواد هو أنه لم يسجل مأساة فلسطين بعمل فني يجتمع فيه التفرد والشمول كما فعل بيكاسو في “الجرنيكا” التي منحها هوية خاصة وشمولية مطلقة” وقد نتفهم هذا التوجه في مقاربة اللوحة العربية وفي انتظارات النقاد منها حيث ندرك أن الفنان الغربي لم ينجح في عرض آلامه فحسب بل إنه نجح في توظيف مآسينا أيضاٍ وكأنه يملأ المكان الشاغر في مشهدية الفن العربي بجرأة كبيرة وذاك ما نتبينه في أعمال الفنان الكولومبي فرناندو بوتيرو(1932) الذي انشغل برسم أحداث تعذيب المساجين العراقيين في سجن أبو غريب فأكد بأن اهتمامه بهذه الوقائع ليس بدافع طلبية ما وإنما لأنه استشعر ضرورة أن يرسم هذه الوقائع بطريقة الفنان وبأسلوبه الخاص. فقد عاد بوتيرو إلى المرجع الواقعي ودرسه بعد أن ُتمعن فيما كتب عن الحادثة وشاهد الصور الحقيقية إلى أن تفطن إلى طريقة ما في معالجته للواقعة جاعلاٍ منها حدثاٍ إنسانياٍ شاملاٍ فهل يمكن للفنان العربي أن يتجاسر على ذلك ويبدع في صلب قضاياه.”. أوجاع عربية: ويصل الدكتور نزار شقرون للحديث عن الوجع الفلسطيني ودور الفن التشكيلي في تلمس هذا الوجع من خلال نشوء حركة تشكيلية فلسطينية “حفلت بمعالجة هذا الموضوع الذي عد خبزها اليومي وتجسد ذلك في تجارب فنانين عديدين من أهمهم الفنان الراحل إسماعيل شموط (1930 – 2006م) الذي رسم صور المجاهدين أمثال الحاج أمين الحسيني وركز على موضوع المخيمات الفلسطينية التي عايشها فخبر نضال اللاجئين وتوقهم إلى العودةº فقد استمد شموط من خبرته الحياتية معاناة الشعب الفلسطيني وتخصيصاٍ الشتات الفلسطينيº فمزج بين هذا الوعي وبين موقفه الفني في تمثيل هذا الموضوع بطريقة إيضاحية مستفيداٍ من خبرته المهنية في مجال الدعاية والإعلام ولذلك انشدت تجربته الفنية في البعد التشخيصي للذات الفلسطينية فهيمن الأسلوب الواقعي الرمزي على مختلف أعماله..وامتزجت أعماله التشخيصية بمسحة تعبيرية لونتها معاناة شخصياته ذات الوجوه المقهورة ورشحت بعض الأعمال بين التعبير الواضح للوجه الفلسطيني أطفالاٍ ورجالاٍ ونساءٍ وبين تشتت هذه الوجوه في فضاء اللوحة واندغامها في بعضها البعض مشكلة نوعاٍ من الوحدة التصويرية الدالة على وحدة المصير والفاجعة وفي أغلب اللوحات التي مثلت جموعاٍ من الشعب الفلسطيني انفلتت الملامح من الجمود لتعبر عن انسحاق الهوية الفلسطينية التي تؤمن بأن الأرض جزء أساسي في تكوينها”. كما أفرد الدكتور شقرون مساحة من كتابه للحديث عن دور الوجع العراقي في تحول الفن التشكيلي العراقي حيث يقول في ذلك:” واجه الفنان العراقي حروباٍ مختلفة في فترة زمنية قصيرة فمن حرب الخليج الأولى إلى حرب الخليج الثانية ومنهما إلى حرب 2003 التي أدت إلى سقوط بغداد تحت الاحتلال الأمريكي البريطاني. في هذه الحروب الحالكة نشط الفنان العراقي..ويضيف الدكتور شقرون قائلا:” اتخذ تمثيل “الحرب” أشكالاٍ عديدة فهي في تخطيطات الفنان علاء بشير مباشرة ودعائية وتستند على الخطاب اللغوي من خلال استخدام جمل واضحة الدلالة ومتصلة بالتزام الفنان بانتمائه لوطنه وبتحريضه على المقاومة أثناء الحرب العراقية – الإيرانية وفيها استدعاء للتراث الرافدي ورمزيته لبيان امتداد الإرادة والتصميم على الانتصار. وعن أعمال فناني المنفى يقول الدكتور شقرون أنها باتت منخرطة في الوجع العراقي الممتد.